الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحرِقوا الصريم .. قصة قصيرة

مديح الصادق

2009 / 8 / 7
الادب والفن



الله أكبر .. الله أكبر , تعالت أصوات ركاب الباص الثمانية بعد أن أفاقوا من صدمتهم , تفقدوا أنفسهم , ومن معهم , الحمد لله , أمعن كل منهم بوجوه مجاوريه علامة الارتياح , مرت بسلام , ألا تبا لها تلك الكثبان الرملية المتحركة مع الريح , تغلق الطريق الصحراوي على غفلة , طريق ضيق يمتد من طرابلس العاصمة , ساحل الأبيض المتوسط حتى {غدامس } تلك المدينة الأثرية المتربعة على قلب الصحراء , عند حدود الجزائر في الجنوب الغربي , سبعمائة كيلو مترا تجتاز السهول الحمراء , صعودا على على قمة { نفوسة } الجبل الغربي ذي التربة الصخرية , الزيتون , اللوز , التين , الأمازيق

وشدة مراسهم , نزولا بين تلال لا تتنفس إلا ثعابين قاتلة , وحوشا برية , أشباحا يروي قصصا مثيرة عنها السكان بشهود أحياء .



أحس بألم في ظهره , اعتدل قليلا , مسح بمنديله عينيه , ووجهه , ريح النياسين لا تجلب إلا النتن , والغبار , تلمس حقيبة بجانبه , فتحها بارتياح , مجموعة من المغلفات , رحلة تتكرر كل أسبوع , سبع ساعات أو أكثر , ليلا , هربا من حر الصيف , ما من حيلة فعقد عمله مع الجامعة لا مجال فيه للرفض , الكلية بحاجة لأستاذ نحو وصرف , ومعها بلاغة ونقد أدبي , وعلم الأسلوب , أصول الكتابة , وشيء من مبادئ الموسيقى , وإن كان مسرحيا , لايهم , على الأقل يملك حسا فنيا , محاضرات نظرية تحاشيا لمن يرى أن الموسيقى حرام , وهو أساسا لا يجيد إلا النقر على الصينينة عندما يحلوالجو .



ساعات قلائل تفصله عن موعد الامتحان النهائي , الخامس عشر من حزيران , الأسئلة بحوزته , لا بد من وقت لتصويرها بالجهاز البطيء , إن كان له مزاج وحبر كاف , مائة طالب هو قسم اللغة العربية , جلهم من الإناث التاركات من زمن , وأفراد شرطة , وموظفين يبغون تعديل الرواتب لا غير , تم حشدهم كعدد يبرر المطالبة بفتح الكلية , التي جاهد من أجلها شيوخ القبائل , وبعض من أصدقاء الأخ القائد , واللجان الثورية , لا مشكلة إلا بكادر التدريس وهو مقدور عليه ما دام هناك حكام عدل يصدرون الكفاءات للجيران , والأحباب , أليست رسالة العلم ؟؟ .



كيف حالك يا أستاذ ؟ صوت ناعم , خائف , خجول , الركاب والسائق نزلوا رغم العاصفة يفحصون العجلات , همس في أذنه من المقعد الخلفي المحجوز دائما للنساء , مألوف لديه , بل متشبع به , لم يلتفت لئلا يثير الشكوك , جريمة كبرى هي أن تحدث امرأة في محل

عام , حتى لو كانت طالبة وأنت أستاذها , داخل الحرم الجامعي أنت محاط بالمراقبين من كل اتجاه , أول التعليمات : لا يسمح للأستاذ بالانفراد مع الطالبات , كل شيء في قاعة المحاضرات , مفهوم ؟ , نعم , أمغفل أنا أخالف الأوامر وأخسر عقدي ؟ , لا .



مريم , طالبة السنة الرابعة , المتميزة , الواثقة من نفسها , الطموحة بلا حدود , إنني أرى نفسي فيك , لا تخذليني أرجوك , مريم , تذكري , الماجستير , الدكتوراه , قصائدك الخجولة التي بعثتُ فيها الحياة , كما قلتِ يوما , غلطة العمر إن لم تفعلي , أقسم أن صناديقي أمزقها بين يديك , هو الموت بعينه أن تدير ظهرك لطالب علم يمد كفا غضة يستجديك , إن كنت كهذا إذن نبع مالح أنت , أو غمام خاصم الغيث , وكرمة بلا ثمر .



آه , ألا تدري أن ابن عمتي قال كلمة لوالدي حين كنت بالسن الذي يُخاف فيه على الفتاة , وعدتهم حينها بالوفاء بعهدي حتى أكمل دراستي , هدنة كانت , لكنني خسرت التسويف , لقد تمت مراسيم العقد ليلة أمس في العاصمة , حيث يقيم , متزمت , حاد المزاج , أزاح من قاموسه الضحك , أو حتى مجرد الابتسام , عورة يراه , اختلطت الكلمات بالبكاء , الكارثة , المصيبة أنه ألبسني الخمار , كيف بي أن أكمل الماجستير وكان شرطه : لا تفكري بالتعيين , ميسور الحال أنا , موفورة عندي نعمة الله .



لا يعلم إلا الله , من أين يأتي بهذا المال ؟ جاهل , أمي , بلا وظيفة , همه السفر إلى تونس دوما والتجوال , الله أعلم , من أين ؟؟ المهم حافظ على نفسك أرجوك , لقد سمعت همسا , أفكارك التي تمررها من خلال المحاضرات غريبة جدا , تثير الشكوك , أفهمها وأدرك مغزاها , أتعاطف مع ما تريد , أراه حلما بعيد المنال , حلم جميل

حذار , فقد تلقى مصيرا , هدر الدم .



اتجهت الأنظار إليه , غير دفة الحديث , لابد من وصولنا بسلام قبل وقت الامتحان , بضع ساعات تفصلنا , تلال الرمل ما زالت جاثمة على الطريق , السماعة في أذنه , مذيع الأخبار : بعد صلاة الفجر تغير الريح مسارها إلى الشمال الغربي , لم يخف ابتسامه بحذر .



عادالشيخ { البهلول } بجانبه , متوسط القامة , مربوع , صبغة الأحمر لم تخف عروق اللحية البيضاء , بسروال قصير يرفعه بين الفينة والأخرى , على الجبين سيماء من أثر السجود , مسبحة طويلة , أدعية , تسابيح , آيات بصوت خافت ليخفي جهله في الإعراب , سبحان الله , إنه هو نفسه , في كل سفرة يقابله , تذكرت , له ابنة تزوجت في قرية عند خط الحدود مع الجزائر , عند المعبر , لكن لماذا يستبعده الشرطة العسكرية من طابور التفتيش , حتما بعيد هو عن الشبهات , والتفتيش عن المخدرات , لاغير .



الحمد لله على السلامة , أستاذ , كل شيء بأمره , له الحمد على كل حال , وإن كان مكروها , ما هو إلا امتحان لبني آدم , تذكير بأن الله بأمره النجاة , وبيده الموت , مساكين , لا يتعظون , إن الله غالب على أمره , وهو دوما مع الصابرين .

حافلة أخرى , ثالثة , يعرفون بعضهم البعض عدا سواحا أجانب استهواهم ما قرأوا عن الصحراء , وبدوها , وبعض الآثار , هناك في { غدامس } بانتظارهم شيوخ يجيدون مفردات لغات ركيكة , تسير الحال لقاء أجر زهيد .



الفجر , الفجر صاح بأعلى صوته الشيخ , اصطف القوم بلمح البرق , تربة رملية تغوص بها الأقدام , أشواك تدمي الجباه , لكن الصلاة هنا فيها أجر كثير , وثواب , إمّ الصلاة , يا أستاذ , تلفت حوله , لا غيره حتما هو المقصود , كم أنت ذكي أيها الشيخ , تنازلت عن الإمامة طوعا , صلاة الفجر إجهار , وفي الإجهار تنكشف العيوب , النحويون دائما بالمرصاد , لا عليك , أقيموا الصلاة , نادى , تراصوا جزاكم خيرا , القبلة بهذا الاتجاه , الدعاء , اللهم أزح عنا عوارض الطرقات , أزل الغمة عن عبادك الصالحين .



