الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مافيا العمائم وحقوق الانسان في العراق

ستار الدليمي

2009 / 8 / 3
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


(الأمم المتقدمة تخلق الحروب لغيرها والأمم المتخلفة تكتفي بالحرب الأهلية) - آلان بوسكييه



واقع مأساوي ذلك الذي تعاني منه حقوق الإنسان في العراق حسب آخر التقارير الجديدة التي صدرت عن منظمات دولية معنية بهذه المسألة، فما زالت الانتهكات تُمارَس بصورة منهجية ضد الأقليات والنساء والعلماء العراقيين على الرغم من ادعاء الحكومة أن تقدماً قد تحقق في الوضع الأمني حسب تقرير منظمة (يونامي)، وهي بعثة الأمم المتحدة للمساعدة في العراق. وفي الوقت الذي دعت فيه الأمم المتحدة الحكومة العراقية لتحمُّل مسؤوليتها في وقف هذه الانتهاكات فإن تقريراً آخر، أصدرته اللجنة الأمريكية للحريات الدينية، كان قد شدد على تصنيف العراق بوصفه (البلد الأكثر خطورة على الأقليات)، وحمّل الحكومة مسؤولية تفاقم أعمال العنف الموجَّهة ضد الأقليات لتراخيها في التصدي لهذه الانتهاكات وتسامحها مع المتورطين فيها.



إلى هنا لا جديد في التقارير يمكن له أن يشكل انحرافاً عن دائرة الموت التي أحاقت بالعراقيين منذ سقوط النظام السابق، لكن ما يسترعي الانتباه أن تقرير الأمم المتحدة الذي حمّل الحكومة والميليشيات مسؤولية العنف الذي تتعرض له الأقليات يعود ليطالب الحكومة باتخاذ ما يلزم لوقف التدهور الذي تشهد الحقوق والحريات في العراق.



فكيف يمكن التوفيق بين هذه المطالبات الدولية وطبيعة النظام السياسي في العراق الذي تُعدّ الحكومة نتاجاً له وتضع نفسها في موقع الحارس لهذا النظام.



بنظرة سريعة نلقيها على مفردات الدستور العراقي، الذي هو المدوَّنة التي تعكس فلسفة الحكم في العراق، نتمكن من الوقوف على الخلفيات الفكرية والسياسية التي قام عليها النظام السياسي الجديد وطبيعة الأهداف التي يحرص على تحقيقها من خلاله. فقد جاء في ديباجة الدستور أنه (... واستجابة لدعوة قيادتنا الدينية... وإصرار مراجعنا العظام... مستذكرين مواجع القمع الطائفي من قبل الطغمة المستبدة... ومستوحين ظلامة استباحة المدن المقدسة والجنوب في الانتفاضة الشعبانية, ومكتويين بلظى المقابر الجماعية والأهوار والدجيل وغيرها) الأمر الذي أثار تحفظات لدى السنّة، واعتبرته غطاءً قانونياً لاستئصالهم من الحياة السياسية، ورغم هذه الصيغة الملطفة عن تلك التي كانت في النسخة الأولى من الدستور، فإن هذا النص يخلق الانطباع أن النظام الجديد منهمك في الانتقام من فكرة الدولة حين ماهى بينها وبين النظام السابق التي كانت تقف القوى السياسية الحالية في موقف المعارض منه، وبذلك أتاحت تلك القوى ممارسة تخريب الدولة العراقية تخريباً منهجياً وإسباغ الشرعية على قرارات السفير الأمريكي بول بريمر الذي كان قد بدأ في ما انتهى إليه قادة العراق الجدد تحت شعار (الفوضى الخلاقة)، وكانت النتيجة إعادة العراق إلى مجتمع ما قبل الدولة بعودته إلى مكوناته الطائفية والعشائرية والمناطقية وقطع الطريق على إمكانية إعادة أو حتى تقليص الآثار السلبية الناجمة عن هذا التوجه، وهو ما فتح الباب واسعاً أمام قمع الحريات وممارسة أعمال القتل والتشريد التي طالت مختلف فئات الشعب، وخصوصاً تلك التي كانت تعدّ إنجازاً لسياسة فصل الدين عن الدولة، وهي إحدى مآثر أكثر من ثمانين سنة من عمر الدولة العراقية الحديثة، حيث لم نشهد استهداف جامع أو كنيسة أو حسينية على الرغم من تضمين الدساتير العراقية، التي صدرت ما بين عام 1925 إلى دستور البعث عام 1970، نصاً يعتبر الإسلام دين الدولة الرسمي، لكن ما حدث بعد ذلك، وخصوصاً في دستور 2005، قد فتح الباب واسعاً أمام اضطهاد الأقليات الدينية والمذهبية، وذلك بالنص على أن الإسلام دين الدولة الرسمي وأنه المصدر الأساس في سن القوانين، ولا يجوز إصدار أي قانون يتعارض مع ثوابت أحكامه، وتلتزم الدولة بالحفاظ على الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي.



