الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إغماضُ العينين : الأداءُ الفذ للوعة

نعيم شريف

2009 / 8 / 12
الادب والفن


(( .... حتى إذا اخترقته الرصاصةُ ، أغمضَ الطفل ُ عينيه - هكذا تصوّره - تاركاً جسده يسقط ، بلا صوت ، على الإسفلت ..))

_ هل تصلُح هذه الجملة مدخلاً للمجوعة القصصية الأخيرة (( إغماض العينين )) للكاتب لؤي حمزة عباس ؟

ماذا بوسع طفل أن يفعل بإزاء موتٍ ناجز غير هذه الإستجابة البليغةُ في إغماض عينيه، وكيف للبراءة أن تواجه الرصاصة وغير
أن يسقط الطفل " بلا صوتٍ " ، تصوّرٌ حلميٌ مقترح لموتٍ فادحٍ لكنها محاولة شعرية للإرتقاء بالإستجابة الى مستوى أن تكون
رداً ، أن تغمض عينيك وتصمت أو تموت حين يسود الرصاص والقتل قانون الحياة .

لاتكاد قصة من قصص " إغماض العينين " أن تجرج عن هذه المعادلة ، القتل المجاني الذي يختبيء للناس في تفاصيل حياتهم و
زواياها وأركانها ، موت قد لا تراه ، ربما يكون جناحاه قد خفقا على مقربةٍ منك وأنت مُنشغلٌ بالحياة ، قد تستدل عليه من إتصالٍ
بعيدٍ كما في قصة " إتصال " ، أو ربّما من الباب المفتوح أو خلو الطابق من الناس في هذا الوقت من الظهيرة حيث يحلو للموت
أن يمارس مهنته بلا مضايقات !

في محاولتة إكتشاف الجسد ،في قصة " قطرة دم لاكتشاف الجسد " يغدو مسعى التعرف على الجسد هو أيضاً في قرارته مسعى
لمعرفة أجساد الآخرين ، خالتة وملاحون سود وعمال ، كانما قراءة جسدنا الشخصي هي بشكلٍ ما قراءةٌ لجسد الآخر " مثلما
يكون جسدَ خاصته وأحبائه ، " من القصة الصفحة 5 .
كانت قراءة الجسد قد قوطعت بتدخلات الماضي ، وهو يطل برأسه من ثقب في الزمن ، فيُستدعى طيف الخالة العاشقة المنتظرة ،
ومن هذا الإستدعاء تتم قراءة جسدها أيضا ،واجساد صويحباتها ، أولئك النسوة اللواتي " .. كانت وجوههن تتطلّع باتجاه الشط ،
لا الى ضفته المقابلة ، بل لنقطة بعيدة لا تُرى حيثُ تأتي البواخر بأعاجيبها وروائحها ووجوه بحارتها متوجهةً الى ميناء المعقل ما ان
تُصفر ، مع صافراتها تنقطع احاديث الفتيات وتلتمع حدقاتهن " ذلك أن أجسادهن، حين تلتمع عيونهن ، تعبرُ عن صرخة نداء
الأجساد في إستجابته لنداء الحياة الأصيل متمثلاً ببحارٍ قادم من البعيد فجميعهن " يحلمن بالباب الذي سيقف أمامه ،وبيده ذات
الخاتم ترتفع لتدق " من القصة الصفحة 12 .

ذلك أن مهمة القاص هي أن " .... يفتح عينيه ، في اللحظة التي يُغمض الآخرون فيها عيونهم ..... " ليس فقط ليرى حمام
الكونتننتال برفاهيته الخضراء ، ولكن ليرى المحيط بكل ألوانه ، ليستشرف الواقع بتفاصيله وناسه وذكرياتهم ، يرى الى موتهم
ومجد حياتهم ، وتصل أصابعه الى ارواحهم لتنشرها في ضؤ الشمس .

لعل الموظف الصحي في قصة " إغماض العينين " لا يستوعب العالم إلا بالإنسحاب منه مغمض العينين " ..... حيثُ
يُحسُ بنفسه مندفعاً في ظلمته الرمادية المحببة ، ظلمةٌ يشوبها ضؤٌ بعيد .... " لايتيح لك الواقع أن تغمض عينيك عنه لأنهُ
عندها سيحتل الظلمة الرمادية المححبة التي تتحصن بها منه . ليس هناك مكان لمن يريدُ ، العيش، مُحايداً ، في واقع مجنون ، فالمساحة
الترابية ،المتخيلة كملعب للأطفال ، صارت مسرح جريمة صاعقة في بداهتها إستدعت إغماضاً للعينين كي تُستوعب وتُفهم ،
لقد شوهت منطقتنا الرماديةُ إذن إحتلتها " .. اليد التي ترتد مع كل إطلاقة ، وكان الرأس ينتفض . " ولكنه ليس رأس الميت هذه المرة
وإنما رأس حيٌ أُحتل بالموت مرةً واحدةً والى الأبد .

قصة " رجلٌ كثير الأسفار " ، تحرز أهميتها من أن الإحتمالات المستقبلية التي نتوقعها من محيط قاسٍ ، هي حقائق ناجزة لاسبيل الى
تجنبها حتى في مشروع كتابة قصة قصيرة ، لايستطيع الكاتب أن يُغير مصيراُ في واقعٍ يرفضُ ، بقوةٍ ، أن تُكسرَ حتميتهُ ، سيحتال
الكاتب بالذهاب الى اللاّواقع كي يُتيح للرجل موتاً منزلياً مادام الموتُ قد تحوّل الى قاعدة وصارت الحياة إستثناءً ، ركض القاص بقوةٍ مع
الرجل ، من بغداد الى البصرة بتعاطفٍ إنساني هائل كان لابد من مساعدة الروح المذبوحة التي بذلت جهداً أخيراً ويائساً للعودة الى العائلة .


في قصة " عشق الحدائق المنزلية " تمنحنا الطفولة تفسيراً آخر للجنون العام ، فالرجل الذي ينقل خبر وجود جثة لقتيل قرب شجرة حديقتهم
المنزلية لزوجته ،يكون إبنهما محمد قد سمع الخبر مصادفة ، وحين يرى المنظر (( اللغزي )) يرجع الى الرسالة التي لم يكملها الى صديقه
وقد كتب فيها " ..... أن يتأكد من حديقة منزله كل صباح قبل أن ينزل الى الطابق الأسفل ، فربما أثمرت أشجارها رجالاً بأفواه مفتوحة "
من القصة الصفحة 26 . البراءة الطفولية تراقب العالم الخارجي بعيون مختلفة ، عيون تكشف علاقاتٍ بين الأشياء التي لايُمكن أن تكون بينها
علاقةٌ من أي نوع ، ذلك أن اعتقادا طفولياً [ان الأشجار تُثمرُ رجالاً بأفواهٍ مفتوحة ( إنتبه ، ليسوا موتى ، هم بافواه مفتوحةٍ فقط )
هو عجزٌ منطقي ونبيل عن قبول فكرة أن القتل لمجرد القتل صار فعلاً يومياً يُلاحق الناس الى حدائقهم المنزلية ، كأنما تخشى المخيلة
الطفولية من الإشارة الصريحة بأن بشراً أخرين هم من فعل ذلك فتحيلها الى الأشجار .

هل هناك وجود حقيقي ٌ لشاب بعينين زرقاوين وسحنةٍ سمراء ، في ليل فرانكفورت البارد في قصة " عينا رجل المترو " أم إنه الوهم
حين يستبدُ بنا الحنين الى أماكن تسحرنا ، نظل مشغوفين بها ، مدننا التي إحتضنت خطانا البريئة ، كيف للمدن أن تنادي ابناءها ، هل
تهمس لهم ؟ هل تتبدى لهم على هيأة أمراة جميلةً أو ساحل بحرٍ أو ضحكة طفل ؟

" لا زيارات للغرباء " نسيجٌ وحدها ، عرضٌ بليغٌ للروح في لحظات ألمها العظيم ، إستدعاء الألم في محاكمة قاسية ، تتداخل الضمائر في
هذه القصة المهمة ، تتقافزُ خطى السرد برشاقة الى الذروة القصوى تُستعرض التفاصيل بتأثيث فخم يرقى بفنيتها السردية الى ذرى
باسقات . أنظر معي هذا المشهد : " .... تشعر أن شيئاً ما قد إنطفأ أو غاب من حولها فتستلقي على سريرها الحديد و تغمض عينيها وتموت
، من يُصدق أنها ممكن أن تموت بمثل هذه الألفة والسكون ، كأنها ماتت مرات حتى غدا الموت معها رحيماً شفوقاً يضرب بجناحيه هواء
الغرفة ثم يحطُ على عمود السرير ، يضم جناحيه ويتملاها قبل قبل أن يفتحهما من جديد ، لم تكن رما نتا السرير قد أحدثتا أي صوت حينما
حينما أسندت يدها إليه وهي ترفع جسدها لتسلقي ، أو حينما ضرب بجناحيه وحط على العمود .... " من القصة الصفحة 51 .هذا هو

المرسل ، في القصة واصفاً موت زوجته الحبيبة ، هل رأيت معي كيف يكون الفن الفذ عزاء للروح المجروحة ؟ هل رأيت كيف صيّر الفنُ
الفخم الموت رحيماً وحنوناً كمحب ؟ كأنما توطأ الموت مع الميت في لحظة سلام نادرة الحدوث .


الحوارات في قصص " إغماض العينين " حوارات مقطوعة ، أو لعلها مكسورة على حدّ تعبير الدكتورة خالدة سعيد في وصفها لبنية الكلام
المكسور في قصص " بحيرة المساء " للكاتب المصري إبراهيم أصلان . كانما يتكلم كل منهم (( منولوجه الداخلي )) بصوت عالٍ ، مثل
أُناس يعيشون بجزرٍ منفصلة ، انعدام الحوار ، في واحدٍ من تمظهراته ، هو شرخٌ كبيرٌ في روح المجتمع ، عطبٌ أصاب التواصل
الإجتماعي السلمي ، كما يجدر بشعبٍ مُتحضّر ، أقول: أصاب التواصل الإجتماعي بمقتل ، جهدً الفن السردي لتبيانه .

شخصيات لؤي حمزة عباس ، مسكونة بخوف دائم من قدرٍ قاسٍ يُلاحقها في كل مكان ، مهددة الكينونة ليس لها أسماء ، شخصيات
تختلس أفراحها الصغيرة إختلاساً خشيةً من قوة ما ، غاشمة ، تُطيح بها ، تبتني لها عوالم خاصةً ناشدة سلاماً مستحيلاً ، لكن الواقع
يسخر ، بقسوةٍ منها ، محيلاً أيّاها الى ذوات مجروحة وشائهة .

يُستدعى الفنُ بقوةٍ في مجموعة (( إغماض العينين )) لتمنحنا قراءة مختلفة لواقع نعرف لا معقوليته ، وبأدوات الفن العالي ،وحدها ،
صاغت لنا (( إغماض العينين )) قلادة ماسٍ في عنق السرد العراقي .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات في جامعة ديوك الأميركية ضد الممثل الكوميدي جيري ساي


.. المغرب.. إصدارات باللغة الأمازيغية في معرض الكتاب الدولي بال




.. وفاة المنتج والمخرج العالمي روجر كورمان عن عمر 98 عاما


.. صوته قلب السوشيال ميديا .. عنده 20 حنجرة لفنانين الزمن الجم




.. كواليس العمل مع -يحيى الفخراني- لأول مرة.. الفنانة جمانة مرا