الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقاربة حول الديموقراطية في العالم العربي

نقولا الزهر

2004 / 5 / 10
مواضيع وابحاث سياسية


منذ أكثر من ثلاثة عقود، والسلطات العربية والقوى السياسية والحزبية الموالية لها، لا تزال تنَظِّر لعدم نضج الشعوب العربية للديموقراطية، ولتأكيد مقولتها، تتذرع من جهة بعدم توفر القاعدة الاجتماعية المؤهِّلة للبناء الديموقراطي، ومن جانب آخر لتناقض الديموقراطية مع تراثنا وتقاليدنا وخصوصيتنا، وطبعاً يشارك المثقفين السلطويين في وجهة النظر هذه القسم الأكبر من الطيف السلفي الإسلامي والتيار القومي المتزمت. و يمكننا أن نضيف إلى هؤلاء (الشيوعيين السلفيين) الذين مازالوا إلى الآن، يجردون الليبرالية والديموقراطية البرجوازية من أي حسنة تذكر، ضاربين عرض الحائط بما قاله كلاسيكيو الماركسية عن ذلك التقدم التاريخي الموضوعي الذي أحدثته الثورة البرجوازية. ورغم كل الانهيارات التي حدثت في (العالم الاشتراكي السابق) لا يزال هؤلاء اليساريين السلفيين رافعين حدهم على الديموقراطية الاشتراكية.
فعبر التاريخ كان دوماً للفكر دور بارز في بلورة ونضج القاعدة الاجتماعية للديموقراطية، وهو يلعب دوراً استباقياً بالنسبة إلى كل التغيرات الاجتماعية. ففكر عصر النهضة و نقد الفكر الديني كان لهما دور هام وبارز في انتصار الرأسمالية في أوربا، ولقد قام المثقفون الديموقراطيون الإنكليز والفرنسيون والأمريكيون بدور مرموق في التهيئة للثورات الديموقراطية البرجوازية في كل من إنكلترا وهولندا وفرنسا وأمريكا، وينطبق هذا على المثقفين الديموقراطيين الروس في القرن التاسع عشر بالنسبة إلى ثورتي 1905، 1917.
فالفكر يلعب دوراً رئيساً في اكتشاف الموضوعي الاجتماعي والاقتصادي بالإضافة إلى دوره المركزي في إنضاج السياسي الذي على عاتقه مهمة تغيير الاجتماعي. وكل صيرورة اجتماعية، بدون هذا الفكري، لا يمكن إلا أن تدخل في دهاليز العفوية والقدرية والتجريبية وأوهام الحتمية، وهذا ما وقعت به معظم حركات التحرر في العالم العربي (في مصر وسوريا والعراق والجزائر واليمن والسودان وليبيا..إلخ)، وهي التي كان معولاً عليها أن تنجزَ شيئاً من التقدم في العالم العربي. فهذه الحركات بدلاً من أن تعزز إبان تجاربها السياسية فكر الإصلاح الديني، والفكر النقدي الماركسي، والفكر النقدي القومي، من خلال تكريس الديموقراطية السياسية، لعبت عبر سياسة الاستبداد الشامل والقمع المنهجي دوراً نكوصياً؛ فكانت بذلك عاملاً رئيساً في تطرف الإسلاميين، وفي تكريس تبعية الشيوعيين للفكر السوفياتي الشمولي المتحجِّر، وإلحاق القوميين أيضاً بهذا الفكرالذي كان يزداد يباساً يوماً عن يوم. فلقد اتسمت التجربة الناصرية في مصر وتجربة البعثيين في كل من سوريا والعراق، والقوميين العرب في اليمن وجبهة التحرير في الجزائر بالتجريبية التي تعتمد بشكل أساس على الممارسة السياسية المجردة من النظرية والفكر، ولقد اكتفت غالباً بفكر الفرد الملهم الذي لا يخطئ وغير القابل للنقد. ولقد سقط هذا الفكر المعادي للديموقراطية سقوطاً ذريعاً، في كل المجتمعات الشمولية حيث لا فصل بين السلطة والحزب الحاكم ولا فصل بين السلطة و الفكر في المجتمع.
ولئن كان الواقع لا يتغير بحسب مشيئة الناس، فكذلك لا يتغير الواقع من تلقاء ذاته بمعزل عن نشاطات الناس ونضالاتهم . وفي حال عدم توفر هذه النضالات فهذا الواقع يحمل في طياته قابليته للاستنقاع والتطحلب، وفي هذه البيئة تسلطن العفوية والجبرية وهذا ما نحن فيه اليوم في كل أنحاء العالم العربي. فالإسلاميون التماميون يخوضون حربهم المانوية الأزلية بين أهورمزدا وأهريمان، والشيوعيون السلفيون ينتظرون عودة الحزب الشيوعي السوفياتي ليحكم روسيا ويوزع جنانه العدنية على شعوب العالم قاطبة، وآخرون في المعارضة لم يحسموا أمورهم بعد في قضية الانعتاق من صنمية النصوص والأشخاص والانتقال إلى رحاب الفكر النقدي.
ونقول لدعاة الخصوصية المعادين في الواقع لأي لون من ألوان الديموقراطية، أن مفهوم الديموقراطية مثل أي مفهوم آخر له تمايزاته وأشكاله الخاصة الزمانية والمكانية، ولكنه يفقد خصوصيته حينما يقطع علاقاته مع العام، فكيف يمكننا أن نتكلم عن خاص ديموقراطي لا ينتمي إلى عامٍ ديموقراطي؟ وهل البرتقال يبقى برتقالاً إذا قطع انتماءه بالحمضيات؟ فالديموقراطيون الخصوصيون العرب يقفزون دفعة واحدة من فوق أرسطو والفارابي وابن رشد وهيغل وماركس وكل المناطقة الآخرين!! فأنصار الخصوصية هؤلاء يقيمون (سور شارون) بين العام الديموقراطي العالمي و(خاصهم الديموقراطي). وقمة المأساة في هذا الخاص الديموقراطي الذي يدعون إليه، أنهم لم يدخلوا في تفاصيله إلى الآن، لأنه في الواقع غير موجود لديهم. لأن في المنطق لا يوجد خاص لوحده(حاف) فكل خاص حكماً يجب أن ينتمي إلى عام. وللأسف؛ فالديموقراطيون الخصوصيون العرب لم ينشروا عامهم ولم ينشروا خاصهم فيما يتعلق بالديموقراطية.
وعلى سبيل المثال، ميثاق احترام الجسد(هابياس كوربوس) الذي أقر في عام 1679 في بريطانيا، والذي جاء ليحمي المسجونين من عسف قمع السلطات، وليحرم كل أشكال الاعتداء على الجسد من تعذيب واغتصاب وقتل، هل يمكننا اعتباره ذا خصوصية بريطانية؟ وهل هذا الميثاق لا يتفق مع التقاليد الشرقية العربية والإسلامية والروسية والصينية؟
ومن جانب آخر أين يمكن أن نضع ما جاء في القرآن الكريم ( من شاء منكم فليؤمن ..ومن شاء فليكفر...ولا إكراه في الدين) في خانة الخاص العربي الإسلامي أم في خانة العام الديموقراطي العالمي؟ وهذه المقولة القرآنية لا تتعلق بالدين فقط وإنما بالمذاهب والعقائد الفكرية والآراء السياسية والرأي الآخر بشكل عام.

فهذا العجز وهذا اليأس المصابة بهما شعوب الأمة العربية هما تتويجاً لحقبةٍ طويلة من تحريم الفكر والتفكر والتفلسف والتسيس، وحقبةٍ طويلة من تفريغ المجتمع(ازديادُ عَدَمِه)، و(إنقاص كثافتة)!!!!!
ما نحن فيه في العالم العربي، يتعلق بعدم فكر، وعدم سياسة، وعدم اقتصاد، وعدم دولة، وعدم صمود وعدم دفاع وعدم علم وعدم تكنولوجيا. و هنالك عدَماتٌ كثيرة أخرى لا تعدُّ ولا تحصى لا مجال لذكرها في مقالنا هذا...وعذراً من الماديين جداً، فالعدم ليس نقيض المادة وإنما هو جزء منها ويعيش بين جزيئاتها، وفي البنية الاجتماعية يزداد العدم وينقص ليس فقط بعلة الظروف الموضوعية، وإنما بعلة العوامل الذاتية أيضاً.وعلينا ألاّ ننسى لحظة واحدة، أن كل ذاتي يتحول إلى موضوعي. فتكريس الخرافة وإلغاء النفي والجدل وتحريم الاجتهاد وتحريم الإصلاح وتضييع المفاهيم؛ كل هذه الأمور هي من إنتاج الذات ولكنها مع الزمن تصبح من أساسيات الموضوع. فحرق كتب ابن رشد في ساحة قرطبة، وتسريبها لأوربا وتحريمها لدينا والقضاء على الفلسفة هي مثال كبير للذاتي الذي تحَول إلى موضوعي ثقيل قاتل في عالمنا العربي الإسلامي. وكذلك الأحداث التي تجري الآن في العالمين العربي والإسلامي وكذلك تفجيرات القاعدة وغير القاعدة هي حقائق مادية موضوعية شبيهة بحقيقة (نهر النيل ينبع من بحيرة فيكتوريا)، ولكنها لم تصل إلى موضوعيتها فقط بسبب السياسة الاستعمارية وأميركا وإسرائيل والرأسمالية والعولمة، فهذه العوامل تلعب دوراً هاماً في حدوثها في الواقع ولكن هنالك دور أهم يعود لحقب الاستبداد التي حرَّمت الفلسفة والفكر والاجتهاد والسياسة. من هنا إني لا أرى أي تناقض بين تحول كل ذاتي إلى موضوعي وبين المقولة القرآنية التي تقول: لايغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"؛ والآية الإنجيلية التي تقول:" لا يساعد الله الذين لا يساعدون أنفسهم؛ ويمكن أن نقول لا يتغير الواقع ولا يغير الناس حتى يغير الناس ما هو ثابت ومتحجر في بنات أفكارهم. فالظروف الموضوعية لا تتغير لوحدها حتى وإن كان النضج قد وصل إلى "لب التفاحة" كما قال لينين، فلابد من العوامل الذاتية لتقشيرها وتسييرها في الاتجاه الملائم والمتقدم وليس في الاتجاه النقيض لها.
والديموقراطية التي يراها الكثيرون من العرب الآن وسيلة للتقدم العربي، هي لا تبتسر فقط بإرادة ورغبة شعب ، وإنما تحتاج إلى فكر ومبادئ وإلى نضالات وإلى قاعدة اجتماعية. وعدم انتصار الديموقراطية في بلادنا العربية لا يمنحنا مشروعية نفي وجود القاعدة الاجتماعية الاقتصادية للديموقراطية، لأن هذه القاعدة لا ترى بالعين المجردة ولا تلمس باليد وإنما ترى وتلمس بالفكر وبالممارسة. فهذه القاعدة لا تهبط من السماء كما ينظر(المستقيلون من السياسة)، ولا تأتي عبر أحلام ديموقراطية دونكيشوتية. فبين النضال الديموقراطي والقاعدة الاجتماعية المؤهِّلة للديموقراطية هنالك جدل وتداخل..... ولقد ركز كثيراً إنجلز على أهمية النضال الديموقراطي في كتابه (نضال الفلاحين). فنضالات الفلاحين في أوربا، وبالرغم من عدم انتصارها لحقب طويلة فهي مع ذلك لعبت بتراكمها دوراً هاماً وأساسياً في تحول الإقطاعية إلى رأسمالية. وكذلك في الرأسمالية، فالقاعدة الاقتصادية فيها لم تتكرم بالديموقراطية على المجتمع الرأسمالي ولم يتكرم الرأسماليون بها على العمال، فهؤلاء والكثير من الفئات الاجتماعية الأخرى، لم يحصلوا على مكاسبهم الاجتماعية والسياسية إلا عبر نضالاتهم التاريخية الطويلة والمتراكمة والدامية، وفي الوقت الراهن نرى بأم أعيننا نضالات كل الفئات الاجتماعية المتضررة من سياسات العولمة في كل أصقاع العالم الرأسمالي.
في اعتقادنا، تتطلب المرحلة الراهنة من نخب المثقفين والمعارضين العرب على مختلف اتجاهاتهم الانتقال من ضفة الرضا عن الذات إلى ضفة نقد الذات و إدخال النصوص على مختلف أنواعها ضمن دائرة النقد.

دمشق في 6/5/2004








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البريك العنابي.. طبق شعبي من رموز مدينة عنَّابة الجزائرية |


.. بايدن يعلن عن خطة إسرائيلية في إطار المساعي الأميركية لوقف ا




.. ارتفاع حصيلة الضحايا الفلسطينيين إثر العمليات الإسرائيلية في


.. مراسل الجزيرة يرصد آخر التطورات بالمحافظة الوسطى بقطاع غزة




.. توسيع عمليات القصف الإسرائيلي على مناطق مختلفة برفح