الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وداعا للسلام

على شكشك

2009 / 8 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


ليس بيدِنا, وليس خيارَنا نحن, ففي الوقت الذي تُكدِّسُ فيه الدولُ صاحبة التاريخ العريق في استعمار الشعوب واستحلاب أرواحها, ومضغ عذاباتها, في الوقت الذي تقوم فيه تلك الدول بتشريع تكديس وتطوير السلاح, والتفنن في ابتداع جيناتٍ جديدةٍ منه كلَّ يوم, مع التفاخر بذلك واعتبارِه علامةَ تقدّمٍ وتفوّقٍ لها على العالمين, بالإضافة إلى كونه شارةً لجدارتها بالحياة, وفي سياقٍ بديهي لا يستدعي الاستنكار ولا الاستهجان, بل بحضورٍ إعلاميٍّ يستحضرُ كلَّ آيات الاحترام المضمَرة لاستحقاقِ الانحناء, وتكريسِ دُونِيّةِ الآخرين,
في هذه الانسيابيّة من الإيجاب والقبول في عالمنا الحديث نكادُ بخجلٍ شفيفٍ نجرؤ على الحديث عن الحرب وعن السلاح, فهما مُحرَّمان علينا وحدَنا, كالذهب, للنساء وليسا لنا, وإلا فهي الخطيئةُ الموبِقة, وهو الاتهامُ الجاهز المعلَّبُ يَبرزُ وحدَه من لدن تجارِ الموت ومرَدة العربدة وأساطين لصوص الكون, الأسياد المعلَنون, أدعياء الديموقراطيات والعدالات والمساواة,
وداعاً للسلام, ربما هذا ما كان يخشاه أرنست همنجواي وهو يكتب وداعاً للسلاح, وما كان الأمرُ إلا محاولةَ تعويذةٍ لطردِ شبح ويلات الحرب التي استفزت فيه معاني القبح الإنساني, فحاولَ التفاؤل ضدَّ هواجسه التي تفجّرتْ, بعد أقلَّ مِن عقدٍ على روايتِه تلك, حرباً عالميّة ثانية كانت الأكثرَ وحشية ربّما في تاريخ الإنسانية حتى الآن, عددَ قتلى وضحايا, ودماراً وآثاراً بعيدةَ المدى, بالإضافة إلى التوحش البشري الذي عبّرَ عن نفسه في الاستعمال الأول للسلاح النووي المجنون,
لكن اللافت أنَّ كثيراً من المنتقِدين سيكون من طرفنا ومن أبناء جلدتنا, الذين سيفتحون أبواب الاجتهاد لبنيويةٍ حداثيةٍ في النَّصِّ العربيّ الحضاريّ, ملصقين بنا ما تتسعُ له حدودُ علم الصرف والنّحت في لغتنا الجميلة ومستعينين من باب التعالُم بمصطلحات أجنبية تنبذ المقاومة اللاحضارية, في توسلٍ مثيرٍ للغثيان, للعقلانية والاعتدال,
لكن ليس بيدنا,
فهل أمكن يوماً ما أن يتحققَ سلامٌ بين غاصبٍ ومغتصَب, ومتى استكانت الشعوب وأقرّتْ بالتنازل عن تاريخها وشرفها وثقافتها, ناهيك عن أوطانها ومقدساتها, في الوقت الذي تتوارث فيه مجموعاتٌ عرقية أحلامَها وأمانيها وتماسكَها بعد مئات السنين من اضطهادها رغم البون الهائل والنوعي بين الحالتين,
فإذا أضفتَ إلى ذلك ملامحَ المشهد المتدحرج في منطقتنا, أصبحَتْ القراءةُ واضحة, فهم يزدردون بالسلاح ويطورون أشكالاً منها وألواناً, بل ويستخدمونها بلا رحمة, ويتلاشى المشهد مع الأيام, دون إلحاح منا ولا ملاحقةٍ تُبقي الجرح مفتوحاً على الأقل, وهم يزدرون كما يبدو هذا السلام المنشود, بل يستخدمونه جزرةً أو رافعةً للتطبيع مع الرديف العربي, من أجل تجاوز الهدف ذاته, والقفز عليه في عملية معقدة ومتشابكة إلى درجة الجنون, حيث يتمُّ استدراجُنا إلى سراب التسوية لتجريدِ النظام العربي من ذريعة الممانِع الفلسطيني, عقبةِ التطبيع, وحينها يتمُّ القفزُ على الشرط نفسه بعد أنْ يتمَّ تجريدُه هو نفسه مِن الرديف العربيّ, في انتظار الخطوة التالية وهي القذف بالفلسطيني إلى الهامش بعد أن يكونَ قد استنفذ أغراضَه, وفقدَ وهجَه وشوكته العربيّة, ولنتذكرْ جيّداً أنَّ التنصّلَ مِن ارتباطات المعاهدات واستحقاقاتها ليس بالأمر الهيّن, والأمثلةُ أوضح من أنْ نُضطرَّ للإشارة إليها,
وداعاً للسلام, ومتى صدّقَ العربيُّ بإمكانية السلام مع أعدائه, هل كان في حدود العقل أن يتسالمَ البريطانيُّ مع المصريِّ ويتقاسما الوطنَ إلى الأبد, أم هل آمنَ أحدٌ بالتعايش بين الفرنسي والجزائري وطناً يتشاركان فيه, فكيف والحالُ في فلسطين ليس دعوةً للمشاركة في الأرض وإنما إحلالٌ واستحلالٌ واحتكارٌ واستفراد, وكيف والأمرُ وطنٌ يُنكَر, وقِبلةٌ تُغتصَب, ومقدساتٌ تُدَّعَى, وشعبٌ يُنتهَك ويُطرَد,
وداعاً للسلام, فلم يكن ذلك ممكناً, ومتى آمن العربي بطيبة اليهود الصهاينة, وقد منحوهم الحماية والأمان على مدار التاريخ وكانت المكافآت دوماً غدراً وخيانةً وطمعاً وطعناً في الظهر وتآمرا, مؤكدين استمرار وصقل جبلتهم القديمة, وقد خذلوا الأنبياء ونكصوا إلى عبادة العجل, وتلكّأوا في ذبح البقرة, وتحايلوا على السبت, إنها العقد المتجذرة المتكرسة التي تُوِّجتْ بعقدة النفي والطرد من الأنبياء واستبدال قومٍ آخرين, جعلهم يعلنون الحرب الشاملة على حَمَلة الوحي والوارثين, حرباً بدأت بالتشويش وبثِّ الإسرائيليات إلى التآمر, وتحريف كلام الله سبحانه وإخفائه أو الإدعاء عليه, انتهاءً بالذبح والقتل والاحتلال والإحلال, ليس فقط إحلال الجسد بل والتاريخ والغناء والتراث وأخيراً إحلال أسماء المدن والقرى والشوارع,
إنها الحرب الشاملة المدوِّية بالصوت, والمضيئة بالفوسفور, والحارقة بالنابالم, والخانقة بالكيمياء, والخادعة بتفخيخ لعب الأطفال, والعابثة بالبيولوجيا, والجغرافيا والديموغرافيا, ومعالم الماء, ومختلف المصطلحات التي تعلمناها مكابدةً رغم أنفسنا, وامتزجت بقاموسنا الطفولي مع الحليب ودفتر الإملاء,
وداعاً للسلام, ... إنها الحرب الشاملة المتفردة الفريدة من نوعها في التاريخ حتى الآن, بدأت بِنفْيِنا, وما زالت تُنكرُنا وحقَّنا وأوَّلَنا وآخرَنا, بل وتُطوّرُ مفهومَ الإنكار والنفي إلى نفي ألمِنا وإنكارِ النكبة, التي ما زال التاريخ يملؤها, صادحةً صارخةً يكاد سنا برقِها يخطف الأبصار, فكيف لو كانت مختلَفاً عليها وملتبسةً كالمحرقة, إنها حرب حتى على الذاكرة, وبالقانون, فوداعاً للسلام,
حين يكون جحيم الفلسطيني سلاماً لهم ... وداعاً للسلام,
وحين يكون كسرُ سياق المنطقة برمّتها وتدميرُ بنية أفرادِها وأُسَرِها وأمنِها وحياتِها, ويكون استفزازُ سلامِها البديهيِّ القارِّ منذ دورةِ الأرض الأولى تحت الشمس, من أجل سلامهم ... وداعاً للسلام,
وحين يتناوب الجيش مع المستوطنين في تسميم حياة الفلسطينيين, ويبدأ عملُ الأول فقط حين لا يتمكن الثاني, تكون الجرّافةُ دبابةً والجدارُ جيشاً, والقانونُ جرّافةً, والحاخامُ رأسَ حربة, والسياسيُّ بلطجياً, والأكاديميُّ بهلواناً, والجميعُ لصوصاٌ ومجرمين, وحين يتذاكَون ببيعِ الوهم ومجردِ تجميد الاستيطان مقابلَ تطبيعٍ عربيٍّ شامل ينكشف الغطاءُ كاملاً عن النوايا, فوقفُ الاستيطان ضدَّ التوراة التي تبيحُ لبني الخزر أنْ يسكنوا أينما شاؤوا من "أرض كنعان", كما قال حاخامهم لإوباما, لعبة التغابي والقهر و"الحرب والسلام", عودٌ على إرنست همنجواي, إنهم لا يريدون السلام, لأنَّه نقيض سياق تشكلهم, وقد جاؤوا لِيخدشوه, وقانون ذلك ألّا يتوقّفوا ليتنسموه, حتى ولو تنازلت الضحية, حيث جدل الأشياء أن تستقرَّ على سوائها وانسجامِها مدفوعةً إليهما بقوة السواء والانسجام اللتين تأبيان إلّا نهايةَ مَن يَخدشُهما,
والمسيحُ الذي جاء ببشارة ملكوت السماء وعلى الأرض السلام, قال لِخراف بني إسرائيل الضالّة الذين رفضوا بشارة على الأرض السلام: "أنا لم أجِئ بالسلام وإنما بالسيف",
فوداعاً للسلام ... من أجل السلام, السلام الذي يكفلُ فقط أنْ لا يكونَ لحائطِ البراق إلّا اسمُ حائط البراق, في كلِّ المدى من المسجد الأقصى إلى سدرةِ المنتهى, "عندها جنةُ المأوى",
... مِن أجلِ السلام, "اللهمَّ أنتَ السلام, ومنك السلام, وإليك يعودُ السلام, تباركت يا ذا الجلال والإكرام".
[email protected]












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة بعد الحرب.. قوات عربية أم دولية؟ | المسائية


.. سلطات كاليدونيا الجديدة تقرّ بتحسّن الوضع الأمني.. ولكن؟




.. الجيش الإسرائيلي ماض في حربه.. وموت يومي يدفعه الفلسطينيون ف


.. ما هو الاكسوزوم، وكيف يستعمل في علاج الأمراض ومحاربة الشيخوخ




.. جنوب أفريقيا ترافع أمام محكمة العدل الدولية لوقف الهجوم الإس