الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انطلاق القوى اللاواعية .. قراءة في دموع الإبل ل محمد إبراهيم طه

محمد سمير عبد السلام

2009 / 8 / 7
الادب والفن


ترتكز كتابة محمد إبراهيم طه الروائية على التناول المعقد للوعي ، كعلامة إبداعية ، لا كمجال للإدراك ، أو التحليل ، أو الاستبطان ؛ فمكونات هذا الوعي دائمة التغير ، و التطور ، و التداخل ، كما أنها تفكك مركزية الفاعل ، و بنية الوعي نفسه ، و المعرفة التي ينتجها . إنها كتابة طليعية لا تسعي إلى غاية تأويلية للذات ، أو العناصر الكونية ، و الاجتماعية ، و لكنها تحرر مكونات اللاوعي الجزئية في مجالات إبداعية تستمد طاقتها من أزمنة ، و شخصيات عديدة تنتمي لمستويات ما قبل الكلام في تيار الوعي – كما هو عند روبرت همفري – و تتجاوزه ، و تستنزفه في انطلاق عناصره خارج الإطار في الوقت نفسه .
إن الشخصيات ، و الأرواح ، و الثقافات ، و الأزمنة تتفاعل هنا دون مركز ، أو تأويل أحادي لهوية المتكلم ؛ فالهوية جزء من حالة التغير التي تستبدل بنية الوعي المعقدة بانطلاق آثاره ، و صوره في صيرورة من التأويلات الثقافية ، و الحلمية التي تكتسب قوة الحضور عن طريق تجسدها المتكرر في الموقف السردي ، و قدرتها على إحداث انشطار في الوحدة السردية الواقعية باتجاه مسار خيالي بالغ النسبية ؛ هذا المسار يمثل حالة من الإغواء المستمر بتفكيك الصوت كأحد احتمالات العنصر اللاواعي المنفلت في الكتابة .
إن العلامات الجزئية لهذه الكتابة الجديدة تصير التأويل الأقوى للمتكلم / البطل ، و تمتص حدوده ، و ذاتيته في مجال متجدد من التفاعلات الثقافية ، و التاريخية ، و الكونية ، و هي تقع دائما في مسافة ملتبسة بين الموت ، و الحياة دون حسم ؛ مثل مدلول الوعي نفسه ، و علاقته الفلسفية بالذات ، و الموضوع ، و الحلم ، و المعرفة .
يبدو هذا واضحا في رواية دموع الإبل ، الصادرة عن دار الناشر بالقاهرة 2009 . إن محمد إبراهيم طه يحول وعي البطل / سالم إلى مجموعة من التأويلات المضادة لتاريخيته ؛ فهو يفكك عملية التحام الوعي بالذات ، و يستلبه في إغواء العلامات المتحررة من سياقها الذاتي ، و الأسطوري معا ؛ فسالم صاحب صوت فني مجرد تتداخل فيه أخيلة العشق في التراث العربي ، و قيثارة أورفيوس ، و غرائز الحياة ، و الموت ، و هو أيضا ينتمي إلى أنوثة سلمى التي تجمع بين الأمومة ، و تجدد الحياة ، و الارتقاء الروحي ، كما أنه يبحث عن ذاتيته فيما يتجاوزها من قوى اللاوعي التي تؤكد فكرة الخلود ، و قد تجسدت في مكان / مرج عامر .
من هو سالم ؟
إنه حالة تأويلية متغيرة ، و هو كسارد للنص ، يقع في سياق يشبه الوعي ، و يفجره خارج بنيته ، و خصوصيته الذاتية ، و من ثم فالأنا يمارس عملية اتحاد سري بعناصر ، و علامات هذا الواقع السردي الجديد ، و هي بدورها تقاوم تميزها التكويني ، و الزمني معا ، و تكتسب طاقة الفن ، و المخلوقات الأسطورية ، حتى يصير سالم أحد مكونات السياق الشعري الحلمي ، دون معرفة كلية ، أو هيمنة ذاتية على آثاره ؛ مثل سلمى ، و سندس ، و كاملة ، و عبد المجيد راشد ، و مرج عامر ، و غيرها .
لقد اتجهت الدراسات التأويلية للوعي الآن إلى زيادة التجزؤ ، و الاختلاف في فهم الوجود ، و تحليل اتجاهاته المتناقضة ، دون إطار نسبي يميزها ؛ فيرى بول ريكور أن الأونطولوجيا المعاصرة لا يمكن فصلها عن التأويل ، و هي لا تنتمي إلى العلم ، أو تدل على الانتصار ؛ إذ إنها لا تنجو من الحرب الداخلية التي تفجرها التأويلات فيما بينها ( راجع / بول ريكور / صراع التأويلات / ترجمة د / منذر عياشي / دار الكتاب الجديد ببيروت مع سوي بباريس 2005 ص 55 و 56 ) .
يتسع – إذا – مدلول الاختلاف الذاتي المجازي المنتج بواسطة الوعي ؛ ليفتت مدلول الوجود في مسارات متعارضة ، تؤول جميعها الكينونة الإبداعية ، و لا تنتمي في الوقت نفسه إلى أصل ، أو وجود مكتمل .
إن محمد إبراهيم طه يشكل شخصياته ، و فضاءات الكتابة انطلاقا من توتر تأويلي أساسي ، و تداخل بين الأصوات ، و الأماكن الحلمية ، و الأزمنة ؛ فعلامة الإبل مثلا تشير إلى الحزن الكامن في بنية الغناء عند سالم ، و هو دال الانقطاع ، و الموت المزدوج برغبة في خلود طيفي ، كما تشير إلى تجاوز الحدود ، عن طريق إغواء الموت في لقائه بالفن ، مما يدل على تأجيل العدم ، و كذلك عملية الاندماج الكوني ؛ فالإبل كانت علامة اتصال سالم بسندس ، و مرج عامر .
إن سالم / السارد لا يقدم منظورا ذاتيا عن شخصياته ، مثلما يحدث في الروايات التي ترتكز على التبئير الداخلي – طبقا لجينيت – و إنما يؤول صوته الخاص من خلال إغواء رئيسي يكمن في الآخر ، و يكمل مسيرة سالم دون انفصال ، و كأننا أمام صوت كوني تشكله الأطياف الأخرى ؛ ليتحرر مثل قوى اللاوعي الكامنة في نسيج السياق السردي الثقافي الذي يقدمه النص .
* لحظات التوحد /
ينجذب سالم للخيال في منبته الروحي ، و قد تجسد في التنامي الإبداعي لصوته ، و غنائه ، و قد اندمجت فيه لحظات الفن ، و الموت ، و الوجود الكوني ، و تولدت منه الشخصيات التي تقع بين الحياة ، و ما بعدها ؛ فالسارد يقبض على لحظة غناء دائرية بداخله ، تتداخل فيها الأصوات ، و الموجودات ، و تتجاوز المسار الاجتماعي لسالم ، و رغبته أن يكون بدار الأوبرا . إن دائرية صوت سالم تؤجل تفرده الاجتماعي ، و تتجه نحو الأنا الحلمي المنتج للآخر / المكمل ، و المتوحد مع النزعة الإبداعية في الوجود ، خارج الأشكال الزمكانية الخاصة .
لقد ارتبطت سلمى في وعي سالم بعشق الطفولة ، و أخيلة الأمومة ، و الأنوثة ، و الشفافية الصوفية معا . هل كانت صورتها المتناقضة داخل صوت سالم ، و هويته ، و نشوئه الفريد ؟ أم أنها قوة الحياة السحرية في الصوت ، و التي تمنحه حضوره المجرد حينما يتعارض مع الموت ؟
إن سلمى هي طاقة الأخيلة ، و الأساطير في وعي ، و لا وعي سالم ، و هي اتساع الفضاء فيما يتجاوز الحياة الفردية ؛ و لهذا انتصر النص لتوحد سالم بسلمى عقب غيابه المتكرر ، و هروبه منها ، و كأن الصراع بين الوجود الشخصي ، و الفن المجرد انتهى إلى ولوج سالم لما قبل البدايات ، و هنا تكمل سندس طريق العودة إلى أخيلة الفردوس المضادة لجفاف الصحراء – في مرج عامر ، كما تشير إلى تجدد صورة سلمى في مرحلة الشباب ، و دمج لحظات حزن الإبل بالتضاعف ، و الدائرية ، و كأننا أمام أنوثة ، و غناء ، و آثار حزن بلا زمن أو موت .
الصوت هو انقطاع التكوين في الأثر ، و الاختفاء . إنه تهديد للجسد ، أو تأكيد تشبيهي لطيفيته ، و من ثم فهو يعلق الوجود الصلب في مجموعة من الصور ، و الأخيلة المجزأة ، و القوية التي تندمج ؛ لتستشرف البدايات دون أن تحققها في الواقع ، و لكن تظل على حافة الوجود فيما يسبقه من غناء فني .
* دموع الإبل /
يستعيد سالم حدث دموع الإبل ، و انجذابها للموت عقب سماعها مواويله في كوم ربيع ؛ ليؤكد الدائرية ، و الاختلاف في بنية الصوت ، و الإدراك معا ؛ فمرة تبرز سلمى في المشهد لتمنع النصل عنه ، و أخرى يستمع فيها سالم لاختيار الإبل طريق الجزار لا السير ، ثم يستعاد المشهد كله عند الوصول إلى مرج عامر ، و تجدد الغناء فيه ، و هنا يذكر سالم انغراز النصل في رقبته ، و نجاته في الوقت نفسه ، و كأن الإبل قد اختارت الغناء ، لا الموت منذ البداية ، و هو اختيار سالم اللاواعي حين أنتج وحدة ( الخروج / الموت ) المضافة لقصة دموع الإبل المكررة في النص .
لقد اتجه الحكي إلى الخروج الغنائي لينتج من سالم ساردا آخر ، و واقعا يشبه سياق الإبل التشبيهي الجديد ، عقب خلاصها من الدم ، و الرحلة الآلية ، و تكوينها ، و الحدود جميعا .
* مرج عامر /
ينبع مرج عامر من أخيلة اللاوعي حول الفضاء المتسع الدائري ، و فيه يولد الصوت الإنساني قبل معاينة آلام الوجود الذاتي ، و هو يتماس – على المستوى الثقافي – مع أفكار الوفرة في الفردوس الأرضي ، أو الأرض الأولى الحلمية ، و الملكوت النوراني في التصوف ، و البحث عن القوة ، و الخلود في النصوص القديمة ؛ مثل جلجامش ، و مرج عامر نيتشوي أيضا في تضاعف علاماته الإبداعية ، و تكرارها المادي الاختلافي ، و هو يحاكي قيثارة أورفيوس المجردة ؛ لأن كل ما فيه يعيد إنتاج صوت سالم ، و لاوعيه الأقوى من وجوده كراو للحكاية . لقد توقف سالم عن الحكي عقب دخوله المرج ؛ ليؤكد استراتيجية الزيادة المحملة بطاقة الأحلام ، و الأطياف الأولى التي تنتقم من جفاف الصحراء ، و الحياة الآلية لشخوص الرواية ؛ فحنا فلسطين يذوب في حكايات البلح المشبع ، و ماء الحياة المقاوم للمرض في هذا المكان الذي انطلق كأصل للشخصية ، رغم جذوره اللاواعية في الثقافات الإنسانية . ثم يصف سالم تضاعف سندس أربعين مرة ، في سياق وفرة الضوء ، و الماء ، و الزرع ، و الانجذاب للفن حين يشكل المكان ، و يحرر عناصره ، و يعلقها بين البدايات ، و ما قبلها .
لقد بدأ الفن غامضا كأثر للحياة البشرية ، و علاقتها بالحضارة في الكهوف ، و كان ملتحما بلحظة حنين لقوة الخيال الغريزية ، و قد امتدت جمالياتها من الطوطم ، حتى التكوينات المفتوحة التي تعاين الزيادة فيما هو إنساني ، أو تتجاوزه ، و تفككه ، و هذه الزيادة في صورتها المادية هي التي شكلت مرج عامر ، و قد توقف السرد عند الوصول إلى لحظة الغناء اللامتناهي ؛ ليظل الفن في حالة عمل ، فيما بعد سالم ، و سندس ، و سلمى ، و الإبل .
إن المرج يشبه الوعي الإنساني في استسلامه للطاقة السرية التي تتحدى بنيته دائما ، و تضعه في مواجهة نشوة الطفرات الخيالية بما تحمل من رعب ، و مرح ، و تحول ، و رغبة في استمرار اللعب .
* تيار الوعي ، و تناقضاته /
الوعي في رواية محمد إبراهيم طه ينتج مكوناته الإبداعية ، ثم يعكس تناقضاتها من الخارج ، و كأنه يناظرها في التطور الحلمي ، و التحرر الفني من الإدراك الكلي ، أو السرد الإخباري ؛ فالأحداث ، و الشخصيات تنتمي إلى مجالات الاحتمال ، و التناقض ، و التعدد الجزئي ، و من ثم فإن تيار الوعي يبدأ من مستويات ما قبل الكلام ثم يسير في اتجاهين :
الأول : استدعاء الدوال الحلمية في سياق سردي احتمالي ؛ مثل ظهور عبد المجيد راشد في الصحراء ، و إخباره لسالم بأن سندس هي سلمى منذ عشرين عاما .
عبد المجيد راشد لا ينتمي إلى مجال الانتباه في النص ؛ إنه طيف يوجه مسار سالم إلى بدايات البهجة الإبداعية في الحلم ، و براءة عناصرها الفنية ، مثل بروزه خارج البدايات ، و النهايات ، و إشارته لأنوثة سلمى التي تجمع بين الجنس ، و الشفافية الروحية في لقائها المضاد للزمن بسندس البدوية ، و هو يرد سالم لأصله الفني ، و صوته الأسطوري المتواتر ، الذي يقاوم الانقطاع في تجاوزه لمنطق الهوية التاريخية . إن عبد المجيد هو الأثر السابق لوجود سالم في العالم ؛ إذ يجمع بين تجاوز الحدود ، و عودة الموتى في ظهور بريء متجدد .
الثاني : الطفرات المفاجئة ، و الاستبدالات التي يحدثها اللاوعي ؛ مثل نشاط أبي دراع المفاجئ في حياكة بدلة سالم قبل رحلته في الصحراء ، و كأنه يدفعه إلى تجاوز الحياة ، كما أنه ينتقم من هويته ذات الذراع المبتورة من خلال التوحد بنشوة اللامعقول الكامنة في وعيه . لقد تضاعفت اليد ، و طارت باتجاه الواقع الطيفي اللازمني .
محمد سمير عبد السلام – مصر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة