الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا يشعر المواطن السوري بالقرف من الحياة؟!

محمد منصور

2002 / 6 / 19
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


 

أخبار الشرق - 19 حزيران 2002

قال الطبيب النفسي المخضرم لمريضه بعد أن أعيته محاولات الاستشفاء من مرض الاكتئاب لديه: لقد تحسنت بنسبة 60 في المائة، وهذه نسبة تعتبر عالية جدا بالنسبة لمواطن سوري، فلا تتوقع أن تتحسن أكثر من ذلك!!

وإذا كانت عيادات الأطباء النفسانيين لا تقدم - رغم امتلاء الكثير منها بالزبائن - مؤشراً واضحاً لمدى انتشار الأمراض والاضطرابات النفسية في الشارع السوري وتفشيها، فلسببين: الأول نظرة المجتمعات العربية عموماً إلى المرض النفسي على أنه عار ينبغي إخفاؤه والتستر عليه، لأنه يضر بالسمعة! والثاني غلاء معاينات الأطباء النفسانيين بالنسبة لدخل الكثير من الأسر المحدود.

إذ أن أمراضاً مثل الاكتئاب والقلق والهلع و الفوبيا، تبدو منتشرة بقوة في الشارع السوري، وكثير من المرضى هم أناس يُنظر إليهم على أنهم أناس أصحاء ومعافون، وقد يكونون كذلك فعلا، لكنهم غير قادرين على تحمل أعباء الحياة والعمل .. وهم يعبرون عن عجزهم عن تحمل منغصات الحياة التي يفترض بأي مواطن صالح أن يتحملها، بنوع من الشعور بالقرف .. لذلك تبدو كلمة السر في حياة هؤلاء هي القرف من الحياة!!

- 1 -

يكاد يستوي المريض النفسي مع الإنسان السوي اليوم في الإحساس بالقرف. هذا الإحساس الذي تحول في السنوات الأخيرة إلى مزاج عام سائد في الشارع السوري، مرده خيبة الأمل من الإصلاح الذي وُعد به هذا المواطن. والذي يسير خطوة إلى الأمام وعشرة إلى الوراء، فكم سيحيى أناس ويموت أناس لكي يستنشقوا هواء الإصلاح النقي الذي يحلمون به؟ وكم من السنوات والعقود سننتظر حتى نستعيد توازننا النفسي وبهجتنا المفقودة، وحماسنا للحياة وشعورنا بأن القرف من الحياة - إذا وُجد - هو مشكلة شخصية يمكن حلها، وليست حالة عامة ميئوس منها!!

لم يكن الشعب السوري يوما شعبا مترفا، ولم يطالب يوما برفاهية فائقة الحد أو الحدود. ففي هذا البلد الذي تعرض عبر التاريخ للغزوات والحروب وكان طريق القوافل والعابرين وملتقى الغزات والطامعين، كان على الشعب السوري دوماً أن يعاود البناء، وأن يعاود الإيمان بالحياة، وبقيمة العمل والشرف في بناء حياة - ليست هي مدينة فاضلة - وإنما صالحة لاستهلاك البشري على الأقل. وعندما يهاجر الإنسان السوري خارج بلده كان وما زال قادراً على أن يثبت فعاليته وحيويته وإخلاصه المهني وقدرته على أن يكون إضافة نوعية، لا رقماً مضافاً. فما الذي حولنا اليوم إلى مجموعة من العاطلين عن الأمل والطموح؟!

- 2 -

كم كبير من الموظفين الذين يتقاضون رواتب، هي أشبه بمعونات طارئة لا تكاد تكفي حتى نهاية الشهر، يبدأون نهار عملهم متثائبين، مترعين بالإحساس بالقرف. وهم يرون أن العملة الرديئة لم تترك مكانا للعملة الجيدة في دوائرهم ومؤسساتهم، فكلما اشتكوا من مدير أو وزير فاسد وحلموا بالإصلاح جاءهم من يجعلهم يترحمون على أيام السلف ويرون فيه من المزايا ما لا يمكن اكتشافها إلا بأسوأ المقارنات وأردئ المواصفات وأبخس المقاييس!

- 3 -

كم كبير من خريجي الجامعات بمختلف فروعها يشعرون بالقرف من الحياة. فالتعليم لا يضمن لهم الحصول على فرص العمل، والرغبة في إثبات الذات بعد الحصول على فرصة العمل - إذا ابتسمت لهم الواسطة طبعاً - ستصطدم بآلية عمل مترهلة وبيروقراطية تشل المبادرة، وتسفه حماس الشباب وتعتبره خروجا على تقاليد العمل، وتمنع أصحاب الخبرة من أن ينقلوا خبراتهم الحقيقة إلى هؤلاء الشباب. لأن أصحاب الخبرات قد همشوا أو أوصلوا إلى مرحلة القرف من الحياة ومن العمل ومن الحوار مع الأجيال في ظل إدارات تعتبر الخبرة عبئاً عليها وعلى مؤسساتها المنهارة المتآكلة من الداخل رغم الواجهات الرخامية الفخمة، والأسوار الحجرية المنيعة!!

- 4 -

كم كبير من الصناعيين والتجار الذين كان شعارهم "صيت غنى ولا صيت فقر" باتوا يخشون مثل هذه الشعارات التي تعبر عن ثقافة القناعة والشبع، لأن وزارة المالية تجبي الضرائب حتى على "صيت الغنى" هذا. فالتاجر أو الصناعي مُدان حتى يثبت فقر حاله أو يشهر إفلاسه. ووزارة المالية التي فاق خيال المشرعين فيها خيال كتاب الفانتازيا التاريخية في ابتكار شتى أنوع الضرائب، تنظر إلى هؤلاء نظرتها إلى كل فئات الشعب السوري: فريسة سهلة لجباية أكبر كم من الأموال.

ولهذا ليس غريباً أن يكون الشعور لدى الصناعيين والتجار هو الشعور بالقرف من الحياة، فالسوق "ميت" والبضائع "كاسدة" والقوة الشرائية لا تكاد تصمد أمام الحاجات الأساسية اليومية. أما الاستثمار فهو: حماقة لا يقدم عليها إلا كل متهور أو مغامر أو جاهل بواقع الحال لأنها محفوفة بالضرائب الباهظة وبمنافسة أولاد المسئولين "الشريفة"!!

- 5 -

لا يدخل مواطن دائرة حكومية إلا ويخرج معتكر المزاج، بحاجة إلى دواء مضاد للاكتئاب، أو منشط يرفع من همته المثبطة بسبب ومن غير سبب!!

فالموظف الذي لك حاجة عنده، يعبر عن فقدان حماسه للعمل وقرفه من الحياة، باضطهادك عبر سلسلة من التجاوزات الصغيرة التي قد تنجح بصبرك في استيعابها، لكنك ستكتشف حين تتكرر هذه التجاوزات بلا استئذان أنها تنال من وقتك ومن حقوقك، ومن مواطنيتك، وتخرجك عن طورك في النهاية إن لم تتحلَّ بنعمة اللامبالاة حتى بآدميتك!

القرف من الحياة هو عنوان حياة المواطن السوري. والصبر المزمن على الملمات لم يقد سوى إلى اليأس من الفرج.

- 6 -

أخيراً إذا كان الملايين من المواطنين السوريين قد طلقوا ولعهم بالسياسة إلى غير رجعة، وتركوا العمل السياسي غير مأسوف على تبعاته للرفاق أعضاء حزب البعث العربي الاشتراكي قائد الدولة والمجتمع؛ فهل يستطيعون أن يتركوا ولعهم بالحياة؟!

هل يستطيعون أن يتحرروا - بحسن نية - من هذا الإحساس المتفاقم بالتشاؤم من المستقبل وفقدان الهدف والرغبة في عمل أي شيء ذي قيمة؟ ومن ذلك الإحساس المرَضَي بالقرف من الحياة؟!

__________ 

* كاتب وصحفي سوري - دمشق








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قصف إسرائيلي متواصل على غزة وحصيلة القتلى الفلسطينيين تتجاوز


.. إسبانيا: في فوينلابرادا.. شرطة -رائدة- تنسج علاقات ثقة مع ال




.. من تبريز.. بدأت مراسم تشييع الرئيس الإيراني رئيسي ورفاقه


.. أزمة دبلوماسية -تتعمق- بين إسبانيا والأرجنتين




.. ليفربول يؤكد تعيين الهولندي آرني سلوت مدربا جديدا له