الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صيف الصحراء:استدعاء ماضوي يمزج المدح بالبداوة

محمود عبد الرحيم

2009 / 8 / 1
الادب والفن



العلاقة بين الصيف بحرارته المعهودة ،والبحر بنسائمه المعتادة مألوفة جدا ، فجميعنا يهرب الى الشواطئ كلما تيسر، بحثا عن الاستجمام والطقس الألطف ، لكن يبدو من غير المألوف علاقة الصيف بالصحراء ، أو بالأحرى قضاء يوم صيفي في قلب الصحراء بقيظها وشمسها الحارقة وفراغها الموحش أحيانا ، والدافع على التأمل والصفاء الروحي أحيانا اخرى.
بالنسبة لي بدا الامر اقرب الى المغامرة المثيرة والتجربة الجديدة ، ما حفزني لخوض غمارها ، هربا من النمطية ، وقتلا للسأم ، وتعرفا على عالم مجهول لي ولو قليلا.
المناسبة كانت مهرجان" الأجواد للشعر والفروسية " بمطروح، تلك المحافظة النائية القابعة على الحدود المصرية الليبية .
وربما مازاد الامر تشويقا هذا المزيج الخاص جدا ، الذي يحيلك الى حقب ماضية بعيدة جدا ، حيث الشعر والفروسية صنوان ، وغالبا ما كان الشاعر العربي ، حينئذ ، فارسا هماما ، يزود عن قبيلته حين البأس ، وينشد الشعر افتخارا وتمجيدا وتدوينا للانتصارات.
من لحظة خروجي من الفندق الخاوي ، تقريبا ، من النزلاء بسبب انشغال غالبية المصريين بنتائج الثانوية العامة والتنسيق الجامعي ، اوالتحضير لرمضان بنفقاته الباهظة ، او استبعاد المسافة التي تقارب الست ساعات من قلب القاهرة ، الى عمق صحراء مطروح، كانت عينايا تجولان يمنة ويسرة ، تستكشفان هذه المساحات الشاسعة و هذا الفراغ اللا نهائي ، وسيل من المعاني والمشاعر المتضاربة يتداعي الى ذهني ، ما بين الاحساس بالبراح والتحرر من سجن المدن الاسمنتية ، كما اسماها من قبل الشاعر احمد عبد المعطي حجازي في احدى قصائده الشهيرة " اشجار الاسمنت" ، وما بين احساس الضياع والوحشة القاتلة التى احالتني الى قصة النبي ابراهيم حين اصطحب ابنه اسماعيل وزوجته هاجر الى قلب الصحراء الحجازية ، وتركهما وحدهما بلا ماء ، الى ان حدثت المعجزة ، وانبثق الماء من بين ارجل الطفل الرضيع ، حيث بئر زمزم ، بعد الهرولة المضنية للام الرؤوم ، بحثا عن سر الحياة.
ربما ، بامكان ساكني الصحراء الآن حفر آبار بسهولة ، او استجلاب المياه من المناطق الحضرية القريبة في سيارات نقل او في " فنطاس" ، لكن يبقي احساس المشقة وقسوة العيش ، مقارنة بسكنة المدن حيث المياه الجارية ، بل والمثلجة ووفرة المؤن .
يكفي ان تنظر حولك ، فلا ترى احدا لمسافة تزيد عن الكيلو مترا، فالبيوت معدودات ثلاثة او اربعة او عشرة على اقصي تقدير ، تتجاور لتشكل حيا كاملا او ما يعرف بوادي... نسبة الى القبيلة ، ولو نظرت من بعيد ستراها نقاطا مبعثرة متلاشية في الفراغ المتسع.
ومثلها مثل كل شئ في مصر، يعكس نمط البناء فيها ، والمظهر الخارجي المستوى الاجتماعي والاقتصادي لسكانها ، ما بين خيام فقيرة الى بيوت عادية وطيئة الى ما يشبه الفيلات الفاخرة القاهرية ، وتستدل كذلك على الرفاه او الفقر من وسيلة الانتقال ، سواء كانت سيارة حديثة "جيب" دفع رباعي او سيارة نقل صغيرة او حمارا وجملا.
وفي خلفية المشهد ملامح البيئة البدوية التقليدية من اشجار الزيتون والتين والنخيل التي تبدو اقرب الى المحتضرة من شدة القيظ وشح المياه ،الى جانب قوافل الاغنام التي تتجول وحدها او يصحبها راعي بعصا يهش بها عليها ، سواء كان رجلا او امرأة ، شيخا او طفلا .
الرحلة كانت برفقة احمد قذاف الدم راعي المهرجان منسق العلاقات المصرية الليبية وابن عم القذافي ، فاختلط الثقافي بالسياسي ، ما مثّل ملمحا اخر ، فحضوره مثل تجسيدا لسلوك القبائل البدوية في استقبال الضيف ذي الشأن ، حيث تجمّع ابناء القبيلة بالعشرات في خيمة كبيرة وسط الصحراء القاحلة ، وحين قدم الوافد اصطف الجميع في استقباله بزيهم البدوي الشهير (جلباب يعلوه جاكت قطني وطاقية حمراء من الجوخ) ، يتقدمهم الشيوخ والاكبر سنا ، فالاصغر مقاما وعمرا ، في حفاوة ، جسدوها في كلمات الترحيب والاحضان والقبلات ، ثم ولائم الضأن التقليدية.
غير ان للمشهد بقية ، تجسد او تستدعي الحالة الماضوية ، حيث شرع شعراء القبائل في إلقاء او ارتجال قصائد المديح والحماسة ، ما اعادنا الى خصيصة من خصائص الشعر العربي القديم ، ونمط شعري ممجوج ، اقرب الى اعلام السلطة في عصرنا الحاضر ، سواء السلطة السياسية او سلطة المال.
ولا ادرى لماذا تذكرت ، هنا ، ابو الطيب المتنبي وتنحى جانبا ، في ذهني ،عنترة العبسي ، ربما لان الاخيرنموذج للشاعر الفارس الحقيقي المقدام والمضحي والذي على الاهوال جلد ، والاخر مثال للنفاق والمديح المدفوع المصحوب بالجبن والادعاء ، بصرف النظر عن قوة نظمه وفصاحته ، وربما لان الاول يمثل اسطورة ، والاخر مات في بيت او ببيت شعري ، جزاء نفاقه وادعائه البطولة ، حسبما تشير الرواية الموروثة.
فقد كان يردد باستمرار" الخيل والليل والبيداء تعرفني.. والسيف والرمح والقرطاس والقلم" ، الى ان هاجمه اللصوص ذات مرة ، فهمّ هاربا ، فذكروه ببيته الشعري ، فخجل ان يفر" البطل المغوار" ، فاردوه قتيلا.
ومثلما ادعى المتنبي قديما ، خرج علينا احدهم مختلقا قصة تاريخية لم ندرسها ولم نسمع عنها ولم نقرأها في اي كتاب تاريخ ، اذا راح يفاخر بقيمة المكان " وادي ماجد " الذي تقام فيه الاحتفالية ، حيث شهد معركة طاحنة ، حسب ادعائه ، انتصرت فيها القبائل البدوية على الاحتلال الانجليزي في النصف الاول من القرن العشرين ، وجرى خلالها قتل الجنرال الانجليزي ، وقد نصبوا الخيام امام تمثال فارس يمتطي صهوة جواد ويرفع سيفه لتأكيد صحة اسطورتهم المصنوعة محليا.
في المساء ذهبنا الى بقعة اخرى في الصحراء ، اختلطت فيها مظاهر الماضي بالحاضر ، حيث سيارات الشرطة وعربات الاطفاء والامن المركزي والسيارات الفاخرة والميكروفونات واجهزة تشغيل الموسيقي الحديثة " الدي جي " ، ومعالم الحضر حاضرة في جانب ، وفي الجانب الاخر شباب البدو متجمعين بالهجن والجياد ، وملامح البادية متجلية بقوة في الهيئة والملبس والسلوك.
حين تحدث قذاف الدم كان يفاخر بالبادية ، وما تعنيه من كرم ونخوة ، وانها عنوان للتحضر لا التخلف ، لكن حين هم بمشاهدة عروض الفروسية وسباق الهجن تدافعت الجماهير المبهورة بالقادم المحاطة بهالة من الاهتمام الخاص جدا من الرسميين والشيوخ والكبار في القبائل ، رغم ان كثيرين لا يعرفون من هذا القادم ووضعه ومكانته.لكنه بدا لهم تجسيدا لسلطة اعتاد المصريون - خاصة البسطاء - على تبجيلها والاقتراب منها ، ربما يصيبهم من ريحها ولو نذر ، وفجأة انقلبت الصورة رأسا على عقب ، اذا انهار المسرح الخشبي واصيب من اصيب ، وتحول " الفرح الشعبي" الذي ارادوه الى اضطراب وهرج ومرج ، لم يفلح رجال الامن ، على كثرته ، في السيطرة عليه ، حذرا من اغضاب شيوخ القبائل الذين تعلو سلطتهم القبيلية ، في مناطق نفوذهم ، السلطة المدنية للدولة ، فقرر قذاف الدم ان يستغني عن متعة مشاهدة العاب البدو الترفيهية ، وحتى لا يبدو غاضبا ومغضبا احدا، ركب سيارته المكشوفة ليصافح ويلوح للجماهير على طريقة القذافي الشهيرة ، وخلفه يهرول العامة وتحيط سيارته الخيول. في مشهد يذكرنا بشيوخ الطرق الصوفية ومريديهم او مشهد الفتوة المنتصر ، للتو ، على سلفه والحائز على مباركة و حفاوة الضعفاء المبهورين بسطوة القوة ، بصرف النظر عن مصدرها او من يحوزها وان كانت لوافد او مقيم ، كما جسدت الحالة روايات نجيب محفوظ الشهيرة.
وهكذا كان يوما صيفيا جديرا بالتدوين.
*كاتب صحفي مصري








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عاجل.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق


.. لطلاب الثانوية العامة.. المراجعة النهائية لمادة اللغة الإسبا




.. أين ظهر نجم الفنانة الألبانية الأصول -دوا ليبا-؟


.. الفنان الكوميدي بدر صالح: في كل مدينة يوجد قوانين خاصة للسوا




.. تحليلات كوميدية من الفنان بدر صالح لطرق السواقة المختلفة وال