الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحو فضاء آخر .. قراءة في ديوان هوامش في القلب للدكتور عز الدين إسماعيل

محمد سمير عبد السلام

2009 / 8 / 29
الادب والفن


في ديوانه " هوامش في القلب " ، الصادر عن هيئة قصور الثقافة المصرية 2007 – يستعيد الشاعر ، و الناقد الراحل الدكتور عز الدين اسماعيل الأسئلة حول قيمة الذات ، و تأملاتها الشعرية في سياق المآسي الوجودية ، و التناقضات ، و الصمت العبثي إزاء التعارض بين المتكلم ، و سياقه الثقافي ، و من ثم فقد ارتكزت لغة الديوان على مسارين يعيدان إنشاء الذات في صيرورة سيرية جديدة تناهض نقطة البدء / القيمة ، من داخل البحث عنها في تحقق آخر ، يحمل بدايات جديدة .
المسار الأول يقوم على نشوء جديد ، و مستمر لخصوصية التجربة من خلال متاهة المآسي ، و التعارضات المفاهيمية ، و الوجودية ، و الانسحاق ، و التهميش ، و كأننا أمام لغة نيتشوية تتولد بهجتها الأخرى من داخل السقوط ، و الغياب ، و إن كان المتكلم عند عز الدين اسماعيل يبحث عن حياة توازي أصلا مفقودا ، و لا يدور في حلقة البهجة و التدمير كنقطة ارتكاز ، و لكن بهجة الكتابة هنا تتمثل في إعادة وصف المأساة بما يتعارض معها ، و هو دلالة الولادة الجديدة في لغة – أو سيرة تجمع مفردات المأساة المتناثرة فيما يشبه الذات .
يقول في قصيدة " أنا و العراف " :
" بين الموت ، و بين الميلاد / لحظة صمت ساقطة بين الأضداد / لا طعم لها / لا لون لها / شاحبة كالخط الفاصل بين النور ، و بين الظلمة .... يا عراف مدينتنا / أتظل رحا الأيام تدور بلا غاية ؟ / تلتفت يسارا حينا / و يمينا حينا / ثم تدور بلا دوران / أتظل الآمال مدلاة الرأس على مقصلة المجهول ؟ " .
لحظة الحضور عند المتكلم تقوم على غياب أساسي في التعارضات ، و الأسئلة ، فهي تحدث انشطارا بين الصوت المركزي ، و الوعي الذي يخاطب العراف في سياق صمت عبثي لهذا الآخر المتعالي ، و لكن نستطيع أن نلمس خصوصية الذات من خلال الفراغ الكامن وراء الأسئلة . هذا الفراغ الذي يولد من السقوط سياقا جديدا لخصوصية المعرفة السلبية ، و البدء في تشكيل ذات جديدة من خلالها لا من خلال قيمة مثالية أولية نموذجية .
و يقوم المسار الثاني على حلم التجاوز ، و الخروج من المأساة من خلال استشراف ما ورائها عند بلوغها الذروة ، و هنا تتحول أخيلة الذات الأولى الحكيمة إلى خروج كامل من السياق الثقافي ، و الوجودي للتكوين ، يقول في قصيدة " حوار مع الطبيعة " :
" تتعرى الحكمة تبرز للعريان / من ينفض عنه القشرة ... / الحكمة في أن ألفظ عني القشرة عاما بعد العام / لن أملك هذا العالم إلا حين أجن / لن أملك نفسي إلا حين أموت " .
في هذا المسار يعلو صوت المتكلم حين يفقد تكوينه ، أي يستنفد نفسه في حلم المستقبل ، لا الماضي ، و لكنه يستشرف هذا الصوت المقبل .. الموت المقبل معا ، و كأنه حقق التجاوز في القصيدة من خلال عملية تقشير الذات في سياقها الراهن . إنه يحدث انشطارا في لحظة الحضور بين إرادة الفقد ، و إرادة التجاوز و ازدواجهما في صوت المتكلم .
و في نص " بيني و بيني " يبحث الشاعر عن بهجة التئام التكوين الأولى كحلم يختلط بالتناقض و انعدام الحدود ، و كأنه ينتظر أن يكون له اسم للمرة الأولى ، و من ثم تعود اللغة إلى هذين المصدرين معا ؛ دائرية البهجة و الفرح بالتكوين ، و التناقض الأساسي المصاحب لظلمة الماء . و الماء عند عز الدين اسماعيل يشكل رؤية العالم من منظور العبث و التناثر المأساوي ، و كذلك يستشرف عودة الصوت الأول من داخل صيرورة الانشطار ، فالمأساة هنا عامل هدم ، و إعادة بناء في زمكانية أخري غير محددة أيضا مثل ظلمة الماء ، و أخيلته المتناقضة. يقول :
" و بحار الظلمة تدوم في رأسي / ترسم أحيانا صورة وجه ممتعض ما يلبث أن يضحك / تلتف الدوامة حول الوجه الضاحك / يتلوي / يهوي نحو القاع / يخرج من من قلب الدوامة وجه ببريق النعمى يتألق / لكن ما يلبث أن يتغضن " .
الصورة تحاكي تشكيل دوامات الماء و تناقضاته ، فتارة تشكل ملامح التكوين ، و تارة تمحوها دون ثبات ، مما يستدعي انفصال المتكلم عن كينونته الأولى ، و اسمه من داخل إرادة الالتئام التي صارت فضاء لم يتشكل ، لكن تساؤلات الشاعر تستعيده حاملا تاريخ السقوط ، يقول :
" يوما ما يلتئم النصفان المنشطران من العالم / و يصير الذئب رفيقا للحملان / فأقول لنفسي / يوما ما / يوما ما .. " .
الحلم بتداخل عناصر الوجود من داخل تعارضها ، يستشرف ذاتا كونية تتجاوز مفهوم العدالة في سياق البحث عنه ، فالعدالة قيمة تفرض ابتداء على عناصر متفاوتة ، لكنها هنا حالة تفاعلية خارج القيمة ، فقد تشكلت من تاريخ أصيل للتناقضات ، و التعارضات الانفصالية الذاتية و الكونية معا .
و يتعارض البعد السردي لدال الفقدان ، مع التكرار الموسيقي للأصوات التي تذكرنا بحلم الحضور و البهجة في وعي الذات ، و من ثم يحدث الانقسام في دلالة الفقدان بين هيمنته الحكائية / التاريخية ، و استعادة الصوت المتكلم المقاوم لهيمنة مدلول السلب من خلال بنيته الدلالية و الصوتية المنقسمة ذاتيا ، و المتعارضة . يقول :
" تجرحني سكين العينين الباهظتين / و لكني لا أنزف / و يباغتني شلال البهجة حينا / فأراقبه / يهبط في قلبي لحظات ثم يجف " .
إن غلبة الفقدان ممزوجة بطيف للبهجة يأتي كنغمة إنسانية مرتفعة ضمن خلفية سلبية تماما ، و من ثم ينتقل الشاعر من التلقي الصامت لمأساة الفقدان ، إلى استعادة الفاعلية ، و الإعلاء من ضمير المتكلم ليعيد تشكيل غيابه في حضور آخر منتظر فيما وراء الحكاية .
إن معرفة الفقدان – رغم سلبيتها التي تبدو في تجريد الوعي من الفاعلية – تؤسس لبعث آخر للصوت في فضاء ، يشبه العدم ، و لا يحققه ، فالعناصر الكونية التي تتحد بالمتكلم تحاول تأجيل حالة الفقدان من داخل سيطرتها على المشهد ، يقول :
" و يدور الكون / يدحرجني حينا في القبر / و حينا فوق سنام الجبل الأرعن / و يعلمني كيف يسيء العصفور الظن و لا يأمن / كيف يكون بكاء التمساح الكذب المتقن " .
لقد انتقل المتكلم من تلقيه السلبي لمفردات الفقدان ، و صيرورته ، إلى الاتحاد بالآخر / الكوني ، لتكوين معرفة تمثيلية جديدة لمعنى الفقدان تناهض الاستسلام التام لمفرداته ، هكذا يتحول تاريخ العدم إلى آلية معرفية ذات طاقة ، و حياة مضادة لمدلوله الأول ، لكنها حياة قيد التشكل و الأداء في المستقبل انطلاقا من وعي الكائن بالفقدان كأحد تأويلات الوجود .
و في نص " لغتي " تحقق اللغة الكونية الجديدة المتجاوزة للأنا سيرة المتكلم ، تاريخه الآخر من خلال معنى الخروج من حدود الذاتية . اللغة المنسوبة للمتكلم تستشرف ما بعده ، ما يمثله خارج نفسه ، و يرسم تفرده في آن . يقول :
" و أمد خيوطي المنسوجة من زبد الأوهام الأولى / كي أدخل في طقس اللغة المنسية / لغة الماء / و لغة العشب / .. أدخل في زمن العشق الأول / و الآفاق النورانية / يا لغتي / أنت أنا و أنا أنت / و أنت صراخي في وجه الصمت " .
اللغة تعبر الذاتية و يتحقق من خلالها المتكلم حين يتحد بإمكانية الأداء الإبداعي الأولى في اللغة الكونية التي تجمع التصوير و المادة ، و الانتشار اللاواعي المتجاوز لمفهوم العدم الذي يقترن دوما بتعيين العنصر الكوني ، أو الذات الشاعرة .
و قد يستشرف الشاعر قيمة إنسانية متولدة من الخضوع لسياق الاجتماع العبثي للمأساة ، و الملهاة ، فهو يمارس نوعا من اللعب السوداوي المفجر لإمكانات التناقض الإبداعية المناهضة لحتمية اختلاط المأساة بالملهاة .
يقول : " لا حيلة لي في أن يبلغ صوتي الآذان / إلا أن أمشي في الأسواق على رأسي / أن أهبط نحو الذروة / أو أصعد نحو القاع / أن اصبح أمثولة عصر ملتاث / عصر تخنقه المأساة الملهاة " .
يستعيد الشاعر قوة نبل آخر من خلال حالة السقوط و الانقلاب الممزوجة باللعب المتجاوز للعبث من داخله ، فالمشي على الرأس هنا يفجر حالة الاستسلام باتجاه اللعب الساخر من هيمنتها الحتمية ، فقد أصبح الانقلاب تمثيلا سرديا يتحقق الصوت الآخر النبيل من خلاله . و النبل هنا ليس قيمة في المتكلم بقدر ما هو استشراف لمتكلم آخر يتجاوز مآسي الكون من داخل صيرورته التاريخية ، و ما فيها من عبث ، و لعب ، و حزن ، و هذا الاستشراف هو التيمة الأكثر تكرارا في ديوان عز الدين إسماعيل .
و قد تنفك مشاعر التهميش ، و الانسحاق من خلال قوة أنثوية غير محددة تخاطب الشاعر . هذه القوة تحول الفراغ الذي يستبدل حضور الذات المتعالية ، إلى طاقة للتحول ، و إعادة التكوين المستمرة .
يقول : " يا فارسي الصغير ... / فلتنض عنك ثوبك الأنيق / و لتهبط السلم حتى القاع / و جس خلال الوحل / جس خلاله / و لاطم الأمواج حتى تغرقك / حتى إذا ما صرت لاشيء و كل شيء / فلتأتني .. " .
لقد صار الانسحاق في اللاشيء شرطا للتجاوز ، و الاتحاد بقوة الأنوثة المتعالية ، و ربما الطاقة الكونية المناهضة للحدود . إن ذوبان المتكلم لا يدل هنا على التلاشي ، لكنه تناثر إيجابي للصوت ، أو تفاعل كوني يجعل من الوعي مجرد مراقب لنشوة الامتزاج .
و تبلغ حالة استباق المتكلم لذاته في حلم البهجة الكونية ذروتها في نص بعنوان " المحال " ، حيث يبدو المحال تحقيقا للذات يفترض رحيلها ضمن بنيته . إنه حلم ما وراء التجسد الذي لا يمكن أن يكتمل إلا من خلال وعي تاريخي يفجر طاقته من تكرار المآسي .
يقول :
" مولعا بالمحال / بالذي كان قبل الوجود / و يبقى هناك بعد الوجود / ترهف الروح حين تلوح البوارق منه / و تلقي بنفسك في ربرب التيه / تجمع ذراته ذرة ذرة / ثم تجدلها في سبائك من ذهب الروح " .
المحال في النص يدمر مدلول الانسحاق الوجودي في العالم لا الوجود نفسه ، يدمر تأويلا للوجود ، ليحققه في فضاء آخر ، أو وجود آخر .
محمد سمير عبد السلام – مصر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة