الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقاطع في حيّز العابر (3)

يوسف ليمود

2009 / 8 / 26
الادب والفن


جنازة
السماء مدهونة كما لو بدخان بركان قديم. طيور سوداء كرؤوس السهام تنتشي بالرذاذ. الأسطح تلمع بالبلل. النوافذ مسدلة. لا أحد معتاد أن ينظر بأذنه إلى المطر من نافذة. أصابع برقّة الندى تنقر على الزجاج. هل مرت جنازة خفيّة؟ الموت هنا عيب، أو ربما هو عورة! يجب ألّا يزعج من مات من لم يموتوا بموكبه. كلٌ يحمل موته على عنقه. لو كنت إدوارد هوبر لطليت حائط هذا المنظر بمربع شمس. تكاد الشمس في لوحاته تكون الشيء الوحيد الحي بعد الصمت والوحدة. لا أعرف إن كانت أمطرت يوم مات هوبر أو مشت في جنازته الشمس! على أيه حال هو مرّ خفيةً، ومن دون أن يزعج أحداً.

آدم
بدأ، كما يقولون، من الصفر. لم يكن فنانا في الفن لكن في حياته كما أرادها. طارد بيكاسو، ماتيس، براك، جياكوميتي، روتكو، ليجيه، إرنست، كلى، ميرو... ليقتني أعمالهم. خلّدته الفوتوغرافيا جنبهم في مراسمهم. أنشأ متحفاً رقيق البناء والخطوط وسط جنة خضراء، يحمل اسمه: بايلار. في أسفاره، ورغم الثراء، كان ينزل فنادق الدرجة الثالثة. عنده حق، لم التبذير وفي العالم من لا يجد الرغيف؟ رأيته مرة على العشب جنب زوجته: آدم وحواء. ماتت هي قبل شهور وتركته ينزلق في الثمانين على كرسي له عجل. ولأنه لم ينجب لا قابيل ولا هابيل، وهب المدينةَ جنته – المتحف. يستعد الآن لمقابلة الرب عارياً ونحيفاً بوجهٍ ملأته الحفر والأخاديد كتماثيل جياكوميتي التي أفنى عمره معها وفيها. هل تكون خطيئته أمام الله أنه آمن بالفن وحده؟

حقل
الحقول تسكن في أبدية صمتها، عرائها. الأم التراب. 
في الظهيرات تعبرها ظلال السحاب كجيشٍ من خيالات المآتة. وفي الليل تلمسها النجوم، نور هلال أو قمر مكتمل. 
على هذه الامتدادات الطاهرة، يحاك الغدر. يتسلل القاتل. يسيل الدم. يشهق القتيل. يذوب السر في الملح. 
ويحدث أن تتشرب رفات ميتٍ استثنائي: قديس أو لص أو مجنون... قُبر بعيداً عن مدن الموتى.
المدن أيضا، بأحيائها والأموات، تشربها الحقول على مهل.
العجيب هو هذه الزهرة على الحجر! ذكّرتني بصوت محمود درويش يتلو "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، هو الذي أرضه معجونة بدم هابيل!

ظل
ظلي على الرصيف مثقوب بليلةٍٍ من الألم. شفاف حتى لا يكاد يبين، رغم ارتمائه من شمس كالنحاس. هل يفيض الألم من ثقبه اللحمي ليفرد في العين شاشة بيضاء؟ الشجر والنهر وحجارة البيوت والنور والوجوه تنعكس على الشاشة كأبهى ما تكون الأشياء عليه! كأن القبح انسحب من العالم. هل الألم مصدر للجمال بينما هو غير جميل؟ الألم شيء قبيح. لا معنى له ولا مبرر. هو عين العبث. إذا كان الله يتألم فلم جعل لنفسه ظلاً على الأرض – الإنسان؟ وإذا هو لا يتألم فالإنسان أكبر منه حتماً!
"الألم قممنا العالية" قال نوفاليس.

صباح
هذا الصباح ترسٌ خرج عن ماكينة الوقت. مكانه الغيم المقلوب في السماء. أذهب إلى مكتب البريد أتحرى عن خطاب يصل بينما أرحل أو أكون رحلت. هكذا عادة الحياة: وصول متأخر ولو دقيقة. كما قطار أغلق بابه، يتحرك تاركاً إياك وفراغ الرصيف. هذه العجلات التي تنهب المسافاتِ تسحق الوقت، ترمي على رصيفك كفناً غير مرئي تجرّه وراءك كمن رفضته امرأة. تصبح، ولو للحظة، ترساً خرج عن ماكينة الوقت، مكانك الغيم المقلوب في قبة الدماغ. هذه اللحظة هي البيدق الذي يحدد سلفاً صباحات من ينتظرونك، وربما من لا ينتظرونك أيضاً!

غيمة
الغيمة تمساح فاغر فاه، حجب شمساً آفلة ويزحف اتجاه النهر. فكّه السفلي يترهّل، يتبدد. يتمدد جسمه كلما التهم كائنات الماء الصغيرة الزاحفة جنبه. التهمهم جميعا حتى أصبح جلدا هائلاً كحيوان اختصر جميع كائنات جنسه. ساعةً ويعود التمساح إلى النهر في صورة مطر.
يحلو للغيم، أحياناً، أن يفكر في التضاريس التي يعبرها: يأخذ شكل حوت أو تمساح أو سفينة، في مجال بحر أو بحيرة أو نهر. يتدرّج كقطيع خرفان فوق السهل والمنحدر. أو، حين يراعي الزمن، يبدو على شكل بيانو أو نهود أو قباب أو جنازة، في قيامة فنان متوحد... الغيمة، رغم أنها تَبدّد، هي تجسيد التحوّل والصيرورة: من ماء إلى عشب إلى لحم إلى تراب إلى بخار إلى فوق إلى نهر. دائرة فاغرة فاها، كحيوان يختصر كل الكائنات في جلد ثقيل، لكنه هشّ يتبدد.

بقعة
بقعة اللون التي اندلقت من أنبوب روحي وأنا أغادر مرسمي، كان يمكن، بريشة رسام واقعي، أن تصير جبيناً هادئاً أو خرزة في صدر أو عيناً غائبة في مائها... وكان يمكن، لو سمح لي الوقت، أن تصير، بفرشاتي، حقلا من الرمادي تحكمه هندسة خفية، أو منحنىً بين فراغين، أو حتى فراغاً. لكنها اندلقت في المكان وبقيت: بقعةً. أنا لم أُرد. هي لم تُرد. ربما الصدفة أرادت؟
هكذا الكائن، يندلق من رحم صدفة، يدلق بدوره صدفةً - بقعةً، تحتاج يوماً من يزيلها، إن لم تمتلك هي إرادة أن تزيل نفسها بنفسها.

يوسف ليمود
النهار اللبنانية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال