الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حدود الفيزياء

نزار حمود
أستاذ جامعي وكاتب

(Nezar Hammoud)

2009 / 8 / 6
الطب , والعلوم


أذكر أول مرة زرت بها باريس. كان ذلك في العام 1983على ماأظن... كنت يومها طالبا ًجامعيا ً شابا ً أبحث عـن المغامرة العلمية واكتشاف العالم الكبير. الهدف من زيارة فرنسا كان العمل بمزرعة تهـتم بالزراعة الحيوية التي لاتستعمل أي من المنتجات الكيميائية الضارة بالبيئة والإنسان. صاحب هذه المزرعة كان أستاذ َ فـلسفة جامعي ترك العاصمة واختار أن يعيش معتزلا ً مع حقوله وزراعاته وحيواناته الأليفة وصديقاته... العابرات منهن والمقيمات. أذكر، كذلك، أني انتهزت فرصة مروري بباريس لأزور وبسرعة مركز جورج بومبيدو للفنون والثقافة الذي تأسس في العـام 1977 والذي كان في حينه تحفة من تحف العالم المعمارية الحديثة الطليعية. في هذا المركز الجميل كان هناك مساحة كبيرة مخصصة للفضاء الخارجي وآخر مكتشفاته. ومن المعروضات... كان هناك ممر ٌ متحرك ٌ يجعلك تشعر بنسبية المسافة والزمن. وكان هناك أيضا ً ممر ٌ آخر تتقدم به دون أن ترى أي شيء خاص. على الأرض وعند نهاية الممر كان هناك علامة صفراء تطلب منك التوقف والبحث في الفراغ عن بؤرة ما تستطيع من خلالها رؤية المجموعة الشمسية. كان ذلك فوق توقعاتي! وصلت إلى العلامة وأخذت أبحث في الفراغ... محرجا ً ممن ينتظر بالدور خلفي لأني تأخرت بالعثورعلى تلك البقعة الفراغية الغريبة. وبعد جهدٍ جهيد وشفاعة من قريش رأيتها. وجدت تلك البؤرة العجائبية التي سمحت لي برؤية كاملة للمجموعة الشمسية بكل جلالها وكأني أقف بين الكواكب وتوابعها متأملا ً الشمس في المركز بكل ما في هذا المشهد من عظمة وجمال أسطوري ميثولوجي مهيب.
لقد جعلتني الأحداث الأخيرة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط أتذكر تلك اللحظة بكل تفاصيلها. فبعـد أن طالت سنوات الانحطاط وجَــلد الذات منذ بدايات الاستقلال الوطني وحتى يومنا هذا. وبعد أن داخ المواطن وهو يبحث عن نفسه بين ظلم الحكم الوطني وتبعيته وخياناته وبين قهر الأجنبي الطامع ودعاياته المدروسة والممولة والممنهجة. بعد أن خاض مواطن تلك البقاع المقدسـة، بكل الأعراف، بوحول دولة إسرائيل الحارقة القائمة على خرق كل القوانين والأخلاقيات الدولية والإنسانية. بعد أن فـقد المواطن العربي المشارقي كل إيمان ٍ بالنفس والقانون والقيادات والأحزاب والشعارات. بعد كل هذا... وجد نفسه فجأة أمام ما لم يكن يتوقعه أو يحلم به. وجد نفسه أمام جيش ٍ إسرائيلي ٍ مندحر ٍ من أرض الجنوب اللبناني دون قيد ٍ أو شرط تاركا ً خلفة ثـُلة ً من العملاء المحتارين المضطربين الخائفين على أموالهم وأهلهم. ثم وجد نفسه مرة ً أخرى أمام ضرورة تفسير وشرح أسباب تعامل المحتل المختلف للغاية مع قضية الأسرى اللبنانيين. وبعـد ذلك وجد نفسه مـُطالـَبـَا ً من جديد بتفسير سبب أو أسباب صمود الجنوب وتحقيقه لانتصار خرافي بوجه الحديد والنار. الانتصار الذي احتارت القيادات التقليدية، المعتدلة (!؟)، كيف تخفف من أهميته لما له من انعكاسات وارتدادات خطيرة على استقرارها وأمنها واستبدادها وشرعية وجودها. ثم أتت غزة التي لم يستطع العدوان بجبروت سلاحه وسوريالية قوة ناره في وجه الأطفال والعزل أن يركعها. لقد وجد المواطن العربي نفسه أمام بؤرة ٍ مشابهة ٍ لتلك التي شاهدتها في مركز جورج بومبيدو. فجأة اتضحت الرؤية وظهرت الأمور على ما يجب أن تكون عليه. تبين أن الأرض ليست مركز المجموعة وأن الكواكب تدور كل ٌ في مدار خاص به. تبين أن التحام القيادة مع الناس والتفاف الناس حول القيادات هو الذي يصنع النصر خلف النصر. تبين أن الإنسان الجـَمْعي الحر بخياراته والقوي بإيمانه بنفسه هو وحده القادر على اجتراح المعجزات.
في غزة... انتصرت العين على المخرز والدم على السكين. تبين للجميع أن هناك حدود للضغط والظلم لايمكن تجاوزها. لقد وصلت الأمور للحدود الفيزيائية التي لايمكن تجاوزها. يمكنك أن تقصف غـزة والجنوب وتسوي بالأبنية الأرض. يمكن لك أن تجوع الناس والأطفال. يمكن لك أن تستعمل كل أنواع الأسلحة المعروفة وغير المعروفة. ولكن لا يمكن لك أن تسحق إيمان إنسان مؤمن بنفسه وبقدراته.
يقول مكسيم غوركي في قصته الرائعة الاعتراف (1908) التي انتقده عليها لينين وبشدة إن أكبر جريمة ارتكبها أسياد الحياة هي أنهم حطموا قوة الشعب الخلاقة. وسيأتي وقت تعود وتتجمع فيه إرادة الشعب كلها في بؤرة واحدة. ولابد أن تظهر فيها عندئذ ٍ قوة عجيبة لاتقهر. فينبعث الإله من جديد.
لقد وضعت غزة الحاكم العربي والعالم العربي والعالم كله أمام حدود الفيزياء. لايمكنك أن تضغط الماء إلى ما لانهاية فللكتلة حق. كما لايمكنك أن تخالف منطق الجاذبية فللثقالة حق. ولايمكنك أن تظلم الناس بلا حدود فللشعب حق لابد أن يحصل عليه يوما ً ويأخذه رغما ً عن الظروف والأشياء والتآمر والمتآمرين. لقد انتهت صلاحية معسكر الاعتدال العربي الافتراضية ووضع الشعب عينه على بؤرة وضوح الرؤية. وماأظنها إلا بداية النهاية ولاعـــودة عـن ذلك.
للفيزياء حدود و آن لنا جميعا ً أن نعيش حدود الفيزياء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رائع
سعاد خيري ( 2009 / 8 / 6 - 09:48 )
ما احوج البشرية اليوم الى الثقة بقدراتها الجبارة على التحرر وبناء الحياة الافضل

اخر الافلام

.. مرض السكري.. قريبا حبوب الأنسولين ستعوض الحقن لمرضى السكري


.. معتصم مناصر لغزة يلقي بنفسه في المياه هربا من الشرطة بهولندا




.. لماذا سحبت شركة -أسترازينيكا- لقاحها ضد كوفيد-19 من الأسواق؟


.. إسرائيل تنفذ أكبر عملية هدم لمنازل فلسطينيين في صحراء النقب




.. صباح العربية | لعشاق التصوير.. أفضل كاميرات الهواتف الذكية ل