الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا تجلسوا فوق الأعمدة !

شيماء الشريف

2009 / 8 / 29
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


في رواية "تاييس" Thaïs للكاتب الفرنسي العظيم أناتول فرانس، يقطع الراهب بافنوس رحلة طويلة حتى مدينة الإسكندرية في عصرها الذهبي في القرون الأولى للألفية الميلادية الأولى بغرض هداية الغانية السكندرية تاييس التي تذيب قلوب الرجال وتتسبب في زيادة أعداد الضالين، وتكون المفاجأة أن يهيم هو شخصيا بها حبا وغراما، ولأنه راهب ولا يسمح له موقعه بإظهار مشاعره أو الخوض في بحر الغرام مع تاييس، فإنه يغادر الإسكندرية في محاولة عنيدة للرجوع إلى سابق عهده من التنسك والرهبنة، ولكن هيهات، لقد تملك حب تاييس من قلبه واشتهاها كل جزء في جسده، فما كان منه إلا أن جرب ترويض هذا الجسد بالعنت والشدة حتى يقهر فيه هذه الشهوة المتأججة التي لا مناص منها، وعندما لم تفلح الطرق العادية، جرب بافنوس إحدى أصعب الطرق وهي الجلوس فوق عامود، وذلك كعادة الرهبان المتنسكين في ترك حطام الدنيا والتنازل عن أبسط قواعد الراحة الجسدية في مقابل الفوز بنعيم الفردوس في الآخرة، وهي فكرة في جوهرها سامية، ولكن لم يكن هذا هو ما يقصده أناتول فرانس، لقد كان العامود بالنسبة لبافنوس وسيلة قمع نفسية وجسدية ومكان للهروب من متطلبات فطرية وطبيعية، وبالفعل، وعلى الرغم من أنه كان يُنظر إلى بافنوس على أنه قديس، وأنه قد قامت أسواق وأنشطة وحياة كاملة أسفل عاموده تبركا به، إلا أن روحه المعذبة أبت إلا أن تستمر في تعذيب جسده، وتحولت جميع أحلامه إلى انعكاسات لجوعه الجنسي ولهفته الحسية. وعندما جاءه خبر احتضار تاييس جن جنونه وعاد عدوا إلى حيث دله الناس ليكتشف أن التي كانت غانية أصبحت قديسة، وأنها الآن تستعد إلى ترك حطام الدنيا لتدخل في ملكوت السماوات، فازداد جنونه وفقد عقله وكفر بالإله الواحد وأخذ يكيل له السباب لأنه سيحرمه من حبه الذي قاسى بسببه ومن أجله الكثير، وعندما وصل إلى مقر تاييس، كانت القديسة تسلم الروح وكانت ملامح وجه الراهب بافنوس قد تحولت إلى ما يشبه الوطواط ! وما أراد أناتول فرانس قوله هو أن الملابس لا تصنع الراهب (وهذا مثلٌ فرنسيّ)، كما أن المظاهر لا تعكس بالضرورة حنايا القلوب، إذ أن العبرة بالخواتيم وليس بالظاهر الذي ينخدع به الناس ويصدرون أحكامهم على أساسه.
ووفقا لعنوان هذا المقال، فإنني أتخذ من الجلوس فوق الأعمدة على طريقة بافنوس مثالا لوسائل الهروب والقمع النفسية التي يصنعها الإنسان لنفسه تحت مسميات دينية تظهر أمام الناس وكأنها تقوى وورع وزهد وهي تعكس في الحقيقة درجة كبيرة من المعاناة والألم بل والخلل النفسي، إنها الأغلال والزنازين التي يضع فيها العاجزون ذواتهم حتى يظلوا دومًا ضحايا في نظر أنفسهم، وتكون هذه طريقة مثلى لكي يتخلصوا من عبء أي أمر آخر قد يكون مطلوبا منهم. هذا، مع كل الاحترام للرهبان والقديسين الذين أفنوا حياتهم وهم ينتهجون هذا المنحى من الزهد، فلا يخفى على القارئ أن المقصود هنا هو طرح المعنى الرمزي كما طرحه أناتول فرانس.
فما أراه هذه الأيام أن أصبح نمط الجلوس فوق الأعمدة على طريقة بافنوس هو النمط السائد في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. فحالة الهوس الديني الطقسي غير المقرون بالتقوى الحقيقية ولا بالعمل الجاد ولا بتحصيل العلم هو جلوس فوق الأعمدة، وحالة الافتتان اللامعقول بالقماش والتنافس على زيادة أمتاره السوداء والبيضاء في ملابس النساء والرجال والتي لا علاقة لها بتاتا بمدى رقي عقولهم ولا بمدى صفاء نفوسهم هو جلوس فوق الأعمدة، والصراخ الهيستيري في مكبرات الصوت للدعوة للصلاة ثم الصراخ الأكثر هيستيرية أثناء الصلاة ثم البكاء والعويل أثناء الدعاء بعد الصلاة هو جلوس فوق الأعمدة، وحالات معاداة العلم وتكفير الآخر وانتهاج الخرافة والكسل العقلي ومحاربة العقلانية والتفنن في نشر الجهل وترسيخ دعائمه هو جلوس فوق الأعمدة، وحالات استخدام الدين لاستعباد عقول البشر وترهيبهم بالويل والثبور وعظائم الأمور هو جلوس فوق الأعمدة، وحالات الفتاوى المضحكة بدءًا بفتوى تحريم الجلوس على الكراسي وانتهاءً بفتوى تحريم تناول الطعام في البوفيه المفتوح هو جلوس فوق الأعمدة، كما أن حالة الرغبة المحمومة والشوق الجارف إلى العودة بركب الحياة الحاضرة إلى عام 630 م. هو حتما جلوس فوق الأعمدة، وغير ذلك مما يستعصي عن الحصر.
لقد أصبحنا نتنافس على القفز فوق الأعمدة، وامتلأت حياتنا بها وبالجالسين فوقها، كل منهم يظن نفسه أعلى من باقي خلق الله، لكن الأدهى أن يصدقه خلق الله ويؤكدون له مكانه العليّ، مثلما حدث تماما مع بافنوس الذي مجده الناس وهو فوق عاموده دون أن يدري أحد منهم بعذاباته ودون أن يرى أي منهم حقيقته. إن الجالسين فوق الأعمدة يعانون من عدة مشكلات عقلية ونفسية تكونت بداخلهم نتيجة لنشأتهم في مجتمعاتهم المتشرنقة المغيَّبة في مناخ تعليمي أجوف مرورًا بمناخ بحثي فارغ وانتهاءً بإعلام يصفر الريح في جنباته ويعكس حالة ثقافية متردية أيما تردي، وساعدت أنهار الأموال البترولية وانتشار القنوات الفضائية وأساليب الزحف المنظم إلى قلب مؤسسات بعينها بغرض تفريغها من مضمونها وفرض أيديولوجيات ظلامية عليها، إلى أن وصلنا إلى ما نحن فيه الآن.
إننا على وشك الخروج من التاريخ، ولن يفيدنا – ونحن نجلس فوق أعمدتنا – أن نهتف بأن الغرب له الدنيا وأن لنا الآخرة، أو أن الله تعالى قد سخر الغرب لنا، أو أنهم في النار ونحن في الجنة، لأن جلوسنا فوق الأعمدة هو الذي أوحى إلينا بهذه الأفكار التي نُطيب بها خاطر أنفسنا، ونُقنع بها ذواتنا المتضخمة وعقولنا الكسالى وعزائمنا المتراخية، إننا مأمورون بتحصيل العلم وبإتقان العمل وبإعمار الدنيا وبتأمل الجمال وبالتدبر والتفكر في الكون، ولا يمكن أن نحقق أي من هذه الأمور ونحن جلوسٌ فوق الأعمدة !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكرا
المعلم الثاني ( 2009 / 8 / 28 - 21:26 )
مقالة رائعة كما عودتنا الدكتورة شيماء الشريف...شكرا


2 - تحيات حارة
طلال ( 2009 / 8 / 28 - 22:52 )
قرات هذه المقالة بدون ان التقط و لا نفسا واحد. تشخيص صائب و دقيق و مفحم و هذا هو حال كل المزايدين في كل العصور و الازمان. شكرا و تحيات حارة

اخر الافلام

.. زعيم كوريا الشمالية: حان وقت الحرب! فهل يشعل صراع الكوريتين


.. لافروف: ما يهم روسيا هو عدم صدور أي تهديد غربي لأمنها| #الظه




.. الملف النووي الإيراني يستمر الشغــــل الشاغـــل لواشنطن وتل


.. أول مرة في العالم.. مسبار صيني يعود بعينات من الجانب البعيد




.. ابتكار جهاز لو كان موجودا بالجاهلية لما أصبح قيس مجنونا ولا