الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمود درويش الأب الثاني

عباس بيضون

2009 / 8 / 10
الادب والفن



في مجموعاته الأخيرة تراجع الموضوع الفلسطيني وغدا ضمنياً أو ضامراً في النسيج الشعري، لكن محمود درويش الذي استطاع أن يؤسس «زعامة» شعرية لا تتبع جمهورها بل توجهه ظل بهذا الموضوع وبدونه الرمز الأكبر للصراع الفلسطيني، والأرجح أن غيابه تكفل أكثر بتوطيد رمزيته فيما يأكل الصراع رموزاً كثيرة وأدى إلى كسوفها. يحتاج الشعب الفلسطيني الآن أكثر فأكثر إلى رمز كمحمود درويش، إلى شاعر لا إلى سياسي. السياسة في الانقسام والانسداد والاجترار والانتكاس الحالي، لا تفعل سوى دهورة التاريخ الفلسطيني وشرشحته وابتذاله، فيما يبدو في المثال الدرويشي على مستوى آخر هو مستوى المأساة الإغريقية والصراع الأنطولوجي والأسطورة الحديثة والسؤال الإشكالي.
رحل محمود درويش قبل مأساة غزة وقبل احتداد الصراع بين الإخوة الأعداء، أحداث كهذه لم تغط على ذكرى محمود درويش بل أضاءتها. الأرجح أنها استعارت رغم كل الاعتدادات، صوت محمود درويش الرثائي الذي يغني المهزومين والمعارك الخاسرة. صوت محمود درويش الذي يحمل عذابات الهوية ومفارقاتها والصراع شبه اليائس على الذاكرة وتيجان الخسارة والصمود والمصائر السيزيفية، فيما كانت فلسطين تتحول على أيدي السياسيين المتكالبين إلى لعبة وإلى تجارة يومية ظلت في شعر محمود درويش رمزاً. فلسطين الشتات الأوذيسي والهجرات والهوية الدامية والمصائر التراجيدية بقيت في شعر محمود درويش. إنها القصيدة لا المناكفات وفيها سيجد عشرات ألوف بل مئات ألوف الشهداء والمغلوبين والثكالى والأيتام بل والأماكن المسروقة والأشجار المقتلعة، كل هؤلاء سيجدون ذاكرة ومكاناً.
ينتصر الثقافي على السياسي في الظرف الفلسطيني الراهن ويغلب الشعر السياسة. السياسة في تدهورها تعجز عن الإحاطة بالواقع الفلسطيني وتمثل تاريخه، فهي الآن بلا تاريخ بقدر ما هي بعيدة عن الواقع. لكن الشعر يستطيع أن يحمل تاريخاً وأن يردد من جديد النبض الحقيقي للواقع، الشاعر المقيم على التلة يستطيع من وراء القبر أن يمنح هذا الشعب روحاً فيما يتناهب السياسيون أشلاءه.
كان المفترض مع الذكرى الأولى لرحيل محمود درويش أن يبدأ الفصل الصعب ما بين محمود درويش والصراع الفلسطيني، أن نتمكن من قراءة محمود درويش بدون الفضاء الفلسطيني الذي يشكل صفحة أخرى ونصا أوسع. كان مهما تخليص هذا الشعر من ظرفه وملابساته وقراءته شعراً فحسب. لا أعرف إذا كان هذا ممكناً لأي شاعر لكن في حال محمود درويش لا بد أن يتأجل وربما أعواما أخرى. هذا الشعر لا يزال يتفاعل في الظرف والصراع بل يبدو أنه يغدو مع الوقت، أكثر دينامية. شعر محمود درويش لا يتأثر بغيابه ما دام كله يتحدث عن غائب ومفقود وخسارة محمولة على الأعناق وعودة بلا طريق. ينضاف شعر محمود درويش إلى الفقدان الفسطيني ويغدو جزءاً من الغياب ومن الخسارة. وفي الصراع الفلسطيني يتساكن الموتى والأحياء ولا يبدو الأحياء في كثير من الأحوال أكثر حياة من الموتى. هكذا يمكن لساكن التلة ان يكون فاعلاً وحاضراً أكثر بكثير من أحياء لا يحملون على مناكبهم التاريخ ولا الحاضر.
يخدم شعر محمود درويش كجندي لكنه يخدم أكثر كمعزٍّ، انه يقدم لقارئه أكثر من الشعر، شيئاً من التعاطف والتطهير، معنى للخسارة والتضحية والفقدان. ويقدم له رغم كل شيء ومن داخل الألم نفسه ايجاباً، ونوعاً من الرجاء. هذه المساكنة مع الموتى والضحايا ومع الذاكرة والتيه العوليسي تحولت بفعل الشعر الى حاجة والى حقيقة، الى نوع من الحياة. سرت سريان الأغنية حاملة نوعاً من الوعد واسلوب حياة. كان شعر درويش في تواليه يفعل ما لم يستطعه المؤرخون (اذا وجدوا)، يلملم الشتات الفلسطيني المبعثر المتشظي في الزمان والمكان، يضيفه جزءاً الى جزء وصورة الى صورة، يرصه على جذع الذاكرة التي وحدها سلمت تقريباً. على هذا الجذع يضع الدائرة الأولى وتتوالى الدوائر صانعة ما يشبه الحكاية. مع البعد ومع الشتات القادم والأفق المسدود تعدو الحكاية حاجة بل تطلباً، يحتاج الفلسطيني اليوم الى هذه الحكاية ويجدها في الشعر لا في السياسة. لقد صنع محمود درويش لفلسطين اسطورتها الخاصة ويحصل اليوم ان يغدو الشعب بحاجة الى هذه الاسطورة. الى الرجاء غير الكاذب الذي تقدمه الى الجذور والآفاق التي تتضمنها. ربما لذلك يغدو الرجل المقيم لتلة أكثر حقيقية وأكثر استشرافا وفاعلية من الذين يخوضون في وحول الحاضر. يحتاجه الفلسطينيون اليوم أكثر وفي غيابه يغدو المؤسس الثاني والأب الجديد.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-


.. فعاليات المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية في الجزاي?ر




.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب