الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
مساهمة في تصويب الخطاب الفلسطيني: كيف إختفى -معسكر الاعداء-؟
مسعد عربيد
2009 / 8 / 27القضية الفلسطينية
كثيرة هي المفارقات التي تستوقفنا في المشهد الفلسطيني. وقد نختلف في تقييم هذه المسألة أو تلك، إلاّ اننا في كل الاحوال لا نختلف على ان هذا المشهد، عبر عقوده الاربعة الاخيرة، إزداد تدهوراً وتعقيداً وإبتعاداً عن اهداف المشروع الوطني الفلسطيني: تحرير الوطن المحتل. ولا ينبع هذا الاستخلاص من منظور سوداوي أو عدمي، بل يستند الى مقاربة موضوعية في تحليل الواقع القائم.
سأتناول في هذه الدراسة بعض الجوانب العامة للخطاب الفلسطيني بالتحليل النقدي، وإن لم أكن بصدد الخوض التفصيلي في كافة أبعاده وحيثياته، وسأحاول شرح قصة تحريف هذا الخطاب في حياة شعبنا ومسيرة نضاله، علّها توفر مدخلاً لمعالجة العديد من القضايا الهامة والملحة في الحالة الفلسطينية. ولا تعدو هذه المحاولة العاجلة كونها مساهمة متواضعة لا تفي بغرض تصويب الخطاب الفلسطيني ومعسكر الاعداء ولا تشكل بديلاً عن القراءة النقدية والشاملة لهذا الخطاب بمجمل شعاراته وطروحاته، والتي تبقى مهمة وضرورية لاستكمال مسيرة الشعب الفلسطيني نحو تحرير وطنه المحتل.
(1)
بعض سمات الحالة الفلسطينية
يستعصي، لدى القراءة النقدية للخطاب والحالة الفلسطينيين، القفز عن بعض السمات المميزة لهما :
1) غياب الفكر السياسي: لم تنتج حركة المقاومة الفلسطينية المعاصرة ("حركة المقاومة") فكراً سياسياً قادراً على الاضطلاع بقضايا وإشكاليات ومهام الحالة الفلسطينية والعربية، بالرغم من زخم الكتابات والتحليلات السياسية والكم الهائل من الصحف والجرائد والمواقع الالكترونية التي ملأت الساحة خلال العقود الاربعة الاخيرة. كما نلحظ ان هذه الكتابات نادراً ما تختلف بحسب المرجعية الفكرية، بل هي تتناقض في أغلب الاحيان بسبب المرجعيات السياسية والارتباطات المصلحية المتباينة، سواء كان ذلك على شكل تبعية للانظمة العربية (مصر، السعودية، العراق، سوريا على سبيل المثال)، أو الاحزاب الحاكمة (حزب البعث العربي الاشتراكي بشقيه مثلاً) أو الدول العظمى (مثل الاتحاد السوفييتي سابقاً).
2) غياب المراجعة النقدية الجدية: لم تقم هذه الحركة على إختلاف فصائلها وقياداتها بمراجعة نقدية جدية وأمينة وشاملة لتجربتها المعاصرة وإخفاقاتها وسبل النهوض بالمشروع الوطني الفلسطيني، بالرغم من كثرة "المحاولات" التي إندرجت تحت عنوان "المراجعة النقدية"، ووفرة الشعارات والاطروحات التي حان الوقت، منذ أمد، لمراجعتها ونقدها وتقويمها. لم تجرِ هذه المراجعة المنشودة بالرغم من جسامة التضحيات التي قدمها شعبنا والمنعطفات الخطيرة التي مرت بها قضيتنا والمخاطر الكبيرة، المحدقة بها والمقبلة عليها، على مستقبلها، ناهيك عن عدالة القضية الفلسطينية وتألق مكانتها الاممية التي أضحت قبلة أنظار شعوب العالم وشرفائه.
3) تشي مسيرة الاخطاء والمآزق التي سقطت فيها التجربة الفلسطينية، بفقدان القدرة على "التعلم" من التجارب والإتعاظ بالاخطاء وإستثمار هذه الدروس من اجل تفادي الوقوع في المزيد منها. على النقيض من ذلك، فقد أظهرت الحركة الوطنية الفلسطينية قدرة هائلة، وعلى نحو مثير للدهشة وللتأمل، على الاصرار في المضي على الدرب نفسه أي إرتكاب الاخطاء، والمزيد منها، وتكرارها وإعادة إنتاجها، دون التوقف للحظة للتقييم وطرح الاسئلة ومراجعة التجربة بامانة.
قد يحملنا المنطق الشكلي على تحميل القيادات الفلسطينية المتنفذة (في فتح و م.ت.ف) وزر المسؤولية الاولى عن هذه الاخطاء: المسؤولة الاولى عن إتخاذ السياسات والخطوات العملية للتراجع عن الاهداف الوطنية وخرق ثوابت النضال الفلسطيني، وتحريف البرامج السياسية تطويعاً لخدمة المصالح والسياسات، وعقد الصفقات والاتفاقيات والمفاوضات مع العدو المحتل. إلا ان هذا لا يعفي الآخرين من المسؤولية التاريخية: لا يعفي اولئك الذين رفضوا الاتفاقيات (اوسلو وملحقاتها ..وغيرها). ورفضوا الولوج مع العدو الصهيوني في دهاليز المفاوضات العبثية، ولا الذين ما زالوا يتشدقون بالخطاب الثوري ومفردات المقاومة، كما انه لا يعفي اولئك الذين وصلوا الى السلطة من بوابة اوسلو رغم رفضهم لها ومن خلال إنتخابات "ديمقراطية" تمت في ظل الاحتلال وما زالوا يتمسكون بزمام سلطة وهمية قامت على ارضية اوسلو وتحت حراب الاحتلال.
يعري هذا كله مظاهر العجز والتناقض والانقسام والفوضى التي تعم الحالة الفلسطينية، إلا انه يجب الا يغيب عنا ما هو وراء هذ الحالة، على مأساويتها، من إصطفاف طبقي ومصلحي لا يفسر هذه التناقضات فحسب، بل يعمل على تعميقها. ولا بد من التنبه ـ رغم اختلاف الاطراف المتشابكة في الحالة الفلسطينية وهول التناقضات بينها ـ الى ان المصالح المادية (بالاساس الطبقية والسياسية والاقتصادية منها كذلك المصالح الفئوية والفصائلية والفردية دون إستثناء) تظل العامل الحاسم والاكثر وزناً والذي يقف وراء هذه التناقضات ووراء التمسك بالسلطة الوهمية في الضفة الغربية وقطاع غزة، كما يقف وراء الفساد المستشري في أجهزة السلطة والمنظمة ومؤسساتهما ويُعذيها.
وتفاديا لخلل التأويل أو إساءة الفهم، نقول بان محاكمة الحالة الفلسطينية بكل تعقيداتها وتعدد ابعادها، يجب ان يتم في سياق وعلى أساس، التناقض الرئيسي مع العدو المحتل. وعليه، فإن ما ينطوي عليه هذا النقد من تعميم يشمل كافة الاطراف ويحاكم كافة الفصائل كجزء من "القيادة السياسية الفلسطينية" ولا يقتصر على قيادة "فتح" لوحدها أو عرفات كفرد أو لوحده. الا انه لا يساوي بين الاطراف التي إنتهجت نهج التسوية واذعنت للاحتلال وأضحت صنيعة له، وتلك التي ما زالت ترفع راية المقاومة، بل يتطلب الموقف وفي كل دقائقه أن يفصل بين مَنْ يقاوم من جهة، ومَنْ حسم صراعه مع الاحتلال على اساس التنازل عن الوطن وحماية "أمن" العدو وإستراضاء العدو الامبريالي الاكبر، من جهة اخرى.
4) تخريب الوعي الجمعي الوطني والقومي: لا تستوي قراءة الحالة الفلسطينية، على ما فيها من تعقيدات ومأساوية، دون الالتفات الجدي الى ما حلّ بالوعي الفلسطيني والعربي من تدمير وتشويه عبر العقود الاربعة الاخيرة.
