الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
حتى يكون الركود المعارض عابراً ..
بدر الدين شنن
2009 / 8 / 21اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
في المقال السابق تحت عنوان " ليس الركود المعارض عابراً " جرى التعرض ل " الجبهة الوطنية التقدمية " ، ولأثرها السلبي على مفهوم التحالف عامة ، وإلى تناقضاتها مع المباديء الأساسية لقيم الحرية والديمقراطية ، إن على مستوى علاقات أطرافها مع " الحزب القائد " ، أو مع القوى التي تتحرك خارجها ، أو زرعها مناخ التماثل بها في الأنشطة السياسية للآخر ، أو على الأقل حضورها كأنموذج مطروح برسم التداول لمن يعتزم " القفز إلى السلطة " . مايلفت بوضوح فيما نرمي إليه في هذا السياق ، أن الحزب الأكبر في الجبهة الفاقدة للديمقراطية في بنيتها ، هو الذي يهيمن عليها تنظيمياً ، ويقرر ويوجه سياسياً ، بينما بقية أعضاء الجبهة تصبح ملحقات تابعة تدور في فلك " الحزب القائد " المهيمن .
وهذا يقدم معطى ملموساً ، وهو أن مثل هذا الشكل من التحالف لايعدو أن يكون مجرد توسع أفقي للحزب الأكبر " القائد " . والخطورة التي نتجت عن هذه الجبهة ، أنها أصبحت واجهة .. وإحدى آليات نظام شمولي قمعي .
بيد أن ماينبغي الإشارة إليه ، هو أن هذا المقال ليس مكرساً للجانب السياسي للجبهة . فالمآلات الموجعة التي وصلت إليها البلاد تحت إشرافها وقيادتها قد كتب عنها الكثير من خارج الجبهة ومن داخلها ، وإنما هو مكرس للنموذج " الفريد " الذي تمثله هذه الجبهة وانعكاساته على العملية السياسية ، وعلى مفهوم التحالفات والآليات للآخر .
وعليه يمكن اعتبار ، أن قيام " الجبهة الوطنية التقدمية " قد نقل الحالة التحالفية السياسية في البلاد إلى مرحلة تحمل مفهومها الخاص في تمايزها ، بحيث أنها لاتقارن بأية حالة تحالفية في تاريخ سوريا الحديث .. ومرد هذه الفرادة يعود إلى التناقض في بنيتها وآلياتها .. في أهدافها وممارساتها ، الذي ينعكس بالدرجة الأولى في تملكها ، عبر حزب البعث المتمتع بالأغلبية فيها ، حق الإستئثار بقيادة الدولة والمجتمع ، كما يعود إلى العلاقة التنابذية بين الجبهة والمجتمع التي ولدها هذا الإستئثار ، الذي حول هذه العلاقة إلى علاقة تابع ومتبوع ، إلى علاقة بين طبقة سياسية سيادية وطبقة حرمت تعسفاً من حقوق هذه السيادة . أي حول أهل الجبهة وخاصة أهل الحزب القائد إلى أسياد للسياسة في البلاد ، حيث صار باقي أبناء المجتمع خاضعين للطبقة السيادية المتمثلة بالجبهة الحاكمة ، كما يعود أيضاً إلى العلاقة اللامتكافئة بين " الحزب القائد " وبقية أعضاء الجبهة غير البعثيين الذين يشكلون جميعاً أقلية فيها ، أقلية لاتملك ، حسب قانون الجبهة ، حق العمل السياسي في الجيش والأجهزة الأمنية وغيرها من مؤسسات صنع القرار وآلياته التنفيذية .. لاتملك حق اتخاذ قرار بأي شيء في الجبهة . كل ما هو مناط بها هو تبرير وتفسير ومباركة القرارات والسياسات التي يعرضها " الحزب القائد " عليها ، ومعظم هذه قد جرى اتخاذها ونفذت قبل أن تعرض عليها . الأمر الذي يولد لديها الإحساس بالدونية وعدم المسؤولية ، ويجعلها في حالة انعدام وزن سياسي ينسحب موضوعياً على الجبهة ككل ، ويزيد في نمو رصيد ضعف الجبهة و " الحزب القائد " في الأوساط الشعبية والمجتمع عامة . كما يعود أيضاً وأيضاً ، إلى إلتباس مرجعية القارا السياسي التي انزلقت من أيدي الحزب القائد إلى أيدي المنظومة الأمنية ، التي جعلت من السياسة ومفاعيل السياسة مرتبطة بخيوط سلطاتها المطلقة .. وبالسقوف التي تحددها هي ، وتحددها مصالح النظام وأهل النظام ، الذي تسارع إلى التطبيقات الشمولية في البنى التحتية للدولة وإلى " شخصنة الحزب والدولة .
ولم يمر غير وقت قليل جداً ، حتى انكشف للملأ أن تشكيل الجبهة ، حسب ماتم عليه ، لم يكن من أجل وحدة صفوف " القوى التقدمية الفاعلة في المجتمع ، كما زعم في حينه ، من أجل ملاقاة ا ستحقاقات مرحلة " التحرير " وإزالة آثار العدوان , وتحقيق " الوحدة والحرية والاشتراكية " ، وإنما هو القيام بلملمة هذه القوى أو تلك للإنضواء تحت قيادة النظام الجديد ، من أجل تكريس احتكاره للسياسة ، بعد أن قبض على السلطة . الأمر الذي كان يعني وتحقق فعلاً ، حرمان أية قوى خارج الجبهة .. خارج الإنضواء تحت قيادة النظام ، من حقوق السياسة ، حيث بات اضطهاد الآخر وتحريم حراكه السياسي هو جزء أساسي من عقيدة النظام الجبهوية في الداخل . وقد تمثل هذا التحريم لاحقاً للآخر وللرأي الآخر بتجليات قمعية شديدة التعسف والقسوة ، مارستها الأجهزة الأمنية متلطية أمنياً خلف الصلاحيات المستمدة من ا ستثنائيات حالة الطواريء والأحكام العرفي ة ، ومتظللة سياسياً بمؤسسات " النظام " الدولة ، وفي مقمتها " الجبهة الوطنية التقدمية " وما توهمه من معاني " الوحدة الوطنية " .
وبذا فإن هذه " الفرادة " التي أشرنا إليها ل " الجبهة الوطنية التقدمية " قد اتسمت موضوعياً بالتعسف على مستوى بنيتها الذاتية وعلى مستوى علاقاتها بالآخر وبالمجتمع ، بل ودفعت بالسلطة الت تخدمها وتعمل باسمها إلى الابتعاد والعزلة عن المجتمع .
بل تبين بعد وقت محدود ، سياسياً وشعبياً ، أن التصميم على بناء الجبهة وسلطاتها على هذه الفرادة ، لم يكن وراءه النوايا الحسنة من أجل وحدة القوى السياسية في البلاد ، من أجل بناء وطن قوي مزدهر يشكل أنموذجاً يحتذى به في محيطه القومي والإقليمي تحررياً ووحدوياً وا شتراكياً بل وحدة القوى الراغبة في إعادة بناء الدولة ، وامتلاك شرعية ا ستخدام آلياتها وقيمها المادية لتخدم مصالحها الطبقية " الفريدة " وتخدم التمايزات الاجتماعية الاقتصادية " الفريدة " التي ستأتي من خلال ا ستئثار قيادة الدولة والمجتمع ، التي أدت لاحقاً ، كم عشنا وشفنا ، إلى أن يصبح أهل النظام من أهل الثروات الذين تحسب كنوزهم بمليارات الليرات والدولارات .
وهذا ما عرض مكونات الجبهة ، من غير حزب البعث ، وخاصة في البدايات ، إلى منعكسات انقسامية وانتهازية وتمردية في بنيتها . إذ لم يسلم حزب من تلك المنعكسات . حيث أدى الأمر إلى بلورة تيارين أو أكثر للحزب الواحد ، أحدهما داخل الجبهة والآخر خارجها ، وإلى وقوع صراعات علنية فيما بينها ، كانت الغاية في معظمها لتحل إحداها محل الأخرى في الجبهة . وفي نفس الوقت كانت هناك كتل منشقة بينية العلاقات والرأي والهوى . لكن ما لبث النظام أن ألزمهابالالتحاق بجذورها المنضوية في الجبهة " الحزب الشيوعي السوري والاتحاد الاشتراكي مثلا " . أما ماتبقى من الأحزاب والتيارات خارج الجبهة ، فقد تنادى أغلبها سراً ثم علانية لتشكيل تحالفات غير صدامية ، هي أقرب في التوصيف إلى " اللامعارضة " من المعارضة " بداية عهد التجمع الوطني الديمقراطي " .. حتى انفجار حرب العنف والعنف المضاد بين الأخوان المسلمين والنظام 1980 ، حيث اتجهت هذه التحالفات إلى ضفة المعارضة العنفية وغير العنفية .
با ستثناء قوى معارضة أبرزها " حزب البعث القيادة القومية " والأخوان المسلمون " كانت تتخذ من العراق ملاذاً ومنطلقاً لحراكها ، فإن القوى السياسية في الداخل ما بعد 1980 انقسمت إلى قسمين .. قسم يمتلك السلطة وقسم يقبع في خندق المعارضة .
وقد لعبت فيما بعد محصلة تفاعلات الصراع غير المتكافيء بين النظام من جهة وبين المعارضة العنفية وغير العنفية من جهة ثانية ، لعبت دوراً هاماً بوضع مقدمات تكوين الطبقة السياسية الحاكمة . ومن خلال توفر عوامل بنيوية ذاتية وعامة تراكمت عبر السلطة على مستوى الحزب والجبهة والمجتمع ، عبر ت عنها خيارات سياسية واقتصادية واجتماعية شبه متكاملة ، تمكنت القوى الحاكمة من ا ستكمال تكوينها كطبقة سياسية .. تتطابق واقعياً مع مخططات وأهداف النظام ، بينما لم تتمكن القوى السياسية المعارضة من تكوين نفسها كطبقة سياسية ، وذلك تحت ضغط السلطة " القمع " من جهة ، وتحت ضغط خيارات سياسية واقتصادية واجتماعية غير مطابقة من جهة أخرى ، تتمثل في عدم تحديد أهدافها " البدائل " في معارضتها للنظام . إذ أن ما كان يطرح من قبلها في أغلب الأحيان هو مطالبتها بالتصالح وبالمشاركة في السلطة ونادراً وناقصاً ماكانت تطرح إقامة نظام بديل هو كثير الشبه بالنظام اجتماعياً واقتصادياً .
بمعنى أن الطبقة السياسية الحاكمة نتيجة امتلاكها مقومات القوة في الداخل ، ونتيجة تقاطعاتها المصلحية مع الخارج ، التي وفرتها تداعيات فشل مشروع الشرق الأوسط الصهيو - أميركي ، وانعطاف أميركا والاتحاد الأوربي نحو علاقات شرق أوسطية جديدة مع مراكزه المتوترة وبخاصة سوريا ، تمكنت هذه الطبقة من ا ستكمال تكوينها الذاتي الحاسم . بينما القوى السياسية المعارضة التي اعتمدت على حراك النخب السياسية والثقافية ، لم تتوجه لاكتساب القوى الشعبية الداخلية حاملة برنامج التغيير الأساسية وصانعة التوازن المفقود مع النظام .. لم تكتسب قوى خارجية كاملة النزاهة في مساندتها ودعمها ، ماتزال - أي المعارضة - تتعثر وتكابد فقداناً للخيارات المطابقة ، ونقصاً في الآليات المبدعة ، وتخبطاً في الربط الوطني والديمقراطي ، والربط الاجتماعي بين أزمات الراهن المعيشية وخيارات البدائل الاجتماعية ، التي تعبر بصدق عن التوجهات الآنية الملحة والتوجهات المستقبلية ، التي تتطلبها ا ستحقاقات العدالة الاجتماعية محلياً وعالمياً .
بعبار موجزة ، إن هذه القوى السياسية المعارضة لم تتكون كطبقة سياسية حتى الآن . وتدل محصلة التجربة ، أنه إذا حاول البعض العودة مرة أخرى إلى نفس الأشكال والمسارات المعارضة الفاشلة ، فسيكون مصير هذا الاستنساخ هو مصير التحالفات التي أدت إلى الركود الذي يجثم أمامنا الآن .
إن المشهد التحالفي السوري يقدم لنا الآن ثلاثة أ شكال من التحالف قديمة جديدة ، تضم قوى سياسية معظمها اتسمت تاريخياً باليمين أو بالوسط ، دخل بعضها مؤخراً بين أقواس الدمقرطة ، وقوى انتقلت من مواقعها اليسارية إلى أقواس اليمين الجديد .. وهناك شبح يسار جديد يبحث عمن يجسده حزباً للمقهورين والمهمشين ..
1 - تحالف النظام " الجبهة الوطنية التقدمية " الذي يقوم على الالتحاق والتماهي " بالحزب الئد " ، تقوم مركباته على هياكل ومؤسسات السلطة ، وعلى الهيمنة على كل الأطر النقابية العمالية والمهنية والعلمية وكافة ما يطلق عليها مؤسسات المجتمع المدني . ويعبر عن ذاته الاجتماعية والطبقية من خلال أهدافه المعلنة والمبرمجة ، ومن خلال ممارساته وسياساته الاجتماعية والسياسية عامة ، حيث يصعب الفصل بينه وبين القوى الاجتماعية المرتبطة به مصالحياً وسياسياً وبين السلطة .. مقدماً نفسه كطبقة سياسية كاملة التكوين .
ومع مصادرة هذا التحالف السياسة ، وإقامة معوقات تشكل حزبي أو تحالفي ، طرح بالقمع مناخ الالتحاق به .. أو التشبه به . وهذا مالوحظ من ممارسات البعض ، الذي اعتبر أنه القائد للحراك المعارض والناطق با سمه ، دون تكليف من فرقاء معارضين آخرين . وهذا مازال يشكل عائقاً أمام وحدة المعرضة ونهوضها .
2 - تحالف أو تحالفات قوى سياسية معارضة ، تجهد من خلال حراك نخبوي سياسية وثقافي وعلاقات خارجية حقوقية بالدرجة الأولى وسياسية بشكل عام ، تتمثل بشكل رئيسي بإعلان دمشق وجبهة الخلاص والتجمع الوطني الديمقراطي ، تجهد للتعبير عن أنها تشكل حراكاً معارضاً واحداً . لكنها لأنها لاتملك خيارات اجتماعية سياسية اقتصادية مطابقة .. مغايرة لخيارات النظام ، وخاصة الاجتماعية والاقتصادية .. بل وتتشارك معه في الانتماء الاجتماعي الطبقي ، مع ما يتأتى عن ذلك فيما بينهما من تقاطعات مباشرة وغير مباشرة ، ولاتملك بسبب ذلك امكانيات جذب القوى الشعبية تحت قيادتها ، ولم تبرح ترغب بالمصالحة التشاركية مع النظام . مثل تعليق أو تليين معارضات بعضها ، مؤخراً ، للنظام ( الأخوان المسلمون علقوا معارضتهم للنظام بقرار قيادي صادق عليه مجلسهم الشورى . والتجمع الوطني الديمقراطي لين معارضته حسبما جاء في مشروع برنامجه السياسي الجديد ) .
وتشي المناخات الجديدة المنتشرة ، بأنه إذا سارت الأمور حسب السياقات السياسية الداخلية اللافتة ، سوف تنفك عقدة " الحزب القائد " في الحوارات " التصالحية " .. !! . غير المباشرة بين أهل النظام ومعارضين من النسق الأول ، حيث يشار إلى أنه من الممكن أن يقبل البعض أو أكثر من المعارضين الآن بالمادة 8 من الدستور ، بأن يتحول حزب البعث الحاكم " القائد للدولة والمجتمع " إلى مثابة " وا ل " على الدولة والمجتمع .. ولاية تماثل ولاية الفقيه في إيران ، أو ولاية الأسر الحاكمة في الدول الملكية ، حيث ينحصر دور مثل هذا التحالف " اللامعارض " أو التحالفات المعارضة " اللينة " بالمراوحة في التفاصيل السياسية والإجراءات الحكومية اليومية .
3 - التجمع اليساري الماركسي الذي يحمل برنامجاً أكثر تعبيراً من تحالفات أخرى عن الحقوق الشعبية ، ويضع نفسه ضمن قوى التغيير الوطني الديمقراطي . غير أنه في بدايات التأسيس والحركة والتكوين . لم يقم بعد جسور الاتصال مع المواقع الجماهيرية الطبقية . ولم يقدم بعد طروحات نضالية على مستوى الاستحقاقات العالية السقف .
بعد تحول معظم اليساريين السابقين إلى يمينيين جدد في الربع الأخير من القرن الماضي وبدايات القرن الحالي ، لم تبرز بعد مقومات ميدانية لنشوء حزب يساري يمثل الطبقات الشعبية . بيد أن شبح حزب يساري اجتماعي جديد .. ا ستدعته استعصاء أزمات الداخل والخارج ، بدأ يبحث عن مبادرات ذكية شجاعة ، تنبثق من جموع المحرومين والمقهورين والمهمشين لتجسده حزباً يتصالح مع ماضيه النضالي المضيء ، دفاعاً عن الوطن ضد المخططات والأحلاف الاستعمارية ، ودفاعاً عن الحريات الديمقراطية والحقوق العمالية والطبقات الشعبية ، وفاتحاً آفاق الحلم بعالم بديل خال من الاستغلال والحرمانات والآلام الاجتماعية والحروب العدوانية ، حزباً يقلب الصفحة المشوهة من تاريخه الحديث المعاش ، التي سجلت فيها معظم قياداته التاريخية تقبلها " المأساة" الجبهوية لاحتوائها من قبل النظام ، وتسخيرها غطاء للممارسات اليمينية ضمن إطار الجبهة والسلطة ، ومن ثم سجلت لاحقاً قيادات يسارية أخرى تقبلها " المهزلة " الرهان على القوى اليمينية ، ضمن الحراك المعارض ، بديلاً للطبقات الشعبية ، من أجل التغيير الوطني الديمقراطي .. حزباً ينهض بهذه الجموع ويقودها للوصول إلى حقوقها السيادية المشروعة في السياسة والاجتماع والاقتصاد .
والحال أن المشهد التحالفي الذي يعكس أ شكالاً ومفاهيم متعددة للتحالف ، يعكس أيضاً مسوغات وأ شكال ومفاهيم الصراع بين المعارضة والنظام . أي أن التناقضات الكبيرة التي أدت إلى ضرورة المعارضة ، ومن ثم تحول بعضها إلى تقاطعات بين النظام والمعارضة ، هذه التقاطعات ، التي سميت وأجملت مضامينها بالفساد ، والتي كانت الوصفات الرسمية لمعالجتها تتمثل بالمحاسبات الانتقائية الشكلية في السبعينات من القرن الفائت وبالإصلاح الإداري والاقتصادي في القرن الحالي ، بينما كانت وصفات المعارضة تتمثل بالإصلاح السياسي ، الذي يعني التغيير الديمقراطي .
وعبر سنوات تجاوزت الربع قرن ، لم تجد ، ولم تحقق قوى التحالف في السلطة والمعارضة حلاً لتلك التناقضات وذاك الفساد . فصانعوا الفساد هم مازالوا يملكون صناعة القرار ، ولايمكن أن يعاقبوا أنفسهم ، والمعارضون مازالوا مجردين أنفسهم من سلاحهم الرئيسي في سياق المعارضة .. أي من القوى الشعبية التي يمكن أن تسقط الفساد وصانعي الفساد .
الأمر الواقع هو الذي يؤكد أن التحالف الجبهوي للنظام هو في حالة انعدام وزن وحالة عجز عن مواجهة ظروف المرحلة الراهنة المتعددة المستويات والأكثر خطورة ومسؤولية وطنياً واجتماعياً وسياسياً ، وأن تحالفات المعارضة تكابد نواقص عديدة تبعدها عن وضعها ضمن احتمالات التفكير بأنها قادرة ببنيتها وآلياتها على أن تتحمل مسؤولية هذه المرحلة أيضاً . هذا الفراغ السياسي عامة ، وغياب التحالف العضوي المطابق اجتماعياً وسياسياً ، يتطلب استعادة المجتمع للسياسة بكل مضامينها ، الديمقراطية ، وحقوق الإنسان ، والعدالة الاجتماعية .. ويستدعي حالة بل حالات تحالف جديدة قادرة على تحمل المسؤولية على كل الصعد في البلاد .
وحسب التجربة التاريخية ، فإن اليسار المنزه عن المصالح الأنانية الذاتية الاجتماعية السياسية ، هو القادر على القيام بهذا العبء الهام الكبير ، دون أن يعني ذلك ا ستبعاد أو نفي قوى أخرى وطنية ديمقراطية من المشاركة بحمل الهم الوطني والديمقراطي . فما زالت مضامين المعارضة تحمل أبعادها الوطنية الديمقراطية الاجتماعية مجتمعة . بل إن التهديد الصهيوني الدائم لدول الجوار ومنها سوريا ، والتمنع عن إعادة الجولان المحتل إلى وطنه الأم ، وتبادل الأدوار الصهيونية الأميركية لفرض الهيمنة على الشرق الأوسط ، والأزمة الرأسمالية العالمية ، تزيد هذه الأبعاد تماسكاً واندماجاً ، تحفز على ذلك أيضاً تجربة الخمسينات من القرن الماضي ، حيث كان اليسار يشكل طليعة التحالف الوطني الديمقراطي .. وكان حامل مفاتيح المستقبل .
دروس التجربة المريرة للحراك المعارض في بناء الذات ، قوى ، وتحالفات ، ينبغي أن تجعل الركود المعارض الراهن عابراً . وذلك بأن تستخدم هذه الدروس في تدارك النواقص والأخطاء التي عوقت إلى حد كبير الوصول إلى نتائج أفضل مما حصل مقابل التضحيات الكبيرة التي قدمت بسخاء من قبل آلاف مؤلفة من المناضلين الشرفاء الشجعان ، بالتركيز المبدئي على الواقع الاجتماعي السياسي ، وعلى ما يفرزه هذا الواقع من مطالب وا ستحقاقات تشكل هموم الناس في مختلف المستويات الاجتماعية ، وخاصة الطبقات الشعبية ، وعلى ما يستدعيه ذلك من ارتباط وثيق مع هذه الطبقات والتعبير عنها واندماج همومها ومصالحها في صميم البرامج السياسية للتغيير . بمعنى ، ينبغي أن تساعد هذه الدروس في بناء الذات المعارضة كطبقة سياسية منافسة بمكوناتها الاجتماعية السياسية وببرنامجها من أجل التغيير الوطني الديمقراطي الاجتماعي منافسة كبديل جدي جذري للنظام .
والسؤال الذي يستدعيه هذا السياق ، كيف ستبطل قوى المعارضة الوطنية الديمقراطية اليسارية المناخ المشوه الذي نشرته " الجبهة الوطنية التقدمية " في المشهد التحالفي السوري ، وكيف سيتم تكوين الطبقة السياسية في الطرف المعارض ، وهل ستنقسم هذه الطبقة ، حسب التطور الطبيعي للعمليات السياسية في المجتماعات الطبقية ، إلى يسار ويمين في تحالف واحد ، أم أن من مصلحة القوى الشعبية أن يكون لها حزباً مستقلاً وأن تجسد تياراً معارضاً مستقلاًمفتوحاً بموضوعية ولضرورات الاستحقاقات المطروحة على أنشطة تحالفية عامة مع قوى خارج أطر اليسار ؟
في كل الأحوال يمكن القول ، على ضوء التجربة التحالفية السابقة الراهنة ، وعلى ضوء الاستحقاقات الوطنية والديمقراطية والاجتماعية في الحاضر والمستقبل ، فإن حضور اليسار الاجتماعي السياسي الديمقراطي في الظروف الراهنة سيشكل رافعة النهوض والعامل المساعد على تشكل الطبقة السياسية العضوية للحراك المعارض ، كما سيشكل رافعة النهوض لمشروع التغيير الوطني الديمقراطي الاجتماعيي .
ويبقى القول الفصل في نجاح البناء الذاتي والتحالفي هو ، لابد من أن يكون مطابقاً بمضمونه وأشكاله وآلياته مع مصالح القوى الاجتماعية التي يجري حقاً هذا البناء لها ومن أجلها .
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. الانتخابات الرئاسية الأمريكية: نهاية سباق ضيق
.. احتجاجًا على -التطبيق التعسفي لقواعد اللباس-.. طالبة تتجرد م
.. هذا ما ستفعله إيران قبل تنصيب الرئيس الأميركي القادم | #التا
.. متظاهرون بباريس يحتجون على الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان
.. أبرز ما جاء في الصحف الدولية بشأن التصعيد الإسرائيلي في الشر