الريح غيرت مسارها , اشتدت أكثر , شمالية هي الريح , تلاشت تلال الرمل , وانفتحت الطرقات , تهللت الأسارير , تعالى التكبير , دعاء الصالحين مستجاب , والله لأنت صالح , يا أستاذ , ألا زرتنا ودعوت لبناتي الخمس العانسات , وقد يكون من نصيبك واحدة منهن , والدة مريم همست , رعاك الله , بيتنا مسكون لعل ليلة تبيتها فيه تدعوهم للرحيل عنا بسلام , أشجعهم كان الشيخ { البهلول } ستنال الجنة لو زوجتني ابنتك على سنة الله والرسول , ثالثة الأثافي ويستقر القِدر , أولاد عمك نحن , ذرية لأبي زيد الهلالي , أما أخبروك ؟ , على بركة الله ليصعد الجميع في المركبات .



استجمع الأستاذ قواه , اللحظة لا تتكرر مرتين , موقفه يؤهله للإفتاء , أيها الناس , جال بنظره بكل الاتجاهات , كما هم الخطباء , أتعلمون لماذا تكدست تلال الرمل في تلك البقعة بالذات , فأغلقت علينا الطرقات , إنها إرادة الله , هتف الشيخ , أضاف آخر : عقاب منه لأن الناس ارتكبوا المعصيات , والنساء خرجن بلا حجاب , والشباب انشغلوا عن العبادات بالمغريات , و .. .و ...

انظروا خلفكم , أيها الصالحون , علام تكدست ذرات رمل , خفيفة , تذروها الرياح ؟ أليست شجيرات الصريم تجمعت حولها الرمال ؟ أوتاد هي للعوارض , والعقبات . غيّر نبرة صوته وفق مقتضيات الحال , واعظا : مَن اقتلع صريمة من الطريق غُفِرَ له بعدد أشواكها من ذنوب .

البدوي لا يستغني عند السفر عن اثنين : السكين , وولاعة النار , شمر الرجال السواعد , أشهروا السلاح , اقتلعت عشرين فحسب , ما زال بذمتي كثير , تشاجر اثنان , سكين أعارها لصديقه فأساء استخدامها لصالحه , لا بأس يا أخوَيَّ فالأجر مناصفة بينكما , عجوز توكأت على جذع قاربت الثمانين : أعرني سكينك يا أستاذ , مباركة منك السكين .


النساء يختلسن النظرات من خلف النوافذ , كلبوة في قفص هي مريم ما ذا بوسعها الفعل ؟ حتما سيرمي يمين الطلاق عليها { مفتاح } إن هي تجرأت وشاركت الرجال في اقتلاع الصريم , ستسري الأنباء إليه حتما فالعاطلات يجدن متعة في نقل وتهويل الإشاعات , وتنسج عنها قصص , وروايات , سيعزف عنها حتى الذين كانوا لنظرة منها يطمحون .



في جيب أمها ولاعة تبغ , وفي الحقيبة حزمة أوراق من ناقلات الأكاذيب , الولاعة , الحزمة , أكوام الصريم , والخِمار , ترجلت مريم , شقت الصفوف بكبرياء , وشموخ , ألسنة اللهب أجلت العتمة

الطريق ابتلعته العجلات , وخِمار مريم شظايا , نشرته الريح في الأرجاء , مات الصريم في الطرقات ...



مديح الصادق

الأول من آب 2009








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. على ارتفاع 120 متراً.. الفنان المصري تامر حسني يطير في الهوا


.. فيلم -ولاد رزق 3- يحقق أعلى إيراد يومي في تاريخ السينما المص




.. رحلة عبر الزمن من خلال الموسيقى.. السوبرانو الأردنية زينة بر


.. السوبرانو الأردنية زينة برهوم تبدع في الغناء على الهواء في ص




.. السوبرانو الأردنية زينة برهوم تروي كيف بدأت رحلتها في الغناء