الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطيب صالح: هل أقول وداعاً؟

أحمد حسو

2009 / 8 / 7
الادب والفن


قبل عشر سنوات كلفني القسم العربي بإذاعة دويتشه فيله الألمانية بإعداد برنامج إذاعي عن الروائي السوداني الكبير المرحوم الطيب صالح بمناسبة بلوغه السبعين عاما. يومها واجهتني مشكلة تبدو عابرة لكنها أساسية في مثل هذه البرامج، إذ لم أعثر في أي مرجع يتناول حياة هذا الروائي على التاريخ الدقيق الذي ولد فيه. فكل من كتب عنه أرخ لميلاده على الشكل التالي: "ولد الطيب صالح في صيف عام 1929 في قرية الدبة في الشمال الأوسط من السودان"، أي لا شهر ولا يوم. وبعد طول بحث، وبعد أن يئست من وجود مرجع يؤرخ بدقة ليوم ميلاده، حسمت أمري وقررت أن أتصل به، وهذا ما حصل. وبعد تبادل التحيات دخلت في الموضوع مباشرة وقلت له: "أستاذ طيب إذاعتنا أعدت في الأسبوع الماضي برنامجا عن الروائي التشيكي ميلان كونديرا بمناسبة بلوغه السبعين وقررنا إعداد برنامج عنك أيضا وللمناسبة نفسها، لكنّ المشكلة أننا لا نعرف بالضبط اليوم الذي ولدت فيه". ضحك بصوت عال وقال: "أنا لست كونديرا يا أخي؛ هو روائي مشهور وأنا شخص بسيط لا أستحق مثل هذا التكريم". فأجبت بلهجة الواثق: "أنت كونديرانا وتستحق هذا التكريم وأكثر"! فضحك من جديد وقال كلمته المعهودة عندما كان يتساءل بدهشة عن شيء ما: "والله!؟" فأكدت على وجهة نظري. وبعد أخذ ورد اقتنع الرجل وأعطاني التاريخ الدقيق لميلاده. وهكذا كان؛ وقدمنا بالفعل برنامجا ثقافيا شاملا عنه شارك فيه أكثر من زميل وكان أول برنامج إذاعي من إعدادي.

كنت قد تعرفت على الطيب صالح شخصيا قبل ذلك بعام؛ أي حين قام بزيارة لمدينة كولونيا، حيث أسكن، ضمن جولة له في ألمانيا للترويج للترجمة الألمانية لروايته الرائعة "موسم الهجرة إلى الشمال". ذهبنا لاستقباله في محطة القطار الرئيسية، زوجتي وأنا، فقد كان قادما بالقطار من مدينة هامبورغ الألمانية، التي زارها للغرض نفسه، أي تقديم روايته القديمة الجديدة "موسم الهجرة إلى الشمال" للقارئ الألماني. كانت لحظات مؤثرة بالنسبة إلي، الطيب صالح وجها لوجه أمامي! هذا شرف لم أكن أحلم به في أي يوم من الأيام. قضيت برفقته ثلاثة أيام لن تنسى. كنت أعرفه جيدا، قبل ذلك، من خلال كتاباته بالطبع، وخصوصا عندما كنت طالبا في سوريا. فمن منا لم يكن يعرف الطيب صالح في ذلك الوقت؟ ومن منا لم يكن قد قرأ "موسم الهجرة إلى الشمال"!؟ لكن أن تجلس معه وتسمعه متحدثا عن تاريخ السودان، عن دوره السياسي أيام زمان وكيف تغيرت الأحوال مع حكومة الإنقاذ، عن عمله الإعلامي، فهذا شيء آخر.
كان كما تخيلته مستمعا جيدا وطيبا كاسمه؛ كان متواضعا، بسيطا، إلا أنه كان يخفي وراء هذه البساطة ذكاء وقادا؛ وقد بدا ذلك جليا من خلال تعليقاته الساخرة والمكثفة. كان يطرح أسئلة دقيقة عن الأمسية والجهة المنظمة لها وكيفية تلقي القراء الألمان للأدب العربي عموما ولأعماله خصوصا. وحين عرف أني من سوريا أمطرني بوابل من الأسئلة عن السلطة والمعارضة دون أن يخفي "إعجابه بهذا البلد وأهله". كما سألني عن الجالية المسلمة في ألمانيا وكذلك عن الترجمة من العربية إلى الألمانية والمعايير التي على أساسها يتم اختيار هذه النصوص. أذكر أنه أظهر استياء من سيطرة بعض الأسماء العربية على المشهد الثقافي في الغرب، من خلال الترجمة، مع أنها، برأيه، لا تستحق كل هذه "الضجة" فبعضها غير معروف في بلادها. كما سأل عمن سيترجم له في الأمسية. وحين قالت له زوجتي بأنها هي من ستقوم بهذه المهمة، سألها عن علاقتها بالشعر العربي الكلاسيكي وخصوصا بأبي نواس لأنه قد يستشهد ببعض الأبيات له في سياق إجابته عن بعض الأسئلة التي قد تطرح عليه! وحين بدت قلقة من هذه المهمة الإضافية طمأنها بأنه سيتولى شخصيا ترجمتها إلى اللغة الإنكليزية وبالتأكيد فإن معظم الحضور يفهم لغة شكسبير.

كان هذا اللقاء فاتحة علاقة إنسانية طويلة مع الطيب صالح استمرت إلى أن جاءت لحظة الوداع الحزينة في الثامن عشر من شهر شباط/ فبراير الماضي حين سمعنا بخبر رحيله عن هذه الدنيا. ومنذ هذه الزيارة إلى كولونيا اعتدنا أن نلتقي به من عام إلى آخر، خصوصا وأنه أصبح ضيفا مألوفا في ألمانيا يدعى إليها كلما تعلق الأمر بالثقافة العربية. وأذكر أني كنت أشعر بمزيج من الفخر والخجل حين كان الطيب صالح يبدأ أمسياته الأدبية في كولونيا بشكر أصدقائه ويذكرني من بين من يصفهم بـ"أصدقائه" ويشكرني ويشكر زوجتي لأننا كنا السباقين إلى دعوته واستقباله في هذه المدينة.
وبالرغم من أن إحدى بناته كانت تدرس في ألمانيا فإني أجزم بأن علاقته بهذا البلد بدأت فعليا بعد ترجمة روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" إلى الألمانية. فالطيب صالح لم يكن معروفا، بشكل كاف، في ألمانيا قبل صدور الترجمة الجميلة لريجينا قرشولي لهذه الرواية، كما هي حاله في إنكلترا أو حتى في فرنسا. فقد تأخر الألمان أكثر من ثلاثين عاما في ترجمة رائعته السالفة الذكر، إلا أنهم كانوا قد ترجموا قبل ذلك رواية "عرس الزين" ومجموعة "دومة ود حامد" القصصية. وبالرغم من أنه كان يكابر ويحاول أن يقلل من قيمة هذه الرواية مقابل أعماله الأخرى، كأن يقول إن "عرس الزين" أقرب أعماله الروائية إلى نفسه وأن ملحمة "بندر شاه" بالجزئين اللذين صدرا عنها "ضو البيت و مريود" (إذ لم يكمل كتابتها) "أفضل ما كتبَ" إلا أنّ هناك إجماعا كونيا بأن موسم الهجرة هي الطيب صالح والطيب صالح هو موسم الهجرة. كان هذا التقويم يرعبه رغم معرفته الدقيقة بأن "لعنة" الموسم لن تغادره أبدا ومهما حاول التهرب منها أو حتى لو كتب روايات أخرى يعتقد أنها أفضل، إلا أنه، مع الأسف لم يفعل. وحتى مقالاته الأسبوعية في الدوريات العربية وسلسلة "مختارات" التي صدرت عن دار الريس في عدة مجلدات، لم تساهم في تحريره من شبح رائعته "موسم الهجرة" الذي ظل يلاحقه إلى آخر يوم في حياته. أذكر كيف جمح الخيال بقارئة ألمانية في مدينة كولونيا إلى حد أنها حاججته طويلا لتنتزع منه اعترافا بأنه هو نفسه مصطفى سعيد بطل الرواية، المتهم بارتكاب جرائم قتل أثناء إقامته في إنكلترا. ولم تتراجع السيدة أمام إصراره بأنه شخص مسالم وأنه خلق هذه الشخصية من محض الخيال. لقد بدت السيدة مقتنعة، بعد قراءتها لهذا العمل الروائي العظيم الذي شكل يومها ثورة في السرد العربي، بأن هذا السوداني الذي يجلس أمامها ويلقي قصائد لأبي نواس بالإنكليزية ليس إلا مصطفى سعيد نفسه "قاتل النساء" الذي كان يلقي محاضرات في أوكسفورد عن أبي نواس. وإذا كان منطق هذه السيدة متهافتا، إذ لا يمكن اتهام كل كاتب بما تقوم به شخصياته الروائية من أفعال، فإن الطيب صالح كان حقا ضحية للعنة اسمها: مصطفى سعيد. إلا أنه سيبقى بيننا الطيب الذي عرفناه، فهل أقول وداعا؟
* عن مجلة "فكر وفن" العدد 91








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -مندوب الليل-..حياة الليل في الرياض كما لم تظهر من قبل على ش


.. -إيقاعات الحرية-.. احتفال عالمي بموسيقى الجاز




.. موسيقى الجاز.. جسر لنشر السلام وتقريب الثقافات بين الشعوب


.. الدكتور حسام درويش يكيل الاتهامات لأطروحات جورج صليبا الفكري




.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس