الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ملاكمة بقفازات الفن

يوسف ليمود

2009 / 8 / 7
الادب والفن


“لكنت سأصبح ملاكما لو لم آخذ طريق الفن”، قالها الفنان الألماني المشاغب الراحل يوزيف بويز. والحق أنه كان ـ والكلام ينطبق على كل فنان ـ فيه من الملاكم الشيء الكثير. فكرة أن الفنان هو ذلك الشخص الحالم الرقيق المرهف داست عليها كل قطارات القرن التاسع عشر وأرسلتها المراكب الفضائية في القرن العشرين إلى واحدة من سماوات العدم بغير رحمة وبلا رجعة، فكما يحمل الفنان - أيّ فنان حقيقي - مسيحاً في جنبه الأيمن، يحمل كذلك ملاكما شرسا في جنبه الأيسر، وما كانت الوردة لتعيش أو تُحَب لولا شوكتها الجارحة.

التاريخ سجل لنا كثيرا من الحالات الفنية التي جمعت، إبداعيا، بين العظَمة الفنية والرقة، وبين شراسة أصحابها وعنفهم، حياتيا. نذكر، على سبيل المثال، فنانيْن تشابهت تفاصيل حياتهما ومصيرهما المفزع حد التطابق: مصور الباروك (في القرن السادس عشر) الإيطالي الشهير كارافاجيو، وابن بلده المخرج السينمائي المعاصر، الشاعر والرسام بيير باولو بازوليني. لاحقتهما الفضائح الجنسية والأخلاقية (كلاهما كان مثليا مأخوذا بالعنف الجسدي والتسلّط السادي) في كثير من المحاكم والمدن التي هربا منها أو إليها. عُثر على الأول مغتالا على أحد الشواطئ في الصباح، وفي الصباح وُجد الأخير مقتولا ومسوّىً بجثته الأرض في إحدى الحدائق العامة، كان قد اختلف مع عشيقه ليلا وهما في السيارة فاقتتلا واستطاع صديقه أن يسحب رافعة حديدية من السيارة هشّم بها رأسه ثم داس عليه بالسيارة جيئة وذهابا!

على المستوى النفسي، لا فرق كبيرا بين جروح ما تُسمى الروح وجروح الجسد وكدماته. كلاهما يؤثر في الآخر ويتأثر به. ولن نذهب بعيدا لو افترضنا أن كل فنان كائنٌ مجروح. وجوديا هو شخص مجروح. ويبدو بديهيا أن جرح الوجود هذا هو دينامو الطاقة الفنية في كيان الفنان ومحرّكها. هذا إلى جانب ما يستولده هذا النبع الأصيل المتألم، من جروح وكدمات ناتجة عن غربة الفنان وضلاله وتخبطه واصطدامه بعالم جاف أجوف كاذب، خلال رحلته في البحث عن ذاته ومحاولته تحقيقها والتي غالبا ما يفقد الفنان فيها براءته، وتاليا يتأقلم مع الواقع ليجد ممرا بين أشواك العالم ليغرس فيه وردته. السؤال هو: ما الجرح، أو ما الكدمة؟ ولأننا نُطل على الموضوع من زاويته البصرية في بعدها التعبيري، فلن نقترب كثيرا من الناحية النفسية لمعنى الجرح أو الكدمة، فدائرتنا في الأخير تنحصر في تلك البقعة الليلكية المحتقنة المتورمة، أو ذلك الشق النازل منه خيط دم كدمعة معجونة بمسحوق الأحمر.

في الإمكان، قياسا على نظرية نيوتن الشهيرة عن الفعل ورد الفعل، أن نقول إن كل ارتطام مفاجئ عنيف بالجسد هو صدمة للجسد، ورد الفعلِ اللا إرادي، حتى في حالة الإغماء والغيبوبة، يكون من صميم اللحم، في البقعة المصدومة: ارتجافها، تورمها، ازرقاقها، احمرارها، تهتكها، انفقاؤها، سيلانها… إننا أمام مادة (لحم) يعاد تشكيلها وتلوينها في لحظة همجية لا حسابات فيها، هدفها أو نتيجتها هي التشويه، المؤقت أو المستديم. لكن هل كل تشوه هو قبح بالضرورة؟ ما هي الحدود الفاصلة بين الجميل والقبيح؟ ألم تنطلق رحلة الفن الحديث من التشويه، تحريف الواقع حد تشويهه لكي يصير واقعا فنيا، جماليا بالدرجة الأولى، وليس مجرد محاكاة عمياء لواقع باهت؟ وألم يعتمد الكثير من النتاج الفني المعاصر القبيحَ ويقدمه كما هو، دون أدنى محاولة لتجميله، كشيء جمالي في ذاته؟ وكيف، في طرفة عين، تتحول صورة فوتوغرافية لفتاة مضروبة بعنف تغطي الكدمات وجهها وجسدها، من منظر نفزع لو رأيناه في الشارع أو في مستشفى، إلى موضوع جمالي نقف نتأمله بدم بارد في متحف أو صالة عرض؟ يبدو واضحا أن السياق أو الظرف الذي نرى فيه المنظر هو الذي يحدد كيفية النظر ويطوّع جهازنا الاستقبالي وحواسنا الجمالية!