أقول إن هذه النصوص وتمظهراتها الأخرى في الدستور، التي سنشير إليها لاحقاً، قد دقّت إسفيناً عقائدياً بين مكونات الشعب العراقي، وجعلت مهمة الدولة الرئيسة هي ضمان الهوية الإسلامية، بمعنى استخدام مقدرات الدولة المالية والسياسية والعسكرية كافة لتحقيق هذا الهدف، وبما أتاح للسلطة أن تمارس شتى أنواع العنف الثقافي والرمزي والأمني لفرض التصور العقائدي للطبقة الحاكمة (وهي أحزاب إسلامية بألوان طائفية) انفردت بكتابة الدستور، واحتكرت تفسير الدين بما يؤمن لها فرض الهيمنة على قطاعات المجتمع وجعله سجين التصور الواحدي للعالم، حيث تدعي السلطة احتكارها المعنى الأرقى للدين الإسلامي يدعمها في ذلك فقهاء الدسيسة ومراجعهم بإرثهم التاريخي المعادي لعمليات التحول الاجتماعي في العراق، ونتذكر جيداً موقفها من حقوق المرأة بإسقاطها قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 وتكفيرها للأحزاب الوطنية وتحالفها المشبوه مع الإقطاع وقت صدور قانون الإصلاح الزراعي.



إن السلطة، وفي سعي محموم منها إلى تأميم الفضاء الاجتماعي لمصلحة المقدس الديني بصيغته الطائفية، قد عمدت إلى كتابة دستور يستند في مرجعياته إلى مبادئ التطويع القسري لكل مفردات الحياة بما يؤمن لها إعادة إنتاج المجتمع بعد استئصال طاقاته الإبداعية تمهيداً للهيمنة الشاملة على مفاصله كافة، ففتحت الباب واسعاً أمام ممارسة الحريات الدينية دون أية ضوابط تنظيمية وبما يتيح إطلاق العنان لغرائز القطيع بالتعبير عن نفسها لتعيد تشكيل الحياة على صورة النمط الثقافي الذي تتبناه السلطة والقائم على سياسة العزل الطائفي (مادة 43 من الدستور حيث تقضي تكفل الدولة ممارسة الشعائر الحسينية)، وفي الوقت ذاته يضع الدستور قيوداً صارمة على ممارسة الحقوق المدنية، ويربطها بموافقات مسبقة من السلطات، ما يعني فسح المجال لمراقبة كافة النشاطات السياسية المعارضة للحكومة، فنجد مثلاً أن حرية التعبير والاجتماع والتظاهر والحريات الصحفية معلقة على عدم مخالفتها (الآداب العامة) -المادة 38- وهو مفهوم مطاط يتيح للسلطات ممارسة الحظر على هذه الحريات تحت أية ذريعة كانت إذا لم تتماشَ مع ما تتبناه السلطة، وهو ما جعل العراق البلد الأسوأ في ممارسة العمل الصحفي، ويحتل المرتبة 158 في قائمة الترتيب العالمي لحرية الصحافة, والأمر نفسه يتكرر مع تشكيل المحكمة الاتحادية والتي يُفترض أنها تراقب مشروعية القوانين حين تضم في عضويتها، طبقاً للمادة 92 من الدستور (خبراء في الفقه الإسلامي) لمراقبة مدى تطابق القوانين مع الشريعة الإسلامية ونقضها إذا وجدت أنها مخالفة لهذه الشريعة بما يسمح لهؤلاء الخبراء غير المنتخَبين بتعطيل إرادة النواب الذين يُفترض أنهم ممثلون لإرادة الشعب ووصلوا إلى (البرلمان) عن طريق الانتخابات، ونعرف تماماً أن هذا المبدأ تستتبع ممارسته إطاحة كاملة بكل قيم الديمقراطية القائمة على أساس المساواة بين أبناء الشعب دون تمييز ديني أو عرقي أو ثقافي.



على أن أخطر ما في الموضوع هو إلغاء المادة (44) من النسخة النهائية للدستور، والتي كانت تنص على أن (يتمتع العراقيون بكافة الحقوق والحريات النصوص عليها في الاتفاقيات الدولية) تحت ذريعة مخالفة هذه الحقوق لمبادئ الشريعة الإسلامية الأمر الذي يعني تعطيلاً للفقرة (ب) من المادة الثانية للدستور التي تقضي بمنع سن قوانين تتعارض مع مبادئ الديمقراطية، وهو ما يوصلنا حتماً إلى حرمان المواطن العراقي من الحقوق المدنية كافة، وفي مقدمتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتفاقية (سيداو) الخاصة بحقوق المرأة بما يجعل العراق دولة إسلامية بامتياز تمارس الاضطهاد وكبت الحريات باسم الدين، هذا الواقع الدستوري كان الإطار النظري والبنية التحتية للممارسات التعسفية التي تعرضت لها الأقليات الدينية وغير الدينية وحملات التهجير التي مورست ضد المسيحيين والصابئة والإيزيدية في مختلف مدن العراق بعد تفجير أماكن عبادتهم وإجبار نسوتهن على ارتداء الحجاب، وصولاً إلى محاولة استثمارهم سياسياً وإعادة دمجهم في ما يسمى بإقليم كردستان (خاصة المسيحيين والشبك) بعد الحملة المسعورة التي نفذتها الميليشيا الكردية ضدهم في الموصل من غير أن تتحرك أية جهة داخل العملية السياسية لإنصافهم ومنع التعسف الذي يتعرضون له، بل وصل الأمر إلى مصادرة حقوقهم في التمثيل السياسي من خلال المادة 50 من قانون المحافظات، والتي لم تُعدَّل إلا بضغوط خارجية، ورغم هذا التعديل فإن الإجحاف ظلّ قائماً، حيث لا تعكس نسبة تمثيلهم الواقع الديمغرافي، خصوصاً في الموصل، حيث بررت جبهة التوافق هذا الظلم (بالحفاظ على الهوية العربية للمدينة)، وكأن هذه الأقليات قد هبطت علينا من السماء وليس هم السكان الأصليون للبلاد.



الحيثيات المتقدم ذكرها تبرهن على عدم جدوى المطالبات الدولية للحكومة العراقية باتخاذ الإجراءات المناسبة للحد من حالة التدهور التي يعيشها الإنسان العراقي في مجال حقوق الإنسان واحترام حقوق الأقليات لجهة تورط الحكومة في الانتهاكات المنهجية لهذه الحقوق، إما مباشرة عبر الأجهزة الأمنية التي تمارس شتى أنواع التعذيب بحق المعتقلين لديها لأسباب تتعلق بمناهضة سياسة الحكومة الحالية وهم يقبعون الآن في السجون دون أن توجَّه لهم تهمة محددة, وإما عبر العنف الذي تمارسه الميليشيات التابعة لأجنحة متنفذة في هذه الحكومة وبتوجيه منها، ولعل الاغتيالات واحتجاز المواطنين في مقارّ هذه الميليشات ونشر قوائم الموت لاستهداف المثقفين العراقيين في الداخل والخارج تشكل دليلاً قاطعاً على ما نذهب إليه.



والمطلوب الآن هو تدخل دولي عاجل لوقف المجزرة التي يتعرض لها المواطنون العراقيون والأقليات الدينية، وتوجيه الاتهام إلى المتورطين فيها لمحاكمتهم والاقتصاص منهم جراء ما اقترفوا من أفعال، ولا يفوتنا أن نقول إن بناء دولة مدنية حديثة تحترم حقوق الإنسان، وتحتفظ بمسافة واحدة من جميع الأديان والمذاهب، يقتضي التصدي لكل السلطات الدينية ومحاربة التعسف المرتبط عضوياً بهذه السلطات، ولا يتم ذلك إلا بسنّ دستور علماني لا يكتفي بفصل الدين عن الدولة، بل يتعدى ذلك إلى الحيلولة دون السماح للأحزاب الدينية أو القائمة على أساس ديني من ممارسة أي نشاط سياسي.. دون ذلك لا يمكن لنا أن نشهد عراقاً قوياً متماسكاً موحداً يحترم حقوق الإنسان ويحول دون أي انتهاك لها.. ودون ذلك، ايضاً، سنبقى دولة فاشلة تهيمن عليها طبقة الإكليروس وتتناهبها النزاعات الطائفية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل وحماس تتمسكان بموقفيهما مع مواصلة محادثات التهدئة في


.. إيران في أفريقيا.. تدخلات وسط شبه صمت دولي | #الظهيرة




.. قادة حماس.. خلافات بشأن المحادثات


.. سوليفان: واشنطن تشترط تطبيع السعودية مع إسرائيل مقابل توقيع




.. سوليفان: لا اتفاقية مع السعودية إذا لم تتفق الرياض وإسرائيل