الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السودان على ضوء البترول

ياسين تملالي

2009 / 8 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


استهلكت كبرى وسائل الإعلام الغربية أحدث موضاتها. نسيت التبت ما أن انفضت ألعاب بكين الأولمبية ونسيت كوسوفو ما أن أعلن استقلاله، ولم تعوضهما بفلسطين في واجهة الأحداث، فحماس أوقفت قصفها الوحشي لسديروت والتحقيق في جرائم إسرائيل في غزة أقل إثارة من أن يتصدر نشرات الأنباء.مات سلوبودان ميلوسفيتش وأعدم صدام حسين وأوغل أسامة بن لادن في مجاهل تورابورا. افتقدت "هتلرا" يقض مضجعها فنصبت عمر البشير "هتلر العالم" الجديد. وانبرى صحفيوها يشرحون "أزمة دارفور" لجمهورهم المشتت الذهن بين تراجيديات العالم المتخلف : "الأزمة إنسانية، وجذورها إثنية". وكان بودهم أن يضيفوا : "ودينية" لولا أن القتلة وضحاياهم كلهم مسلمون.

"الاقتصاد يا أبله" : جملة اختارها بيل كلينتون شعارا لحملته الانتخابية في 1992، ويجب اليوم ترديدها لبعض من تخصصوا في الشؤون السودانية في التلفزيونات والجرائد الغربية. يفيضون في الحديث عن عنصرية حكام الخرطوم "العرب" واضطهادهم لباقي "الإثنيات الإفريقية"، فيختزلون أسباب الأزمة في سبب واحد. يتناسون أن السودان تحول منذ قرابة عشر سنوات إلى بلد بترولي، ما يثير مطامع كل القوى العظمى دون استثناء. لا يفيدون جمهورهم بمعلومات في منتهى البساطة تؤكد أن الاحتياطي النفطي السوداني (5 بليون برميل في2007 حسب "أويل أند غاز جورنال") خامس احتياطي إفريقي وأنه يتجاوز الاحتياطي المصري (3،7 بليون برميل). هذا عن الاحتياطي، أما الإنتاج السوداني من البترول الخام فلا يقل عن 463 ألف برميل يوميا (2007)، أي أنه ثلث إنتاج دولتين نفطيتين عريقتين كالجزائر وليبيا. ويبين تضاعفه في أربع سنوات (270 ألف برميل في 2003) أن احتمالات نموه قائمة، فالاضطراب السياسي وقلة الموارد المالية قللا من فرص التنقيب في مناطق شاسعة منها ساحل البحر الأحمر بالقرب من حدود مصر وإقليم دارفور الذي لم يستكشف منه لحد الآن سوى جزئه الشرقي.

لم يعد السودان إذا ذلك البلد الفقير الذي تتحدث عنه كبرى وسائل الإعلام الغربية بشفقة ورثاء. ناتجه المحلي الخام، بفضل ازدياد إنتاجه البترولي، نما بشكل قياسي في السنوات الأخيرة، فسجل 5،1 بالمائة في 2003 و 8 بالمائة في 2006 و 12،8 بالمائة في 2008. وكانعكاس لهذا النمو، تضاعف دخل الفرد السوداني (النظري طبعا) بين 2003 و 2008 فطفر من 1420 دولار سنويا إلى 2500 دولار.

لكن من يستغل بترول السودان ؟ شركات صينية أساسا ولو كانت أمريكية لكان عمر البشير أصدق أصدقاء الإدارة الأمريكية بعد نوري المالكي. شركة صينية واحدة، هي "تشاينا ناشونال بتروليوم كوربورايشن"، تمتلك أربعين بالمائة من أسهم "غريتر نايل بتروليوم اوبيرايتنغ كمباني" التي تستغل أكبر حقلي نفط سودانيين غرب النيل الأعلى، وذات الشركة شرعت سنة 2005 في إنتاج البترول في حقول أخرى غرب النيل. الإحصائيات الأمريكية تؤكد أن النفط السوداني صيني الاستهلاك أيضا، فـ 80 بالمائة من صادراته موجهة إلى الصين، ما يمثل 6 بالمائة من واردات هذا البلد البترولية. وهذه النسبة طبعا مرشحة للارتفاع بالنظر إلى أهمية الاستثمارات الطاقوية الصينية في السودان (15 مليار دولار بين 1999 و 2006).

وليس تعاظم الحضور الاقتصادي الصيني في السودان سوى غيض من فيض، هو تغلغل الصين الاقتصادي في عموم إفريقيا بواسطة الاستثمارات الطاقوية ومنح بعض الدول قروضا بشروط ميسرة مقارنة بشروط البنك الدولي. هذا ما يثير مخاوف الدول الغربية. لذا ليس من الخطإ القول إن حملتها العنيفة على عمر البشير هي حملة مقنعة على الصينيين، تستهدف إشعارهم بأنها وجودهم في القارة السوداء غير مضمون وأنها لن تتردد في إثارة حروب أهلية طاحنة لزحزحتهم عن مواقعهم فيها.

وبلغ الخوف الغربي من "الخطر الأصفر" درجة جمعت في نفس المعسكر فرنسا وأمريكا، بالرغم من أن باريس كانت أبرز مساندي عمر البشير فيما دعمت واشنطن جون غارنغ أملا في أن يتوج تمرده بانفصال الجنوب الغني. كانت مصالح الدولتين آنذاك متعارضة كل التعارض : فرنسا كانت تريد استرجاع آبار نفطية في الجنوب عُهد بها إلى شركة "توتال فينا إلف" ومنعتها الحرب الأهلية من استغلالها، وأمريكا كانت ترغب في إهداء ذات الآبار إلى شركاتها. أما اليوم، فالهدف الفرنسي الأمريكي واحد : تجفيف موارد الصين البترولية بطردها من إفريقيا أو على الأقل استغلال هشاشة انغراسها الإفريقي لابتزازها في مفاوضات مصيرية أخرى.

ولا بديل للأمريكان والأوروبيين عن تغيير النظام لتهميش الصينيين في السودان أو طردهم منه ولو تطلب الأمر تقسيم البلاد إلى دويلات. وهل أسهل من التذرع بمنع ارتكاب "جرائم إبادة" لرسم خريطة البلاد بما يتلاءم ومصالحهم ؟ وبما أن أكبر حقول النفط المستغَلة في الجنوب، فإن الحملة الجرية حاليا على عمر البشير تنذر بحملة أشنع لدفع الجنوبيين إلى اختيار الانفصال في استفتاء 2012 عن الوضع النهائي لهذه المنطقة.

هذا هو السودان على ضوء بعض مصالح الدول العظمى: بلد ليس ما يجري فيه من مذابح أشنع مما اقترف في رواندا ورفضت إدارة كلينتون وصفه بـ "الإبادة" لعدم توفر أحد الشروط "التدخل الإنساني" : قرب مسرح الجريمة من آبار النفط.

ياسين تملالي
كاتب وصحفي جزائري
1 أبريل-نيسان 2009








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تشاد: انتخابات رئاسية في البلاد بعد ثلاث سنوات من استيلاء ال


.. تسجيل صوتي مسرّب قد يورط ترامب في قضية -شراء الصمت- | #سوشال




.. غارة إسرائيلية على رفح جنوبي غزة


.. 4 شهداء بينهم طفلان في قصف إسرائيلي لمنز عائلة أبو لبدة في ح




.. عاجل| الجيش الإسرائيلي يدعو سكان رفح إلى الإخلاء الفوري إلى