وليس صحيحاً ان عملية تخريب الوعي (الفردي والجمعي) هذه جاءت نتيجة الاحباط والوهن وتعقيدات الظروف والتطورات في الساحة الفلسطينية وإن كان ليس بمقدور المرء موضوعياً ان ينكر هذه المؤثرات الكبيرة. إلا انه لو تسنى لنا ان نُحَكِم التاريخ، تاريخ الشعوب وثوراتها، لكان من شأن هذه الظروف والتطورات على ما تسببه من معاناة وإحباط، أن تُصلب من إرادة الشعب الفلسطيني وتُجذر وعيه. وعلى الرغم من تباين الاسباب والعوامل الداخلية والخارجية التي أودت بالوعي الجمعي والشعبي، فان قيادات الفصائل الفلسطينية ومثقفيها تتحمل المسؤولية الكبرى والاولى. وإن كنا بعيدين عن كيل الاتهامات الى هذا الفصيل أو ذاك، فشعبنا أدرى بذلك، وان لم نكن بصدد قراءة توزيع المسؤولية وإقتسامها على اساس الحصص والنسب المئوية، فان قيادات حركة المقاومة، دون إستثناء ليسار أو ليمين، او لقيادة متنفذة واخرى "غير متنفذة"، ولتنظيم علماني وآخر إسلامي، تحمل وزر ومسؤولية الكارثة التي حلت بواقع ووعي شعبنا وارادته. بل حري بنا ان ندفع بهذه المسألة قدما لنسأل: ألم تكن قوى اليسار، وقوى المقاومة دوماً وعبر التاريخ، هي صاحبة المبادرة والمسؤولة عن تنشئة الوعي الثوري والنقدي لدى الجماهير؟ فكيف يتساوى إذن، أمام الشعب والتاريخ، مَنْ يحمل راية الثورة والمقاومة بِمَنْ تنازل عن الحق والوطن وإنصاع لارادة العدو؟
يتضح لنا من هذا ان الحالة الفلسطينية تشكل شذوذاً عن أعراف وتقاليد الحركات الثورية والتحريرية في تاريخ الشعوب، لان قياداتها إختارت مصالحها الطبقية والفئوية والآنية والذاتية. في هذا الاصطفاف يكمن التفسير لتخليها عن المصالح الوطنية ونحر برنامج تحرير فلسطين.
ولعل نظرة الى ما إنتاب شعارات ومقولات الخطاب الفلسطيني، بشتى مستوياته، من تآكل وتدهور خير دليل على ما نقول. فليست مسيرة التراجع هذه سوى مرآة تعكس النتائج المادية والموضوعية لاندحار البرنامج الوطني والسياسي الفلسطيني والهزائم المتتالية التي حلّت به. وقد تجلى هذا في التلاعب المتواصل بالشعارات والطروحات مما أدى الى طمس وتشوية الكثير من أبعادها وتأويلها وتوظيفها في تضليل الشعب وتخريب وعيه وإلهائه عن برنامج التحرير الوطني.
5) تبعية "الثقافي" للسياسي: إلتحم المثقف والخطاب الثقافي الفلسطيني، عبر مراحل نضال شعبنا وتبلور ثقافته، بالمهام الوطنية وبعبء تحرير الوطن سواء خلال حقبة مكافحة الاحتلال البريطاني وما رافقة من مكافحة للهجرة والاستيطان الصهيوني، وبعد قيام الكيان الصهيوني عام 1948، أو خلال نشأة وتبلور الحركة الوطنية المعاصرة. إرتبط المثقف بانتمائه وهويته بتلك المسيرة حيث ربط المسألة الثقافية بالوطنية والاجتماعية، فساهم في بلورة الشخصية الوطنية الفلسطينية وقراءة المرحلة وإنارة درب الكفاح الشعبي.
الا ان هذا الخطاب، سرعان ما أخذ "يتلائم" مع نهج التسوية (الذي فرّخ لبلاطه مثقفين وشعراء وكتاب ومادحين)، فارتبطت الثقافة الفلسطينية، منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي، "بالمؤسسة" السياسية وإنخرطت في عملية التسوية وتسويقها وإستدخالها في الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي. وليس في هذا إنتقاص للنتاجات الناقدة والتي ظلت ملتزمة بالاهداف الوطنية، بقدر ما هو وصف للمسار العام للخطاب الثقافي الفلسطيني.
وبشكل موازٍ تماشى هذا الخطاب مع المنظمات غير الحكومية ومنظمات ما يسمى ب"المجتمع المدني" (خاصة في مرحلة ما ـ بعد اوسلو) والتي تفشت لتنخر مجتمعنا وموسساتنا، فتخارَجَ المثقف وخطابه في الانتماء والهوية، وفوق هذا وذاك في التمويل والفساد (الداخلي والخارجي) فاصبح أداة إفساد وتخريب وتدمير.
انعكس هذا على طبيعة الانتاج الثقافي برمته. فبعد ان تميز هذا الانتاج في المرحل المبكرة بالرصانة العلمية والموضوعية والالتزام الوطني والنضالي ، أخذ المثقف والثقافة "يتكيفان" مع الخطاب السياسي وإنتقلا ليصبحا بوقاً لنهج التسوية السياسية ولتبرير التخلي عن الثوابت الوطنية والقومية وخيانة برنامج تحرير الوطن المحتل. كما تجلي في الوهن الذي أصاب خطاب التحريض الجماهيري الذي ساد مرحلة "مدي يا ثورتنا مدي" و "طالعلك يا عدوي طالع" (والذي يغيب كليةً عن المشهد الفلسطيني الراهن)، وفي القفز الميكانيكي الى عدم المساس أو التعرض للانظمة العربية خاصة بعد مجازر ايلول (سبتمبر 1970) ومعارك الاحراش (يوليو 1971) وتراجع البعد القومي وإعلاء نغمة "التضامن العربي" الرسمي عوضا عن المشاركة الشعبية العربية الحقيقية في معركة التحرير.
6) التخلي عن الاجيال القادمة ومستقبل المقاومة: تفرض طبيعة الاحتلال الصهيوني ـ كونه إحتلالاً إستيطانياً إقتلاعياً وجزءً من المشروع الامبريالي ـ الصهيوني الذي يستهدف الوطن العربي برمته ـ تفرض المزيد من التعقيد على هذا الصراع وتشابك أطرافه وتعدد الاعداء الذين يملكون إمكانيات هائلة على كافة المستويات. بيد ان هذا بدوره يحتم على نضالنا ان يكون نضالاً طويل المدى يتطلب حشد كافة الامكانيات والقدرات الوطنية والقومية والاممية بقدر يفوق قدرات الشعب الفلسطيني لوحده مهما عظمت تضحياته. تلك هي حقائق الصراع على الارض كما يؤكد عليها تاريخه الطويل وهي لا تخضع للمصالح والمطامع الآنية للقيادة الفلسطينية المتنفذة ولا تصغي الى رغائبيتها، بل هي لا تنصاع إلا لقوانين التاريخ وحراك الشعوب وإرادتها.
إلا انه وبالرغم من هذا كله، وبالرغم من شعارات م. ت. ف. التي توسطها شعار "تعبئة قومية"، فان حركة المقاومة لم تولي الاجيال الفلسطينية والعربية القادمة العناية الكافية من حيث تربيتها وتنشئتها وتهيئتها لمواجهة الصراع المحتدم في بلادنا والمرشح ان يظل مستعراً لعقود قادمة، ولم تسلحها بالمعرفة والعقيدة والتثقيف، وفوق ذلك وقبله، بالوعي الثوري كي تصمد ويتسنى لها أن تناضل وتستمر في مقاومة الاحتلال والمشروع الصهيوني.
في هذا الصدد نَحَتْ المقاومة الفلسطينية نحواً مخالفاً لحركات التحرر العالمية والتي جعلت من تنشئة الشباب والعناية بقضاياهم إحدى أهم مهامها واولولياتها. فعلى الرغم من إنشاء مؤسسات ومنظمات شعبية للشباب الفلسطيني، فان هذه المؤسسات باستثناء إسمها، تركت الاجيال عرضة للضياع والاحباط والخذلان، وعملت على إفساد عقولهم وتخريب وعيهم الوطني والقومي والثوري وتجييره في خدمة المصالح الفئوية الآنية والضيقة للقيادات والفصائل الفلسطينية المتعددة والمتنافسة. وخلافاً لكل حركات التحرر في العالم، والتي لم تواجه بكل المعايير والمقاييس عدواً مثل عدونا، فاننا لم نستثمر في اجيالنا القادمة وتنمية مستقبلها وهو ما يشهد عليه واقع الشباب والاجيال الصاعدة في الوطن المحتل.