والأهم، هو إدراك أن لا شيء جميلا أو قبيحا في ذاته، وأن الجمال أو القبح هو ما ينعكس من كيان الرائي على الشيء المرئي! ولا ننس طبعا أن فزَعَنا من منظر أو حدثٍ ما أو تعاطفنا معه، ينبع أصلا من عملية تمثّل هذا المنظر أو ذلك الحدث من جانب الناظر، كما لو أن جسد المشاهد هو من وقع عليه العنف. والواقع أن عملية التمثل هذه، بقدر ما تحمل من معاني التعاطف والتواصل والإحساس بالآخر، فإنها تحجب عنا الكثير من فرص التأمل الجمالي في الواقع المعيش لما نعتبره بالبداهة قبحا أو مصيبة، بسبب تمثلنا وقوعه علينا. ربما هذه المنطقة البرية، أو الأحرى البربرية، هي تحديدا الحلبة التي يمارس فيها الفن مباراته الثقيلة الوزن، من دون حَكَم، ولا قوانين، وفي حضرة جمهور قليل.

في الملاكمة تتجسد رمزية الصراع الوحشي في الحياة، وفي الملاكم تتجسد تناقضات الكائن الذي يمر بتجربة هذا الصراع. الجندي الذي يُزجّ به إلى خط النار، يؤمن بشكل أعمى أنه سيعود سالما إلى أمه ليحكي عن بطولاته، ولا يتصور أبدا أن الطلقة الأولى في المعركة ستكون في رأسه هو بالذات. كذلك الملاكم، يؤمن أنه هو من سينتصر. دماغه السميك الجلد لا يسمح له بالتفكير بأن ضربة خصمه القاضية يمكن أن ترميه أرضا في الجولة الثالثة. آلية تفكيره تنطوي، بشكل غير واع، على شيء من السحر البدائي في تضخيم الذات على حساب تقزيم الخصم، مع استبعاده مَثل “تيجي تصيده يصيدك”، وطبعا لا مجال هنا لتأمل روحية فكرة “الآخر هو أنا”! الفنان، من المفترض أن يقوم بهذا الدور: الآخر هو أنا، العالم هو أنا!

بحكم الطاقة، الناعمة والعنيفة في آن، المبثوثة في كيان الفنان، فإن صراعه يدور في حلبة عمله الفني، في مستطيل أو مربع اللوحة إن كان رساما مصورا. فلم يعد وجهٌ جميل بابتسامة رائقة كوجه الموناليزا، بالنسبة للفنان اليوم، سوى كذبة لطيفة لا تُشبع توقه لتجسيد جمال وحشي متورم بكل أنواع الكدمات والتشوهات والبقع والدوائر والتكسّرات الجمالية التي يمكن قراءتها كيفما يريد الناظر، إنْ شكليا صرفا خُلوا من أي معنى، أو إحالتها إلى معامل الروح وتفاعلاتها الكيميائية الدراماتيكية حال قراءتها بشكل تعبيري أو رمزي أو تفسيرها اجتماعيا أو سياسيا… الخ. وعنف الفنان في تحطيم الشكل استنفد كل أنواع التجريب منذ بداية القرن العشرين بدءا من التكعيبيين وصولا إلى إحداث مزق بالمشرط، في القماشة المشدودة كالطبل على إطار، تحيل اللوحةَ إلى شفتي جرح مفتوح على رحم غامض، كما في أعمال المصور الإيطالي لوتشيو فونتانا. ناهيك عن دق المسامير في اللوحة (الألماني جينتر إيكار)، أو الدوس بالحذاء الملوث باللون على سطح اللوحة (الألماني بازيليست)، أو تمزيق اللوحات ونثرها على أرض المعرض كتجهيز فراغي يسخر من فكرة الرسم نفسها… الخ.

ليست التشويهات العقلانية الباردة في وجوه بيكاسو، ولا لوحة آندي وارهول التي طبع عليها صورة بطل الملاكمة الشهير محمد علي تستحضر في الذهن فكرة العنف أو توحي بوجه ملاكم مضروب، لكن مجموعة من البورتريهات الشخصية للمصور الإنجليزي فرانسيس بيكون تفعل ذلك، رغم أن الفنان لم يقصد، من قريب أو من بعيد، أن يتناول وجه ملاكم أو مضروب، اللهم إلا إذا كان يفكر في نفسه كملاكم مضروب، الأمر الذي كانه بمعنى ما.

لم يكن هذا الفنان متصالحا مع وجهه وشكله عموما: رأس صغير، وجنتان ناتئتان، عينان ضيقتان عائمتان في محجرين كبيرين، أنف ضخم، فم صغير منطو على عبوس! حوّل الفنان وجهَه البيضوي إلى ورم، كدمة رئيسية توالدت منها كدمات وانبعاجات وقروح لونية تطفح بأسىً رمادي، ولا فرصة للنظر إلى تلك التحريفات والتشويهات ككاريكاتور مضحك بل كمأسوي دامٍ. إنه نوع من نزع الجلد عما تحته، فإذا بالأنسجة يتداخل بعضها في البعض، كجدائل شعر بعثرتها الفوضى: المحتقن في الرائق، الشحم في اللحم، الأزرق في الوردي والمضيء في المعتم.

المادة، أو اللحم، تحت يد هذا الفنان أصبح سائلا، هلاما يندلق في المكان كما يندلق لون على مسطح. كل دائرة أو كشطة لون أو سحجة أو مسحة عنيفة على سطح الصورة، يقابلها عنف غامض سبق أن مورس على الكيان الداخلي الذي صوّر وجهَه بهذا الحس. إنها لكمات القدر التي مورست على المضغة في الرحم قبل أن تنزلق إلى العالم، ولكمات العالم التي مورست على الهيكل النفسي للفنان بعد أن انفصل عن الرحم إلى أرض غربته النهائية، فكان رد فعل الفنان لكماتٍ موجهة إلى تلك المرآة القماش، يوجهها إلى وجهه هو بالذات ولكن بقفازات الفن، الناعمة والشرسة في آن، والتي تُدين في صمت أكثر مما تصرخ!

يوسف ليمود
مجلة جسد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى