الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيمافور الإسكندرية أو معزوفات التاريخ الروائية

شيماء الشريف

2009 / 8 / 10
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


سيمافور الإسكندرية"، رواية فرنسية شهيرة لكاتب فرنسي شهير هو روبير سوليه، وهي إحدى أشهر رواياته التاريخية، حصلتُ بدراسة متعمقة عنها على درجة الماجستير في الآداب الفرنسية عام 2003، ولكن ليس المقال عن رسالتي لدرجة الماجستير، بل عن التاريخ عندما يتم سرده في قالب روائي شيق، يحمل المعلومة التاريخية، ولكن الأهم أن يحمل وجهة نظر خاصة في طريقة العرض.

لقد اعتدنا منذ سنوات عمرنا الأولى في مدارسنا المصرية أن ندرس التاريخ الأحادي الاتجاه، منهج مكتوب محشو بما ينفع وبما لا ينفع، ومدرس يلقِّن محتوى المنهج وفقًا لجدول وضعته له الوزارة، وامتحان يسأل عن محتوى نفس المنهج، ونموذج للإجابة يتم بناءً عليه تصحيح الورقة وفقًا لمحتوى المنهج ذاته، وتنتهي السنة، وننتقل إلى السنة التي تليها بعد أن نكون قد ألقينا بكتاب التاريخ، بل بجميع الكتب في سلة المهملات أو استفدنا من ثمنها بعد بيعها للروبابيكيا أو لبائع اللب والفول السوداني!

ربما لا يعرف المسئولون عن التعليم في بلادنا أن مادة التاريخ بما تتميز به من أبعاد عدة، من الممكن أن يتم تقديمها بأسلوب يجعلها مجالا واسعًا للاستثمار في البشر. إن التاريخ مادة تحمل بعدًا وطنيًّا لأنها تروي ماضي الأمة، وأمة بلا ماضٍ لا حاضر لها ولا مستقبل، وتحمل بعدًا عقلانيًّا لأن أحداث التاريخ ليست أفعالاً مقدسة، بل أفعال بشر تمت نتيجة أسباب وظروف أدت إلى أحداث كبرى أو صغرى، مؤثرة أو هامشية، يتم تحليلها وتحليل سياقها وظروفها للوصول إلى مزيد من الفهم لنتائجها، وتحمل مادة التاريخ أيضًا بعدًا نفسيًّا لأن من شأنها توثيق العُرى بين المواطن وبلده، ثم بينه وبين الدنيا بأسرها عندما يدرس تاريخ العالم، ويرى مصائر الأمم والحضارات، ويدرس دراسة موضوعية أسباب نشأة الحضارات وأسباب فنائها، وكنتيجة مباشرة لكل هذا، سوف تتغير نظرته لنفسه، وبالتالي للعالم من حوله، سوف يكون أكثر تسامحًا وأكثر انفتاحًا وأكثر تواضعًا وأكثر حبًّا لمزيد من المعرفة.

ومن هذا المنطلق، من الممكن الاستعانة بالروايات ذات الخلفية التاريخية كعامل مساعد لخلق علاقة وطيدة بين الطالب والتاريخ، وأقول عامل مساعد وليس مصدر أساسي، لأن الحق إنه لا يوجد مصدر أساسي ونهائي للتاريخ، بل نحن نعرف أخبار من سبقونا بقراءة كتابات معاصريهم وإنتاجهم الفكري، قد نجد تضاربًا أو تناقضًا، قد نميل إلى تصديق فكرة ونجنح نحو تكذيب أخرى، ولكن في النهاية، لا نصل إلى الحقيقة الكلية ولا الكاملة أبدًا، دائمًا يظل هناك ما يخفى علينا، وهو ما يشجعنا على مزيد من القراءة والبحث والتفكير في ربط الأحداث والشخصيات والمواقف بعضها ببعض في محاولة دائمة ودءوبة للوصول إلى الحقيقة.

وليست هذه المحاولات النبيلة في وسائلها وأهدافها سوى بعضًا مما فعله روبير سوليه وغيره من الروائيين الذين احترفوا استخدام الخلفية التاريخية لرواياتهم، لتتحول من وقائع صارمة إلى معزوفات روائية ذات بُعد درامي جذاب، يجعل القارئ في فضول لمعرفة ما سيأتي من أحداث حتى لو كان تاريخيًّا يعرفها، فقد أدخله الكاتب إلى عالمه الروائي السحري ليغوص فيه بكل كيانه، ويندمج في سياقه وهو أكثر فضولا لمعرفة ما وراء هذه الأحداث التاريخية وما مدى تأثيرها على شخوص الرواية ومصائرهم. فالقارئ هنا لا يتمتع فقط بالسرد القصصي للرواية، أو بتأثيره على المصائر الدرامية للشخصيات، بل يتمتع أيضًا بطرح جديد يقدمه له الكاتب عن حقبة تاريخية معينة، طرح لا يدَّعي لنفسه فيه عرض الحقيقة المطلقة، بل يعرض الأمر كله في سياق روائي رشيق من شأنه تعديل النظرة إلى التاريخ الذي يقدَّم في الأعم الأغلب كقوالب جامدة ومادة أحادية الاتجاه وكأنها نص مقدَّس ينـزل بمن يمس قدسيته أشد العقاب.

ومن واقع تجربة شخصية، فقد دفعتني دراسة رواية "سيمافور الإسكندرية" إلى قراءة جيدة ومتأنية لتاريخ الفترة التي تقع على خلفيتها أحداث الرواية، وهي تلك الفترة الممتدة بين عاميّ 1863 - 1885، وهي فترة من أخصب فترات تاريخ مصر الحديث، ففي عام 1863 توفي سعيد باشا وتولى الحكم إسماعيل باشا الذي عُرف فيما بعد باسم الخديوي إسماعيل، وتتناول الرواية سردًا يكاد يكون تفصيليًّا لفترة حكم الخديوي إسماعيل وتأثيرها سلبًا وإيجابًا على أبطال الرواية، حيث نتجول في قصور الخديوي ونتعرف على من تعاملوا معه ونعرف الكثير عن أسرار حكمه وإدارته وبذخه وثقافته وسعة أفقه ومعاونيه وديونه وأخيرًا عزله، ويأتي ذكر قناة السويس وقصة حفرها وتفاصيل خط سير الحفر وكيفية التعامل مع عمال الحفر ثم افتتاحها الأسطوري، وبعد عزل الخديوي إسماعيل يتولى ابنه الخديوي توفيق ويتم قصف الإسكندرية ثم يُهزم جيش عرابي في موقعة التل الكبير ويكون من نتيجة ذلك احتلال القوات البريطانية لمصر عام 1882، وتختتم الرواية في عام 1885 ومصر تحت نير الاستعمار الإنجليزي تحلم بالاستقلال.

وقد دفعني ثراء المحتوى إلى قراءات عديدة وتفصيلية لهذه الفترة لمؤرخين مصريين وأجانب، وتبينت أنه على الرغم من أن الجميع يروون الأحداث نفسها، إلا أن كلا منهم يعرضها بأسلوب يختلف عن غيره، ووجدت تفاصيل في بعض الكتابات لم أجدها في كتابات أخرى، ووجدت أن روبير سوليه نفسه تحرى الموضوعية قدر المستطاع في سرد روايته على الرغم من أن هناك الكثير من التفاصيل التاريخية المختَلَف عليها أو على أسبابها وتداعياتها، وقد دفعني ذلك إلى تخيل المجهود الذي بذله الكاتب في خلق رواية تاريخية بديعة متماسكة حققت أعلى نسب للمبيعات وقدمت مصر للعالم بشكل متميز يدعو إلى الكثير من التفكير والتأمل.

وما أود أن أستخلصه من هذا كله هو أن التاريخ ليس حكرًا على أحد وليس ملكًا لأي شخص أيا كان يضع فيه ما يشاء ويحذف منه ما يشاء ويستخدمه كسلاح لبرمجة العقول أو لغرس ولاء كاذب لجماعة دون أخرى، أو لأشخاص دون آخرين، لأن في النهاية، التاريخ صناعة بشرية، أحداثه صناعة بشرية ووقائعه صناعة بشرية والكتابة عنه أيضًا صناعة بشرية، ولا يمكن في ضوء ذلك الأخذ بسرد واحد للتاريخ ولا التشبث بوجهة نظر واحدة تروي أحداثه، بل لابد من دراسة العديد من الكتابات وإعمال العقل في الربط بين الأحداث التاريخية في محاولات لا تكل ولا تمل تهدف دائمًا إلى الوصول إلى الحقيقة، أو على الأقل إلى أقرب صورة ممكنة لها.

ولن يتأتى للطلبة في مدارسنا هذه العقلية البحثية إلا إذا تُركت لهم حرية البحث في أحداث التاريخ المختلفة من مصادر مختلفة وإعلان استنتاجاتهم ورؤاهم الشخصية لها خاصة وهم لم يكونوا معاصرين لها، مما سوف يُكسب نظرتهم حيادية وتميزًا وموضوعية نأمل غرسها فيهم منذ نعومة أظفارهم، فلا سبيل إلى تحصينهم من أية سيطرة تهب من هنا أو هناك تهدف إلى غزو عقولهم إلا بتمكينهم من أسباب البحث وغرس حبه وجهده في وجدانهم، وذلك لتأبى عقولهم التلقي المستكين، وتنطلق نحو آفاق العلم التي لا حدود لها، فلا يكون لأحد سلطان على عقولهم، كما سيكون من المستحيل عليهم في هذا الوقت تقبُّل وجبات التاريخ التيك أواي الجاهزة التي تحمل في طياتها من الأغراض أكثر مما تحوي من الحقائق.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكرا !!
المعلم الثاني ( 2009 / 8 / 9 - 21:00 )
لليوم الثاني على التوالي تنشر دكتورتنا شيماء الشريف مقالا ممتعا مفيدا

قصة سيمافورات ألكسندرية هي ثاني أعمال المبدع (روبير صولة) هذا المصري الشامي الجذور الذي عبّر بعبقرية عن تاريخ مصر في الفترة الحديثة من وجهة نظر (جاليات) اعتبرها بعض المتعصبين (متمصّرة)!!!

هؤلاء وجدوا في مصر ملجأ في كنف سلالة محمد علي هربا من المذابح والظلم والاضطهاد الديني الذي عانوا منه في الشام أثناء الحكم العثماني فاستوطنوا و خدموا مصر بكل حب واخلاص...

كان مصيرهم جزاء سنمار أثناء هوجة عرابي..... ثم بعد انقلاب الضباط الأشرار... فدفعوا للهجرة الجماعية إلى العالم الحر ..(الولايات المتحدة وكندا واستراليا وحتى فرنسا)

تغني فيروز:( أساميهم عندي وهنّي راحوا..!!) ...فمن أسماءهم ....سليم وبشارة تقلا مؤسسي الأهرام وجورجي زيدان مؤسس دار الهلال ونمر وفؤاد صروف وخليل مطران ومي زيادة...ونجيب الريحاني و بدر لاما وماري كويني وأسيا داغر وعيسى كرامة و جورج أبيض وعزيز عيد وعلوية جميل وماري منيب وأديب الطرابلسي وبشارة واكيم و الدكتور شبلي شميّل وفرح أنطون والأب عيروط والأب قنواتي ويوسف شاهين وصيدناوي وأفيرينو وفرنسوا تاجر وكريم ثابت والأمير لطف الله و نايف عماد وحبش من فلسطين و كثيرين غيرهم.....

اخر الافلام

.. قيادي بحماس: لن نقبل بهدنة لا تحقق هذا المطلب


.. انتهاء جولة المفاوضات في القاهرة السبت من دون تقدم




.. مظاهرة في جامعة تورنتو الكندية تطالب بوقف حرب غزة ودعما للطل


.. فيضانات مدمرة اجتاحت جنوبي البرازيل وخلفت عشرات القتلى




.. إدارة بايدن وإيران.. استمرار التساهل وتقديم التنازلات | #غرف