7) إنسداد المشروع الوطني وغياب البديل: لم يتمخض المأزق الفلسطيني عن بديل وطني قادر على الاضطلاع بالمهام النضالية ومتابعة مسيرة المشروع الوطني. على النقيض من ذلك، إزدحم خطابنا بعد كل منعطف بالاصوات التي إرتفعت عالياً متباكية على "المرحلة العصيبة التي تجتازها ثورتنا" ومطالبة "بمراجعة المرحلة" و"تقويم التجربة" والاستفادة من "عبرها ودروسها"، والتصميم على "متابعة الثورة حتى النصر"، ولم يتقاعس أي فصيل فلسطيني عن المساهمة بهذا الدجل الذي أسموه ب"المراجعة النقدية" حيناًً، و"النقد والنقد الذاتي" أحياناً اخرى.
(2)
في السياق التاريخي
التراجع: عنوان المرحلة
لم يكن قد إنقضى على إنطلاقة الكفاح الفلسطيني المسلح سوى أعوام قليلة (وهي مفارقة لا تجوز الاستهانة بها)، حتى أخذ نهج التسوية السياسية (تسوية الصراع العربي ـ الصهيوني) والتراجع عن المشروع الوطني في تحرير فلسطين يتسلل الى صفوف حركة المقاومة الفلسطينية. وقد إقترنت بهذه العملية السياسية، عملية اخرى، لا تقل خطورة بل كانت شرطاً لتمرير نهج التسوية وإستدخال الهزيمة، وهي عملية الفرش الايديولوجي والتمهيد الثقافي والسياسي لتشوية وتدمير الوعي الجمعي الوطني الفلسطيني والعربي على حدٍ سواء.
ومن أجل تجليس طرحنا في سياقه التاريخي، ودون الاسهاب في التفاصيل، فانه من المفيد العودة بشكل خاطف الى السنوات الاولى من الكفاح الفلسطيني المعاصر، الى اواخر ستينيات وبدايات سبعينيات القرن الماضي.
هنا، لا يفوتنا أن نلحظ الهزائم المتلاحقة والاخفاقات المصحوبة بالتراجعات والتنازلات (التكتيكية والاستراتيجية) والتي تمثلت "بتعديل" تلو الآخر في برامج م.ت.ف. ـ البرامج السياسية الصادرة عن دورات المجلس الوطني الفلسطيني المتعاقبة وخاصة تلك التي تلت الدورة الثانية عشر للمجلس الوطني الفلسطيني (صيف 1974) والميثاقين الفلسطينيين (القومي لعام 1964 والوطني لعام 1968) ـ وبرامج وسياسيات وأدبيات كافة الفصائل الفلسطينية دون إستثناء.
أضحى التنازل المتهرول عن ثوابت النضال الفلسطيني والتراجع عن أهداف المشروع الوطني "سمة" المرحلة، رغم تعدد الذرائع والمسميات التي برع أصحاب نهج التسوية في نحتها. وقد أمتدت هذه المرحلة منذ بداية الصدامات المسلحة مع النظام الاردني (1968) وتصفية الوجود العسكري الفلسطيني في الاردن (معارك أحراش عجلون تموز/يوليو 1971)، مروراً بالهزيمة في لبنان ومغادرته في وداعٍ نهائي للكفاح المسلح (بالاستعارة من إرنست همنجواي) والذي جاء بعد تصفية الوجود العسكري الفلسطيني هناك إثر الاجتياح الصهيوني للبنان في صيف 1982. تلى ذلك إرتحال القيادة الفلسطينية الى تونس ومسلسل التنازلات والهزائم التي شملت إعتراف عرفات بالكيان الصهيوني ونبذه "الارهاب"/المقاومة (في القاهرة عام 1985 ولاحقاً في أواخر عام 1988)، وصولاً الى المفاوضات السرية مع الحكومة الاسرائيلية، بدايةً عبر وسطاء هولنديين أواخر عام 1989، ولاحقاً في مؤتمر مدريد، الى ان تُوجت بإعلان المبادئ واتفاقية اوسلو (أيلول/سبتمبر 1993) وإعتماد المفاوضات مع الاحتلال أساساً لتسوية سياسية للصراع والتخلي النهائي عن برنامج تحرير الوطن.
الصراع بين نهجين
أخذ الصراع بين نهجي التسوية والمقاومة يشق طريقه مبكراً ـ منذ أواخر ستينيات القرن المنصرم ـ الى صفوف الفصائل الفلسطينية وكافة مناحي الحياة السياسية للشعب الفلسطيني في شتى أماكن تواجده. وليس سراً أن هذا الصراع كان قد احتدم في المؤتمر العام الثالث لحركة "فتح" ـ الذي إلتئم في سوريا (تشرين الاول/اكتوبر 1971) عقب الخروج من الاردن (تموز/يوليو 1971) ـ وتمحورحول وسائل النضال وجدوى الكفاح المسلح كوسيلة أو كالوسيلة الرئيسية أو الوحيدة لتحرير الوطن. كان الصدام بين هذين النهجين قد تجلي آنذاك بوضوح حتى كاد نهج التسوية أن يهيمن على قرارات وسياسات ذلك المؤتمر لولا المواقف الحازمة لبعض قيادات المجلس الثوري لحركة فتح التي تصدت لخط الاستسلام ونجحت، ولو لحين، في "إرجاء" هيمنة نهج التسوية الذي مثلته آنذاك كثرة من أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح.
إلا ان ما يجدر ذكره هو ان المقدمات السياسية والتاريخية للصراع بين هذين النهجين أخذت تتبلور قبل ذلك الحين في عدد من الاطروحات والتصريحات لبعض القادة الفلسطينيين والتي جاءت بعد فترة قصيرة (هي بالاحرى قصيرة جداً في حياة الشعوب) من إنشاء م. ت. ف. (1964) وإنطلاقة الكفاح المسلح والنهوض الجماهيري الذي عاشته حركة المقاومة الفلسطينية عقب الاحتلال الصهيوني الثاني (5 حزيران/يونيو 1967) ومعركة الكرامة (21 آذار/مارس 1968).
لا أورد هذه الوقائع من باب النوستالجيا للماضي، بل لتأكيد حقيقتين، كثيراً ما يتم القفز عنهما:
الاولى، ان نهج التسوية والخيانة وما جرّه على المشروع الوطني الفلسطيني من ويلات ونتائج وخيمة، لم يكن مجرد ردة فعل للضغوط، على إختلاف مصادرها (المحلية والقومية والاقليمية والدولية)، ولم يأتِ طفرة وبدون مقدمات سياسية وطبقية وتاريخية، بل أخذ هذا النهج ينخر جسد النضال الفلسطيني منذ مراحله المبكرة، وان الخيانة، التي باتت اليوم مفضوحة، جاءت نتيجة لتراكم سنوات من التراجع والتنازل أصبحت خلالها المقاومة الفلسطينة بكافة فصائلها ومنذ ذلك الحين مسرحاً للصدام بين نهجي التسوية والمقاومة ومواقفهما من الكيان الصهيوني والصراع العربي ـ الصهيوني والهجمة الامبريالية على بلادنا.
أما الحقيقة الثانية، فهي انه ما كان ليتسنى للقيادة الفلسطينية ان تأخذ المشروع الوطني الى هذا الحضيض والطريق المسدود دون التلاعب بالمفردات وتأويل الشعارات وتزييف المقولات بغية تدمير الوعي الجماهيري وتغذية الاوهام الزائفة حول إستمرار النضال و"الثورة حتى النصر" و"تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني" ...وغيرها، وما إقتضته هذه العملية، التي إمتدت سنوات طويلة من طمس للحقائق وتضليل للجماهير الفلسطينية والعربية وحرفها عن النضال وإيصالها الى حالة الاحباط والقنوط التي نشهدها اليوم.
(3)
في "البراغماتية" الفلسطينية
ترعرعت في صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية، منذ أوائل سبعينيات القرن المنصرم وربما قبل ذلك، نزعة أطلقت على نفسها "الواقعية السياسية" أحياناً والبراغماتية "والتعامل مع الواقع" أحياناً اخرى. ولم تكن هذه النزعة وطروحاتها، رغم إدعائها بالواقعية، تمت الى واقع شعبنا وظروفه ونضاله بصلة، وإنما كانت تمثل بامتياز إمتداداً لمصالح القيادات والفئات المتنفذة في حركة المقاومة الفلسطينية وإصطفافاتها السياسية والاقتصادية/الطبقية.
تنامت هذه النزعة، لاسباب وبحكم عوامل ذاتية وموضوعية عديدة، لتصبح "مدرسة" متكاملة ذات نهج وأتباع ومؤيدين ومروجين، وكبرت حتى أضحت المهيمنة على الخطاب والسياسات لا سيما وقد أغدق عليها أعداء المشروع التحريري الفلسطيني شتى موارد الدعم والتأييد والتمويل.
ولعله من المفيد في هذا المقام أن نقف وقفة عاجلة تحاكم هذه النزعة في السياق الفلسطيني.
تعني البراغماتية، من حيث الجوهر، إستخدام النتائج كقاعدة أساسية لتقييم الممارسة العملية او "لتقييم كيف نكون عمليين"، وتنبع من الادراك بان القدرات النظرية والفكرية هي جزء من الفعل البشري وانه لا يمكن ولا يجوز الفصل بين النظرية والممارسة. فالنظرية، وإن كانت تجريداً للتجربة الملموسة، إلا أنها تعود في المحصلة النهائية لتطوير هذه التجرية وإثرائها. وضمن هذا المفهوم فان البراغماتية تشكل أداةً وجزءً من تقييم النضال والتجربة وإنجازاتها وتصويب الانحرافات والاخطاء التي تعتري المسيرة.
كانت هذه المقدمة ضرورية لطرح الاسئلة التالية:
كان مشروع التحرير الوطني الفلسطيني قد إنطلق من ظروف الشعب الفلسطيني في خمسينيات وستينيات القرن الماضي وما تلا ذلك من إتساع رقعته الجماهيرية وتصاعد الكفاح المسلح.
وبناءً عليه، وأسوة بغيره من الشعوب التي ناضلت في سبيل إستقلالها الوطني وتحرير اوطانها من الاحتلال والاستعمار، فان تحرير فلسطين لم يكن حلماً طوباوياً بل ضرورة تاريخية وموضوعية تلبي مصالح الشعب الفلسطيني في تحرير وطنه وإنهاء الاحتلال الصهيوني. وعليه، فان مشروع التحرير الوطني قام على أرضية تحليل موضوعي للظروف المحلية والقومية العربية والدولية.
إن كانت هذه هي قرائتنا للعوامل الذاتية والموضوعية التي أملت مسيرة النضال الفلسطيني، فكيف أصبح هذا المشروع الوطني الفلسطيني بحاجة الى هذا القدر من "الواقعية السياسية" التي إقتضت تعديل البرامج السياسية و"تكييف" الاهداف الاستراتيجية والتكتيكية (إقرأ التنازلات المتوالية)، كل ذلك في غضون سنوات قليلة من إنطلاقة الكفاح الفلسطيني المعاصر أي منذ بدايات سبعينات القرن المنصرم وصولاً الى إعلان المبادئ وإتفاقيات اوسلو (1993)؟ فقد أخذت قيادات الحركة الوطنية، بعد سنوات قليلة من الكفاح من أجل التحرير،تطلق "البلونات الاختبارية" بغية تبني نهج التسوية السياسية وعقد الصفقات مع العدو المحتل والتي تجسدت لاحقاً في تسوية سياسية تسعى الى إقامة "سلطة وطنية" وهمية إنتهت بمشروع التحرير الوطني الى حضيض التراجع والخيانة.
كيف دخلت "البراغماتية" البيت الفلسطيني في تلك المرحلة المبكرة ومن هذا الباب الواسع؟
قالوا لنا آنذاك أن البراغماتية في حياة الشعوب وثوراتها لا تتناقض مع الاهداف الاستراتيجية طالما بقيت ملتزمة ومتناغمة مع الاهداف النهائية للشعب، وقلنا انهم في ذلك محقون، الى ان أخذت البراغماتية الفلسطينية تشوة طبيعة الصراع العربي ـ الصهيوني وحقائقه وتلفق المركبات الرئيسية لمعسكر الاعداء.
وقالوا لنا ان البراغماتية تعني "التكيف" مع الواقع القائم من أجل تحقيق الاهداف المرحلية في ظل "ميزان القوى السائد"، فاذا بهم يجهضون المقاومة وروحها ويفتكون بوعي الشعب وإرادته عندما كان الواقع الفلسطيني والعربي والعالمي في حقيقتة محتقناً بالتناقضات ومكتنزاً بالامكانيات والقدرات الكامنة لخوض نضال شعبي ثوري في سبيل المشروع التحريري الفلسطيني والعربي النهضوي.
أفهمونا آنذاك أن البراغماتية تعني التعامل العملي مع الاهداف الآنية الى ان إنكشف القناع عن براغماتية عدمية لا "عملية" قصدت التخلي عن معايير ومبادئ وأهداف النضال الوطني والانقلاب، كما إتضح بالمدلول الفعلي، على واقع شعبنا ونضاله وحرفه عن أهداف الكفاح الوطني وثوابته وزجوا بنا في أوهام أسموها "فن" الممكن في السياسة وشرحوا لنا أن المقياس الوحيد للسياسات والبرامج هو الحكم عليها على أساس النتائج والانجازات.
أوهمونا بانه علينا ان نجرب "كل شيء" قبل ان نطلق الاحكام ووعظوا بنا أن لا أحكام مسبقة، فهنا تكمن حكمة الدهر والتاريخ. فلا مكان لديهم ولا قيمة للحقائق والمعرفة ولا أهمية لتجارب الشعوب وعبرها.
علمونا ان الواقع "غير ثابت" وفي تغير مستمر، بل هو حالة فضفاضة دائمة السيولة، وأقنعونا، أن رغباتهم بل رغائبيتهم التي ما زالو يتشبثون بها، هي مرآة الواقع المادي والوجود الملموس وهي التجسيد الحقيقي لمصالح شعبنا وطموحاته ومستقبله.
وها نحن نقف اليوم، بعد اربعة عقود من المعاناة والهزائم، فلنحتكم للنتائج والانجازات، ونرى أين نحن من مشروع التحرير، واين نحن من "السلطة الوطنية الفلسطينية" العتيدة!
لقد دار الدهر ليعلمنا ان كل ما تفتق عنه هذا الذهن البليد والمرتد ليس سوى مسميات مجردة ملفقة استخدمت كمسوغات لتبرير وتمرير التراجعات والتنازلات بغية خداع الجماهير وتملقها وتخريب وعيها وإحباط إرادتها وصولاً الى تحقيق مصالح القيادات والفئات المتسلطة على قرار شعبنا.
(4)
الشعارات بين الطمس والتأويل
صاغ خطاب حركة المقاومة الفلسطينية المعاصرة، خاصة بعد الاحتلال الثاني عام 1967 وما تلاه من تصاعد النضال الوطني والكفاح المسلح، صاغ جملة من الاطروحات والمقولات تُرجم العديد منها الى "شعارات" تنير يوميات النضال الشعبي، وإرتقى بعضها الى "مسلمات" غير قابلة للنقاش او إعادة النظر، في حين إرتسم بعضها الآخر "ثوابت وطنية" تشكل خطوطاً حمراء تفصل بين نهج تحرير الوطن المحتل من جهة، ونهج التسوية والانحراف وخيانة المشروع الوطني من جهة اخرى.
ولعل نظرة فاحصة في المشهد الفلسطيني توضح بجلاء هول التناقض بين شعاراتنا من جهة، وممارستنا من جهة اخرى، وعمق الهوة بين اقوالنا وأفعالنا. ففي حين احتفظ الكثير من هذه الشعارات ببريق مفرداتها، نراها فقدت (الشعارت) جوهرها وأصبحت خالية من مضمونها ودلالاتها النضالية. كما رأينا في حالات عديدة كيف تم طمس الكثير من أبعاد هذه الشعارات والطروحات، فأصبح بعضها طيَّ النسيان أو موضع تأويل وتشويه، وظلّ بعضها الآخر حاضراً بيننا ولكن بلا حياة ولا روح. كما شهدنا بام العين كيف وُظف العديد من الشعارات لتضليل الشعب وتخريب وعيه. ولم تنجو من عملية التخريب هذه الشعارات الاستراتيجية أو ما أطلقوا عليه ذات يوم "الثوابت الوطنية الفلسطينية".
لذا، أصبحت الحاجة ماسة وملحة لمراجعة وتقويم العديد من هذه الشعارات والطروحات، لا من اجل إعادة تجليسها في خطاب وأدبيات الفصائل الفلسطينية ، بل من أجل تصويبها وترسيخها في الوعي الجمعي الشعبي ـ الفلسطيني والعربي.
* * *
نسلط، في الفقرات التالية، الاضواء على بعض المحاور الرئيسية من شعارات ومقولات الخطاب الفلسطيني، على سبيل المثال لا الحصر، كعينة تمثيلية لعمق المأزق الذي وصلنا اليه، ونأمل ان تساهم هذه المناقشة في إستنهاض الحوار حول الخطاب الفلسطيني على اسس سليمة تبث الحياة في مشروع المقاومة وثقافتها:
1) طبييعة الصراع
هل هو صراع عربي ـ صهيوني، أو عربي ـ اسرائيلي، او اسرائيلي ـ فلسطيني؟ وهل هو صراع وجود أم صراع حدود؟ وهل هو تناقض تناحري أم خلاف تحسمة المفاوضات، يوماً ما!؟ هل ما زال تناقضنا مع المشروع الامبريالي ـ الصهيوني صراعاً أم أنه أضحى مجرد نزاع؟
2) تعريف الوطن الفلسطيني
وتحديد حدوده الجغرافية والسياسية والوطنية/القومية. ففلسطين لم تعد "وطناً واحداً" في ذهن الفلسطيني والعربي حيث تعددت "الاوطان" والجغرافيات بحسب تعدد المفاهيم والسياسات:
فهل هي فلسطين التاريخية، أم هي الضفة الغربية وقطاع غزة؟
أم أنها ما يتيسر إلتقاطه من فتات بعد "إزالة آثار عدوان 1967"؟
أو "دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشريف" ينعم بها علينا الصهاينة والراعي الاميركي ـ صاحب خريطة الطريق " و"العرّاب النزيه" ـ عبر المفاوضات التائهة في أنفاق ودهاليز لا نهاية لها؟
3) تغييب البعد القومي العربي
كان البعد القومي العربي أول وأكبر ضحايا تزوير الصراع العربي ـ الصهيوني وتحرير فلسطين جرّاء ما اعتراه من طمس وتحريف بهدف بتر النضال الفلسطيني عن عمقه القومي العربي وإجتثاثه من حضن الطبقات الشعبية العربية (نورد على سبيل المثال اطروحات فلسطنة القضية والنضال الفلسطيني والقرار الفلسطيني المستقل وبكائيات يا "وحدنا" و "يا عرباه" و"معتصماه" التي حذق في إطلاقها وبراعة توقيتها الراحل ياسر عرفات...وغيرها).
4) مستقبل فلسطين المحررة
فهل نريدها سلطة وطنية/دولة على"أي شبر" يتم "تحريره، كما زعم أحدهم قبل ثلاثة عقود ونيف؟
أم "دولة" لا تعدو كونها سلطة "حكم ذاتي محدود" تدير شؤوننا المدنية على ما تبقى من الوطن من رقع جغرافية متناثرة؟
ام نريدها "دولة ديمقراطية علمانية" كما نادينا بها منذ أواخر ستينات القرن الماضي؟ أو فلسطين عربية كجزء من مشروع نهضوي قومي عربي وأمة عربية موحدة؟
أم اننا ننشد فلسطين عربية إشتراكية، جزءاً من وطن عربي نامي وحرٍ وموحدٍ، تواكب الانسانية في قرنها الواحد والعشرين؟
أم تُرى نريد فلسطين وقفاً إسلامياً أو إمارة إسلامية تُعلي مجدداً راية الخلافة الاسلامية وفق رؤية الحركات الاسلامية و"القرآن دستورنا"؟
5) طبيعة ومكونات معسكر الاعداء
إقتضت مسيرة التراجع وهيمنة نهج التسوية تشويه طبيعة معسكر الاعداء وطمس اطرافه. فبعد جدل عاصف حددت حركة المقاومة معسكر اعدائها بالثلاثية المعروفة: "الصهيونية والامبريالية والرجعية العربية". كان ذلك منذ اكثر من ثلاثة عقود، في سبيعنيات القرن الماضي، أما اليوم فان الخطاب السائد يكاد يخلو من الاشارة الى مفردة "معسكر الاعداء" وكأننا حسبنا انه بمجرد شطب المصطلح من معجمنا السياسي سيختفي العدو (الاعداء) بضربة ساحر. لم يعد جيلنا الناشئ يسمع ب"معسكر الاعداء" وكأننا نستحضر المصطلح من التاريخ الغابر، من "مخلفات الستينيات".
فكيف لنا بعد ان "إختفى" الاعداء من خطابنا ان نخوض النضال، وضد مَنْ؟
وكيف لثورة ان تنتصر دون تحديد دقيق لمعسكر أعدائها: طبيعته، مكوناته وأطرافه المتشابكة؟
(5)
شعار "معسكر الاعداء" نموذجاً
ثورة دون "أعداء"
وحركة تحرير وطني تتصالح مع المحتل
يتوجب على كل "حركة تغيير" ـ إن كان سيكتب لها النصر ـ سواء كانت حركة تحرير وطني أو ثورة إجتماعية/طبقية، يتوجب عليها تحديد البؤر الاساسية للصراع ومحاوره المركزية. اي أنه على هذه الحركة أن تحدد بدقة وفي كل مرحلة تناقضاتها واعدائها ومعاركها والتمييز بين تلك الثانوية/الآنية/التكتيكية من جهة، وتلك الرئيسية /الاستراتيجية طويلة المدي من جهة اخرى، على ان يستنير هذا بالاهداف الرئيسية للنضال الوطني ويتم في تناسق وتناغم مع مساره العام والشامل، مما يعني خضوع الثانوي لمقتضيات الرئيسي والحذر من الانشغال بالمعارك الجانبية والثانوية رغم أهميتها وراهنيتها، من أجل صب الجهود في مواجهة التناقضات الرئيسية.
فأين نحن من هذا؟
لقد إمتهنت القوى السياسية المسيطرة على القرار الفلسطيني تزوير ("وتبسيط") معادلة معسكر الاعداء، وعليه فاننا نعيش اليوم مرحلة "دفع الثمن" للنتائج الوخيمة ومغبة الاضرار الجسيمة التي لحقت بالنضال الفلسطيني وتخريب الوعي الوطني الجمعي العربي والفلسطيني.
فبعد ان كان تحديد معسكر الاعداء وأطرافه من بديهيات النضال الفلسطيني وركيزة أساسية في برامج كافة حركات التحرر الوطني عبر التاريخ، "إختفى" هذا المعسكر من معجمنا السياسي وإختزلت اطرافه ومكوناته، عبر متوالية طويلة من التنازلات الى ان انتهى الى الصلح مع العدو المحتل والى تقزيم الصراع الى مجموعة من "المسائل الخلافية والتفاوضية" مع "الاسرائيليين" وكأنهم الطرف الوحيد في "النزاع"، بينما تم شطب الاعداء الآخرين حتى بدى الامر وكأن الصهيونية استطاعت لوحدها ان تنهض بمشروعها الاستيطاني وان تحتل فلسطين وتقيم الكيان الصهيوني على أرضها، وكما لو كان الكيان الصهيوني قادراً، لوحده، أن يستمر في البقاء والتوسع لستة عقود، دون الدعم الراسمالي ـ الامبريالي والتواطئ والتآمر العربي الرسمي.
بالرغم من تعدد أسباب ودوافع تدهور البرنامج الوطني الفلسطيني، فانه يمكننا الجزم بانه ما كان لنا ان نصل الى هذا الحضيض لو تمسكت حركة المقاومة بثوابت النضال الوطني الفلسطيني وأهدافه. ويقف على رأس هذه تزوير طبيعة الصراع ومعسكر اعدائنا وطمس مكونات واطرافه الرئيسية.
فكيف اصبحنا حركة تحرر دون تحديد دقيق لمعسكر الاعداء، و"ثورة" دون "اعداء"؟
وكيف تصالحنا مع إحتلال يمعن في قضم ارضنا وإبادة وجودنا؟
سنحاول الاجابة على هذه التساؤلات من مدخل يتناول الابعاد الرئيسية التالية:
1) تغييب البعد الراسمالي في الصراع العربي ـ الصهيوني
2) طمس العمق القومي العربي للنضال الفلسطيني
3) طمس "الابعاد غير اليهودية" في المشروع الصهيوني.
اولاً: تغييب البعد الراسمالي في الصراع العربي ـ الصهيوني
لقد تراجعت الحركة الوطنية الفلسطينية، بشتى فصائلها وبرامجها وإن بدرجات متفاوتة "وبوضوح" متفاوت أيضاً، عن نهج المقاومة والتحرير و"بدلت" معسكر الاعداء فحيّدت مكوناته الرئيسية ونصبت بعضهم في مواقع الوساطة والمصالحة وعقدت الصلح مع العدو المحتل الذي أضحى "شريكاُ" في المفاوضات. إلا ان هذا كله لم يكن ليتسنى دون الانقلاب على اسس المشروع الوطني التحريري وتغيير أهداف النضال الفلسطيني ووسائله لتتناغم مع نهج وسياسات القيادة الفلسطينية المتنفذة بما يضمن تحقيق مصالحها. بعبارة اخرى، اقتضى هذا "تكييف" الاهداف والبرامج والسياسات كي تتناغم وتتأقلم مع معادلة الصراع الجديدة، وهذا بدوره أملى إختيار وسائل النضال التي تعبر عن ميزان القوى بين اطراف الصراع وتتناسب مع الاهداف "الجديدة" وتضمن تحقيقها (التخلي عن الكفاح المسلح وكافة أشكال المقاومة الشعبية المتاحة في ظل الظروف العصيبة التي إجتازها وآلياته (المفاوضات!).
إلاّ أن تغييب الراسمالية المفارقة الكبيرة في مسار حركة المقاومة الفلسطينية وإن كانت مفارقة غير مستهجنة. فمنذ بداياتها المبكرة، حاذرت هذه الحركة وخطابها في مستوياته المتعددة ـ سواء عن جهل أو دراية، عن قصد أو بدونه ـ معالجة البعد الراسمالي أو بلورة اية مفاهيم حوله وتحاشت تحديد اية مواقف منه في سياق تحديدها لمعسكر الاعداء. وقد ثابرت حركة المقاومة على تجنب الموقف من الراسمالية، بالرغم من تبجحها بصداقتها للاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية التي اسموها ذات يوم "حليفاً استراتيجياً"، مع أنها لم تأت على ذكر الراسمالية ولم تطور موقفاً منها ولم تعتبرها طرفاً في معسكر الاعداء منذ تلك الآونة.
والمقصود بالبعد الرأسمالي في هذا السياق هو دور الراسمالية والغرب الراسمالي في (1) نشأة الصهيونية وتطورها وفي وقيام الكيان الصهيوني وإستمراره على تراب فلسطين كقاعدة إمبريالية وكدولة وظيفية تخدم المصالح الغرب الراسمالي في إخضاع الوطن العربي والهيمنة على مقدراته، وفي (2) تفكيك الوطن العربي وقيام دول سايكس ـ بيكو القطرية والوظيفة المناطة به، و(3) الترابط الوظيفي والعلاقة القائمة بين أطراف هذا الثلاثي (الكيان الصهيوني والقطريات العربية والغرب الراسمالي).
يشرح لنا هذا المسار وبوضوح:
1) آثار تغييب البعد الراسمالي على خلق تفسير مشوه وفهم خاطئ ومجزوء لطبيعة وجذور الصراع القائم في وطننا ورده الى جذور وعوامل دينية وثقافية ، الامر الذي شجع غلاة الصهاينة على التطرف في المزيد من عنصريتهم والتمادي في مطالب "يهوديتهم النقية" الى ما نشهده اليوم من مطالبة العرب بالاعتراف بـ "يهودية الدولة" الصهيونية.
هكذا تم، بعبارة اخرى، إقصاء الصراع العربي ـ الصهيوني عن القوى المادية والطبقية التي تقف خلفه وخلف المشروع المعادي الاكبر: الراسمالي ـ الامبريالي ـ الصهيوني، كي يتسنى لاحقاً إختزال هذا الصراع الى نزاع فلسطيني ـ اسرائيلي وتقزيمه من تناقض تناحري وصراع وجودي الى خلافات تفاوضية.
2) وهنا أيضاً تكمن خطورة التغطية على الاسباب الجذرية للصراع وتزوير حقيقة اطرافه ومصالحها (الاعداء والحلفاء والاصدقاء) والعلاقات التي تحكمها، وما يتطلبه هذا من تضليل للجماهير، وتأكيد الحرص على إخفاء الراسمالية كطرف رئيسي في معسكر الاعداء.
3) ومن هنا نفهم النهاية المحتومة التي إنتهى اليها الكفاح المسلح الفلسطيني كوسيلة أو الوسيلة الرئيسية أو الوحيدة لمقارعة الاحتلال وتحرير الوطن، وإنتهاج نهج التسوية والمفاوضات.
4) كما تتضح بجلاء، وبذات القدر من الخطورة والراهنية ، الدلالة العملية لهذه التغطية والتضليل على النضال اليومي وتطوير الشعارت التي تنير درب الجماهير في كفاحها.
5) وتفسر معنى "العفو العام" الذي منحته القيادة الفلسطينية لاعداء رئيسيين في هذا المعسكر (الامبريالية وأنظمة القطرية العربية)، إذ لولا هذا "العفو" لتعذر عقد الصفقات قبل أوسلو وبعدها والتي كانت القيادات الفلسطينية تنشدها منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي.
تلك هي حكاية طمس البعد الراسمالي في معسكر الاعداء في السياق الفلسطيني الذي شمل، ولو لبضعة سنوات قليلة، الاقانيم الثلاثة: الكيان الصهيوني والامبريالية والرجعية العربية، قبل ان يُختزل الى مسلسل التفاوض المهين مع الاحتلال الاسرائيلي.
ثانياً: طمس العمق القومي العربي
جاء طمس البعد القومي العربي ثمرة للنهج القطري الذي إتبعته القيادة الفلسطينية، أسوة بمثيلاتها من القطريات العربية الحاكمة. وهي، وإن لم تقف على راس نظام حكم، إلا ان ذلك كان غايتها المنشودة. والملفت هنا ان الكثيرين ممن لم يروا الامور بهذا الوضوح منذ سبعينيات القرن الماضي ما زالوا يدسون رؤوسهم في الرمل الى يومنا هذا حتى بعد اتفاقيات اوسلو وتوظيف السلطة في خدمة الاحتلال الصهيوني وحماية أمن اسرائيل.
كما أن طمس هذا البعد المركزي في الصراع العربي ـ الصهيوني جاء إستجابة للمصالح الطبقية (الاقتصادية والسياسية والاجتماعية) للقيادات والفئات والطبقات المتنفذة في قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، تلك المصالح التي تمثلت في إقامة قطرية فلسطينية تحقق مصالح الكمبرادور الفلسطيني في موازاة الكمبرادور العربي الحاكم في قطرياته. ويتجلى الدليل على هذا، دون ان يستدعي ذلك التصريح العلني به، في ممارسات وتصرفات القيادة الفلسطينية والبنية التنظيمية والسياسية والاقتصادية التي خلقتها عبر م.ت.ف. والفصائل والتنظيمات الفلسطينية الاخرى.
إنعكس كل هذا في تصالح وتواطؤ ، وفي كثير من الأحيان تحالف، القيادة الفلسطينية المتنفذة مع الرسمي العربي ـ انظمة القطرية العربية ـ تحت شعارات ومسوغات عديدة ليس أقلها "عدم التدخل في الشؤون الداخلية للانظمة العربية" و"الحفاظ على القرار الوطني الفلسطيني المستقل" و"التضامن العربي" وخلق "جبهة مساندة عربية" والوقوف بحزم ضد اية جبهة أو اشكال "مشاركة عربية" شعبية حقيقية... وغيرها الا بما يخدم اهدافها الآنية والضيقة وفي محطات معينة.
لقد إقتضى "إفلات" القيادة الفلسطينية من الحضن القومي العربي وإنطلاقها نحو ترسيخ القطرية الفلسطينية تفكيك العلاقة مع الجماهير والطبقات الشعبية العربية وفك الارتباط معها (الجماهير) والتخلي عن النضال من أجل فلسطين كنضال عربي قومي. وهذا تطلب بدوره التغطية على طبيعة الصراع واطرافه وحقيقة الاستهداف الصهيوني ـ الامبريالي للوطن العربي وموارده على مدى قرنين من الزمن.
وفي هذا السياق، فان تغييب البعد القومي العربي كان يعني (1) إبعاد الامة العربية وجماهيرها عن معادلة الصراع من ناحية، و(2) التستر على حقيقة الغايات الاساسية للمشروع الصهيوني الذي يستهدف هذه الامة من ناحية ثانية، و(3) التغطية على الطرف المركزي المستهدف من الصراع العربي ـ الصهيوني ، وهو الوطن العربي بأكمله. فهذا الوطن برمته هو المقصود والمستهدف من أجل إخضاعه والهيمنة على موقعه وسوقه وموارده وقواه العاملة ومستقبل شعوبه وتنميته، أما إحتلال فلسطين فلا يشكل سوى المعبر الاول، لنقل العتبة الاولى والقاعدة الاساسية لاختراقه. وعليه، فان تغييب البعد القومي كان يعني، بالمدلول العملي والنضالي، نفي وحدانية المصلحة والمعركة والمصير بين الشعب الفلسطيني والشعوب العربية.
هنا نقف امام أقبح النماذج في تدمير الوعي الفلسطيني والعربي وأشدها كارثية على نضالنا ومستقبلنا، لان المشروع الامبريالي ـ الصهيوني لم يستهدف في يوم من الايام فلسطين وحدها، بل تشير حقائق التاريخ والجغرافيا على مدى قرنين من الزمن بما لا يدع مجالاً للشك، بان فلسطين كانت القاعدة المادية الانطلاقية لهذا المشروع الذي إستهدف دوماً، وما زال، عبر كافة مراحله ومخططاته، الوطن العربي برمته.
ثالثاً: طمس الابعاد والجذور غير اليهودية/الاسرائيلية في الصراع العربي ـ الصهيوني
في سياق تزوير معسكر الاعداء وكي يتسنى تشوية طبيعة الصراع العربي ـ الصهيوني وتقزيمه الى "نزاع" فلسطيني ـ اسرائيلي، كان لا بد من إبقاء الاضواء مسلطة على "الخصم الاسرائيلي" وإسقاط المكونات الاخرى أي غير "الاسرائيلية /اليهودية" للحركة الصهيونية وللمشروع الراسمالي ـ الامبريالي ـ الصهيوني في بلادنا، أي إسقاطها من معسكر الاعداء. وقد إقتضى هذا طمس "الابعاد غير اليهودية" في الفكرة والمشروع الصهيونيين، والذي شكل أحد أهم مخاطر التحريف الذي اعترى نضالنا عبر العقود الاربعة الاخيرة. وما نقصده بالابعاد غير اليهودية هنا هو دور ومصالح الغرب الراسمالي والذي يشمل أبعاداً دينية (مثل التأويلات المسيحية البروتستانتية للادعاءات والنبوءات التورايتة)، وسياسية وجيوبوليتيكية (الاستعمار والامبريالية والعولمة) واقتصادية (نشوء الراسمالية ومصالحها وسياساتها). وقد أدى إخفاء وإغفال جوانب هامة من طبيعة وجذور واطراف المشروع الصهيوني (فكرةً وحركةً وبرنامجاً)، الى فهم مجزوء ومختل لهذا المشروع.
نذكر فيما يلي، على سبيل المثال، بعض هذه الجوانب التي ظلت خارج السياق العام لخطابنا وأدبياتنا ولا تتناولها سوى القلة وباستيحاء:
أ ) الجذور والعوامل المسيحية الغربية (البروتستانتية) في نشأة الصهيونية التي وُلدت مسيحية غربية بروتستانتية ثم تطورت لاحقاً، بعد ثلاثة قرون، في مشروع يهودي صهيوني إستيطاني في فلسطين.
ب) العوامل والجذور الطبقية والاجتماعية والدينية والسياسية والتي أقامت الترابط بين (1) الصهيونية، التي بدأت مسيحية ـ بروتستانتية ثم أصبحت يهودية لاحقاً، من حيث نشأتها ونموها وتلاقي مصالحها من ناحية، و(2) الاستعمار الاوروبي في مرحلة الكولونيالية الكلاسيكية وإقامة المستوطنات الاوروبية البيضاء (الولايات المتحدة وكندا واوستراليا ونيوزيلندة على سبيل المثال) من ناحية ثانية، وكذلك الترابط بين (1) الصهيونية، المسيحية ـ البروتستانتية أولاً ثم اليهودية، و(2) نشأة النظام الراسمالي وتطوره وصولاً الى دور الصهيونية وعلاقتها بالنظام العالمي والعولمة الراسمالية في حقبتنا.
لقد ساهم إخفاء الجذور المسيحية الغربية للفكرة الصهيونية في التغطية على دور ومصالح الغرب الراسمالي وعلى الرابطة المبكرة بينها (المسيحية الغربية والغرب الراسمالي) وبين كل من:
(1) فكرة ومشروع إستيطان/توطين اليهود في فلسطين؛
و(2) السياسات الاستعمارية الاوروبية الطامعة في فلسطين والهيمنة على الوطن العربي برمته؛
و(3) نشأة وتطور النظام الراسمالي من جهة ثالثة.
كل هذا ساهم في التستر على دور الغرب الراسمالي في صراعنا مع المشروع الصهيوني وكيانه المحتل في فلسطين.
رابعاً: لم تقتصر مخاطر التستر هذه على إخفاء بعض الجوانب التاريخية أو النظرية فحسب أو على تجهيل الجيل الناشئ بها، بل تعدتها الى تشويه فهم المشروع الصهيوني وعلاقته بالراسمالية والامبريالية مما أدى، من الناحية العملية ومن المنظور النضالي، الى تبرئة وحرف الانظار عن هذه القوى الرئيسية والاساسية في الصراع والتي تشكل موضوعياً ومادياً مكونات رئيسية في معسكر الاعداء التي لولا دعمها لما إستطاع المشروع الصهيوني ان ينجز تجسيده المادي في القاعدة الصهيونية/الكيان الصهيوني ولما إستطاع هذا الكيان ان يدوم على الحياة حتى يومنا هذا.
كيف أصبح "الاسرائيلي" "الخصم" الوحيد؟
هنا نخلص الى المعادلة الراهنة في الصراع العربي ـ الصهيوني وإختزاله في نزاع فلسطيني ـ اسرائيلي:
1) فانظمة الكومبرادور العربي الحاكم لم تعد طرفاً في هذا المعسكر بعد ان مررت "فتح" شعارها في "عدم التدخل في الشؤون الداخلية للانظمة العربية" والذي جاء في سياق مهادنة الرجعية العربية وإجتثاث القضية الفلسطينية من عمقها القومي العربي وتفكيك العلاقة مع الجماهير العربية وإنتصاراً لما اسموه آنذاك ب"القرار الوطني الفلسطيني المستقل" وفلسطنة النضال الفلسطيني.
2) والامبريالية لم تعد هي الاخرى طرفا في معسكر الاعداء، بعد ان اصبحت عراب التسوية الممسك بمفاتيح الحل.
3) أما الراسمالية فلم تندرج أصلاً في مكونات هذا المعسكر حتى في ذروة الكفاح الفلسطيني وتصاعد حركة المقاومة.
4) حُرم الصراع من بعديه الأممي والعالمي. فبتفكك المعسكر الاشتراكي تخلت القوى التي زعمت انها ماركسية أو شيوعية او اشتراكية أو يسارية، تخلت سريعاً عن هذا المعتقد الذي هو معتقد، من حيث وفي حالة اصالته، متناقض مع الكيان الصهيوني كتناقض القومية العربية. فالكيان الصهيوني كقاعدة راسمالية وإمبريالية هو مضاد حتماً للقوى الاشتراكية، ولأنه يحتل بلدا عربياً فهو متناقض مع القومية العربية، ولأنه يحتل قطرا عربيا أكثرية شعبه مسلماً فهو مضاد للمسلمين والمسيحيين العرب، ولأنه دولة تنادي بدينية نفسها، اي يهودية فهو مضاد للأديان الأخرى. بكلمة أخرى، فإن تهافت القوى اليسارية لعب دوراً في أن يستمرىء اليمين التفريط بالوطن. ولأن هذه القوى الفلسطينية عامة تنازلت إلى هذه الحدود فقد أفقد هذا القضية البعد التضامني العالمي. وعليه، فإن حركة التضامن قد انقسمت إلى ثلاثة اقسام:
1) قسم تنحى جانباً يأساً وقرفا؛ً
2) وقسم قرر الاستمرار طبقاً لنهج التسوية والتماشي معه؛
3) وقسم واصل البحث عن قوى ثورية ليتعاون معها، وقد لا يجدها.
أدت هذه العوامل مجتمعة، وعبر عملية دامت سنوات طويلة، الى إعادة صياغة مفاهيم العدو ومعسكر الاعداء وتوجيهها باتجاه "الاسرائيلي" لوحده، في حين تمت "تبرئة ذمة" الاطراف الاخرى، والى إختزال الصراع الى "نزاع" لا يتعدى بعض "المسائل الخلافية" يتأتى حلها عبر المفاوضات السلمية. هكذا كانت، بعد إسقاط مكونات معسكر الاعداء الاخرى، ولادة "المعادلة" الافتراضية الجديدة التي يقف فيها الاسرائيلي "كالخصم" الوحيد على واحد من شقي المعادلة، فيما يقف في مواجهته في الشق الثاني الطرف الفلسطيني ولوحده أيضاً، وفي الحقيقة ليس كل الفلسطيني. ومع الاقرار بان المحتل الصهيوني يمثل واجهة الصدام المباشر واليومي، فان المكونات الاخرى، وبالدليل المادي وبدليل التجربة المريرة والدامية، لا تقل خطورة وتدميراً لمصالح ومستقبل الشعب الفلسطيني والامة العربية، حيث يلتئم في هذه المكونات شمل الشريك والمتآمر والمتواطئ والممول والمزود بالسلاح والعتاد.
بوضوح أكثر، أدى تشويه معسكر الاعداء وطمس مكوناته الرئيسية والابقاء على الابعاد الاسرئيلية/الصهيونية/اليهودية، الى تحييد ثم تنحية الاطراف الرئيسية الاخرى (الغرب الراسمالي ـ الامبريالي وأنظمة الكومبرادو العربي التابعه والعميلة له)، فأصبح الصراع (الذي ما لبث ان تحول الى نزاع سرعان ما أضحى خلافاً) محصوراً في "اسرئيل".
هنا نجد ما يفسر:
□ كيف أصبحت زعيمة الغرب الراسمالي، الامبريالية الاميركية، عبر مسار الخطاب الفلسطيني، "العرّاب النزية" وراعية عملية السلام وصاحبة خريطة الطريق.
□ وكذلك الامر مع كافة القوى والاطراف الاخرى التي "تحكم وترسم" في المصير الفلسطيني من رباعية واوروبية ومجتمع الدولي وشرعية دولية ... وتطول القائمة.
□ وكيف تحولت أنظمة القطرية والكومبرادور العربي ودوائر مخابراتها (النظام المصري نموذجاً)، الى "أخوة في السلاح" وراعية للمصالحة الفلسطينية!
□ وكيف إصطفت قيادة الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية وسلطته "الوطنية" كومبرادوراً فلسطينياً بموازاة الكومبرادور العربي الحاكم، وكيف أصبحت شريكة في حصاره وتجويع أبنائه وقمع مناضليه وتصفية قضيته الوطنية برمتها.
* * *
كانت هذه مناقشة عاجلة لشعار "معسكر الاعداء"، إلاّ أنها لا تفي بالغرض ولا تعوض عن مناقشة شاملة له ولغيره من شعارات ومقولات الخطاب الفلسطيني. وهي وإن شرحت كيف "أنقرض" هذا المعسكر من حياتنا وخطابنا، فانها تُبقي الباب مفتوحاً لمزيد من الحوار الموسع حول هذه القضايا المصيرية.
خاتمة
في الشارع الفلسطيني اليوم، وفي وعي الناس العاديين، إندحر مشروع تحرير فلسطين. لا حاجة لبحوث سوسيولوجية لإثبات ذلك، يكفيك التجوال في شوارع مدن وقرى الضفة الغربية...لترى هذا الاستخلاص بوضوح بعيداً عن تجّار الكلمات النارية والكتابات السياسية والترويج للمؤسسة الحاكمة.
لقد تم تخريب الوعي الفلسطيني، الفردي والجمعي، على كافة مستوياته وبشكل مبرمج وفعّال ومنتظم. وتم إلهاؤنا بكل قضايا الدنيا سوى تلك التي تعنينا فعلاً وتمس وطننا ومصيرنا، وشغلونا بمشاغل "الدنيا والآخرة" عدا تلك التي تشكل خطوات فعلية على درب التحرير والمقاومة. دعوكم، قالوا لنا بكل لغات الارض وأحاييلها، من مقولة التحرير تلك، فهاكم من متع الدنيا ما تشاؤا. إنتشوا بها. دعوكم من السياسة، فتلك لنا ... ولنا وحدنا دون سوانا. فهذا العدو ماكر وجبار، ولا يقدر عليه أحد سوانا... سوى "غلاّبة يا فتح". نحن، وحدنا دون سوانا، حذقنا اللعبة وأتقنا فن "المفاوضه".
في وعي الفلسطيني الباطني تراجعَ المشروع الوطني وتصدرَ الهم الشخصي والعائلي كافة الهموم وإرتقى الذاتي على الجمعي وإعتلى قائمة الاولويات فاستحوذ على الجهد والفعل والطاقة... فصدق فينا القول الشعبي "يا رب نفسي".
في وعي الفلسطيني الباطني أصبح تحرير فلسطين حلماً نائياً بعد أن كان واقعاً كفاحياً ملموساً إحتضنه الشعب والامة على مدى قرن من الزمن وسالت في الذود عنه أنهار من الدماء.
هذه نظرة من خلال من نظارات سوداء قاتمة! قال أحدهم.
وهذا هراء يغبن شعبنا تضحياته ويستخف بقدراته. قال آخر.
لا... لا هذا ولا ذاك. بل هو تشخيص للواقع يصفه ويدونه كما هو دون دجل.
لنا أن ننكر ذلك إن شئنا، وأن نخلد، بعد ذلك، للنوم الهنيء. ولنا أيضاً أن نجز راس من يقول به وننزل به من التهم ما نشاء. إلا ان هذا لا يغير من الواقع شيئاً. بل، هو إن دلّ على شيء، فعلى ان الغارقين في مستنقع التسوية يريدون ان يغرقونا وتاريخنا وأوطاننا معهم وأن يدفنوا رؤوسنا والى الابد في التراب كي لا نقشع الهزيمة المحيقة بنا.
لقد أحرزنا من البطولات الدونكيشيتية الكثير، وملأنا الدنيا صراخاً حتى كادت فلسطين، دعك من حجمها الصغير على خارطة الكرة الارضية، تفوز باكبر مساحة في الصحف والجرائد والمجلات والكتب والابحاث، أما عن شبكة الانترنت فحدث ولا حرج. إلا ان تاريخ الشعوب يعلمنا الحقائق بعيدا عن رغباتنا: ان الوطن لن يتحرر الى أن يصبح التحرير هماً، شخصياً وفردياً وجمعياً ووطنياً، والى أن يتحول الى واقع معاش لكل مواطن فلسطيني وعربي.
فاذا كان بيننا مَنْ يحاجج في ذلك، فليقرأ العدو، أقواله وأفعاله، ولينظر الى معسكر الاعداء (الصهيوني والعربي الرسمي والدولي دون إستثناء). هؤلاء لا يحاججون في الامر، بل هم على بينة منه.
وإلى أن تأتي اللحظة التي يصبح فيها الوطن هماً نحمله مشروعاً حياتياً ويومياً ونستدخلة عقيدة وبرنامجاً ومهمة حياة ... والى أن يستقر هذا المشروع وذاك البرنامج في أعماقنا لينير ممارستنا وأفعالنا ... والى أن تنهض قوى سياسية ـ اجتماعية (احزاب، منظمات، جمعيات، مثقفون) لتكون رافعة المشروع الوطني وحاملة المقاومة والنضال من أجل التحرير ... الى أن تحين تلك اللحظة فان مشروع تحرير الوطن سيظل معطلاً ومشلولاً وسيبقى حلماً طوباياً يراودنا، يسكننا، نحنو اليه، نتباكى عليه، إلا انه لا يجد طريقة الى فعلنا وممارستنا.
إلا ان هذا كله لن يتحقق دون الخطوة الاولى، خلق الوعي الوطني الجمعي: النقدي والثورى لدى المواطن والاجيال القادمة. وهل يتسنى ذلك دون تصويب الخطاب وتصويب البوصلة والذي يقتضي تصويب الشعارت والطروحات؟
بدون هذا الوضوح في الرؤية والبرنامج سيظل تحرير الوطن وهماً وسراباً.
هل ما زلنا في بداية الطريق؟ أم أنه علينا ان نبدأ المشوار من جديد؟ كلا! ربما! ولكننا هذه المرة نقف في بداية الطريق الصحيح. ألم يقولوا: إعرف عدوك!
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. ما مدى أهمية تأثير أصوات أصحاب البشرة السمراء في نتائج الانت
.. سعيد زياد: إسرائيل خلقت نمطا جديدا في علم الحروب والمجازر وا
.. ماذا لو تعادلت الأصوات في المجمع الانتخابي بين دونالد ترمب و
.. الدفاعات الجوية الإسرائيلية تعترض 3 مسيّرات في سماء إيلات جن
.. فوضى عارمة وسيارات مكدسة بعد فيضانات كارثية في منطقة فالنسيا