الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هروب من أمن الاعظمية

أحمد السيد علي

2009 / 8 / 30
سيرة ذاتية


الجو ملبد بالموت، رائحة الخوف تلف الشوارع، بدأ الرفاق بالتناقص، لا أحد يدري لم هذاالتلاشي المضطرد للطلبة في كل الاقسام يزداد يوماً بعد يوم، والصمت هو سيد المشهد ، قادة التنظيم يتوارون عن الانظار الواحد تلو الأخر أما الى طريق الموت القسري أو الهروب المرير، كانت التصفيات السياسية والتسقيط الجبري لأعضاء الحزب يسير بلا هوادة. في احدى بارات الباب الشرقي التقيت بنصير**...كان مضطربا وقلقا، الصدفة وحدهاجمعتني به، كنا نتفرس بعضنا بعضاً بتوجس ، لأنه في تنظيم الكلية وانا في تنظيم المحافظة ولم أنقل تنظيمي الى الجامعة بل أبقيت ارتباطي هناك في مدينة البساتين، ولذا لم يعترف عليّ أحد في كلية العلوم من الذين أجبروا تحت التعذيب بالإدلاء باعترافاتهم على رفاقهم في الكلية.تمتم نصير بأشياء كثيرة وبصوت منخفض وكنت اشاطره الهمس وفجأة استأذن مني دافعا حسابه...قلت له هل سنتلتقي ثانية، فهمس بأذني وقال اتركها للصدفة وخرج دون ان يلتفت، غاب نصير كالسراب، سمعت بعدها بسنين انه غادر الى سورية ثم الى براغ وبعدها عاد الى كردستان العراق كأحد الانصار متسللا عبر الحدود السورية، وهناك أصيب في فخذه وكان امام الدوشكا يقاتل في معركة غير متكافئة مع الاتحادالوطني وسحبه رفاقه الانصار الى جبل قنديل ،جبل الظلام والبرد والموت ، لم يقو نصير على الاستمرار ونزيفه يشتد بغزارة، لذالك قرر وفي لحظة يأس مطبقة والظلام والموت يلاحقه ان يجبر الرفاق على تركه كي ينسحبوا صعودا الى قمة الجبل المرعب و المعتوه قنديل ، حيث هو الخط الفاصل للحدود العراقية التركية وبعد إلحاحا منه استجاب رفاقه وانصاعوا لنداءته وتوسلاته فتركوا نصيراً أبا نادية في وحشة الانجماد والنزيف لكي يستريح من عناء الموت. الطلبة اليساريون العرب هم ايضا لاذوا بالصمت، كنت ألتقي بطلبة سودانيين ومغاربة وأأخذ منهم التبرعات وأوصل لهم نداءات الاستغاثة واعلام الحزب ، كنا نلتقي في كورنيش الاعظمية...كانت عيون وعيون ترصدنا في زمن ا لصعود المتسارع للدكتاتورية والفاشية، حيث الارتفاع الفلكي لمدخولات النفط.
استأجرنا غرفة انا وأخي والوالدة في كرادة مريم في الطابق العلوي لدار أحد الموسيقيين القدامى قرب مستشفى الطفل العربي ، حيث كان ذلك بمثابة اختفاء مؤقت. أكملت امتحانات نهاية العام بإلكاد، وبقى عليّ استلام النتيجة، اعلنت الكلية النتائج في مطلع تموز، كان الصيف لاهبا، اتفقت مع صديقي المغربي بابكر محمد بلقاسم*** على استلام النتيجة، وأثناء خروجنا من الكلية بعد إستلام نتيجة الامتحانات بالنجاح لحق بنا أحد الطلبة المشبوهين الذي يعمل بجهاز الموت الى باب الكلية وخرج معنا، وفي الطريق هجم علينا رجال الامن من الخلف وأخذوا هويتي الجامعية . أطلق سراح صديقي المغربي بابكر و الشخص المشبوه وعرفت حينها أنني كنت الفريسة المقصودة.
أدخلت مركز شرطة الاعظمية المحاذي لكورنيش الاعظمية خلف كلية العلوم،وكان الطابق العلوي هو أمن الاعظمية،كان ممرا طويلا ،لا أسمع فيه إلا صرخات تتعالى لأناس أبرياء، ورائحة الموت والتعذيب تزكم الانوف، وحيث تقترب درجة الحرارة من 50 مئوية أسمع من يصرخ أريد ماء. أدخلني رجال الامن الى غرفة محاذية للشرفة مساحتها مترا مربعا دون ان يكبلوا يدي ، وقالوا لي انتظرهنا،كان في قفص الدجاج هذا برميل اسطواني طويل للنفط وفوقه كوب بلاستيكي قديم وعلبة مسحوق الغسيل التايت.فكرت مليا بما علي فعله وهل سأقوى على الصمود ، أم تراني لن أتحمل عنف التعذيب وربما سأرشدهم لبعض من الرفاق والاصدقاء، الزمن تكثف بعمر فراشة، قررت ان أشرب النفط مع مسحوق الغسيل كي أذهب الى المستشفى ومن هناك سأعلم الطبيب أو الممرضة عن أسمي ورقم هاتف البيت الذي نسكن فيه، استولت هذه الفكرة علي فأخذت الكوب وفتحت صنبور البرميل وخلطت مسحوق الغسيل وإحتسيته بامتعاض شديد وكان أهون عليّ من الاعتراف تحت التعذيب، لم يؤثر الكوب الاول في فأحتسيت الأخر،الذي لم يفعل شيئاً، وضعت أذني على الباب فكان الصمت وحده سيد الموقف، تجرأت وأخرجت رأسي المثقل بالخوف والنفط والهموم، فلم أجد أحدا في الممر، وبسرعة خاطفة اسرعت الى النافذة والشرفة الملاصقة لها ومددت راسي المسكين من بين القضبان فوجدت شرطيا في الطابق الاول وفي الحديقة يحاول تشغيل البريمزفرجعت مسرعا الى قفصي المحتوم، وبعد بريهة طأطأت رأسي ثانية من القفص فكان الصمت على حاله سوى صرخات متقطعة من ذالك المعتقل المجهول ...أريد ماء.كررت المحاولة ثانية ومددت رأسي وعنقي فلم أشاهد أي شرطي في الحديقة ولا في الباب الرئيسة ولا الخلفية من شدة نار الشمس المتقدة في ظهيرة تموز، فلا أحد يستطيع ان يصمد تحت الشمس لساعات طوال.
ودن تفكير طويل مررت جسدي بعد رأسي من خلال الشيش الحديدي ولم يكن هناك شبك خلف الاعمدة ووثبت على الشرفة وكان تحت الشرفة ممر مباشر**** ، لكن ربما الشرطة جالسون هناك هاربون من الشمس أو لربما هم في الممرالمفضي الى البوابة الرئيسة.قفزت الى الحديقة ثم سرت بمحاذاتها وليس أمام الممر كي لا يشاهدني أحد، وبسرعة لا تقاس كالنيازك سطعت وإختفيت كشهاب ، ربما ركضت حينها أسرع من الارنب فتحت الباب الخلفية للحديقة وركضت في الشوارع الفرعية وكانت فارغة إلا من جسدي، ووصلت الى ساحة عنتر وبصرخة مدوية رفعت يدي محتجاًعلى الموت، وأشرت الى تكسي فوقف السائق مذعورا، فقلت له لقد دهس أخي الصغير وهو الآن في مستشفى الطفل العربي...لاأدري من اين جاءت تلك الفكرةالملعونة بهذه السرعة الممزوجة بالخوف والذعروبسرعة البديهه هذه...انه الخلاص من الجستابو، وصلت الى البيت الذي استأجرنا غرفة فيه، فلاحظ اهل البيت إرتباكي وبادروني بالسؤال ما بك، فأجبتهم انني نجحت الى الصف الثالت، وصعدت وشرحت الى أخي وأمي ما حل بيّ وكيف هربت،فجلبت امي صحناً كبيراً ووضعت يدي في بلعومي عدة مرات وبدأت أتقئ النفط ومسحوق الغسيل تباعا بحيث شعرت أن ذلك استغرق زمناً طويلاً، وفجأة نادى أحد أصحاب البيت عليّ وقال يريدوك على التلفون، نزلت مسرعا وإذا بشخص لا أعرفه يخاطبني بإسمي الثلاثي ولكن بدون ترتيب صحيح فأجبته ان الرقم والشخص المطلوب ليس صحيحا.
صعدت الى أمي وأخي وأخبرتهم ماذا قال الشخص الذي كان على التلفون وكيف انه ناداني باسمي ولكن اسم الجد كان قبل اسم الاب ، عندها قررنا ترك المكان الذي لم نبق فيه حتى شهراً واحداً.
نزلنا وقلنا لا اصحاب الدار اننا سنزور اقاربنا بعد ما دفعنا الايجار وكان الخروج بلا عودة.

*الواقعة حقيقية وهي جزء من حلم لكتابة نص من السيرة الذاتية ولازالت هويتي الجامعية هناك في الامن اتمنى ان احصل عليها بعد ثلاثة عقود، وقد حصلت على هوية بدل ضائع بعد نشر اعلان في صحيفة العراق وكان رقم هوية بدل الضائع هو 7707 ولازلت محتفظابها وحدث ذالك بعد خروجي من المعتقل1982
وربما لم يبلغ القائمون على مديرية أمن الاعظمية عن الحادث خوفا من العقوبة
** نصير محمد محسن الصباغ من أبناء الكوفة انسان يتقد ذكاء وشجاعة وسرعة بديهة وارتجال وخاله المناضل مهدي عبد الكريم ، توفي أخويه إحداهما في الاتحاد السوفيتي سابقا... غرقاً والاخر في جامعة البصرة... مرضاً
*** بابكر محمد بلقاسم طالب مغربي في كلية العلوم قسم الرياضيات، كنت ومجموعة من الرفاق نبيت عنده أحياناً ، وكان يستأجر الطابق العلوي من دار في شارع المغرب، وكان يحذرني من المجئ يوم الخميس لأنه هناك طالب مغربي بعثي في الكلية العسكرية ويكره كل اليساريين المغاربة وغيرهم. وذات يوم حدثت مشاجرة بين صاحبي والمغربي البعثي وبعد الاشتباك سحب صاحبي المسدس من البعثي المغربي وقتله، فحوكم عليه في العراق مؤبد، وحاولت جاهدا بعد 1982 أقابله في الاحكام الثقيلة في أبي غريب فلم أجد اسمه، ربما حجز في العلب التي لا يسمح لأحد أن يزورها.

****بعد سنة 2003 زرت الاعظمية وشاهدت من بعيد مركز شرطة الاعظمية وكان قد بني شباك حديدي لا ينفذ منه رأس قط ومشبك من الخارج.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أوضاع مقلقة لتونس في حرية الصحافة


.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين: ماذا حدث في جامعة كاليفورنيا الأ




.. احتجاجات طلابية مؤيدة للفلسطينيين: هل ألقت كلمة بايدن الزيت


.. بانتظار رد حماس.. استمرار ضغوط عائلات الرهائن على حكومة الحر




.. الإكوادور: غواياكيل مرتع المافيا • فرانس 24 / FRANCE 24