الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موسيقيّات (2)

أنسي الحاج

2009 / 8 / 31
الادب والفن


٢٢ آب ٢٠٠٩


تُخاطبُ أمّ كلثوم المستمع على طريقة الزعيم، وتخاطبه فيروز بصوتِ صبيّةٍ خائفة، ومع هذا تحمل الطمأنينة. الأولى تهزّ الجسد وتمخر به عباب استمتاعه، والثانية تمسّ الجسد كالشعاع فيركع على روحه. صوت الأولى ينقضّ بسطوة الجبّار، وصوت الثانية يُرْعِش إرعاشَ قمرٍ يَسْطع فوق بحيرة. الأولى فرعون والثانية حُلُم.
■ ■ ■
بعد أن تتوقّف أغنية فيروز يعمل صدى الصوت في دوائر الصمت عمل الذكرى التي تبدأ اكتشافاتها.
■ ■ ■
جمهورها، من فرط الحنين، مهاجرٌ يريد دوماً العودة إلى وطن.
■ ■ ■
نجحت فيروز في إيصال شعر سعيد عقل أكثر ممّا فعل الشارح والناقد وسعيد عقل. نجح صوتها «بدون انحياز».
■ ■ ■
إذا انغرّ البسيطُ ظهرت بساطته. إذا انغرّ المركّب ظهرت بساطةُ المفتونين به.
■ ■ ■
يمكن تَخيُّل الله، أمام غناءٍ ساحر، وهو يتمنّى لو لم تكن الكائنات جميعها محكومةً بالموت.
■ ■ ■
يحلو للأسرار أن تجلس في النور. وهي تحتاج إلى الهواء أكثر ممّا تحتاج إليه الأشجار. وتحتاج إلى الظهور لتقول له إنه سيعجز عن تعريتها.
■ ■ ■
تحافظ الموسيقى على صمت سرّها رغم ضجيج الآلات. ويحافظ الصوت الأخّاذ على صمت سرّه مهما حُمّل من ألفاظ. هنالك أسرار لا يستطيع أصحابها أنفسهم أن يفضحوها إذا رغبوا. إنها هنا حدود طاقتنا على «الهدم».
■ ■ ■
نموذجٌ لسوء الفهم: لا يُحكى عن صوت فيروز إلّا مصحوباً بوصف «ملائكي». روَت فيروز أنها كثيراً ما رأت أولاداً، يزورونها مع أهلهم أو تزور هي أهلهم أو في أيّة مناسبة أخرى، يجهشون بالبكاء ويلوذون بأحضان أمهاتهم ما إن تُطلّ عليهم فيروز! تروي ذلك مقتنعة بأن سبب بكائهم هو خوفهم منها (ومن هالتها) لا انفعالهم وخجلهم أو غيرهما من أنواع الإعجاب.
مَن يعرف فيروز يعرف شخصيّتها الكاسرة لا الآسرة فحسب. ضعفها حقيقي وقوّتها أيضاً. واللواتي من المغنّيات يَحْسبن أنهنّ يتشبّهن بها عندما «يُنحّفن» أصواتهنّ، دليلٌ آخر على سوء الفهم. في صوت فيروز العادي خشونة تُوهِم أحياناً المستمع إليها عبر الهاتف أنه يتحدّث إلى رجل. ولها عن ذلك قصصٌ لا تُصدّق. النعومة في غنائها هي رهافة روحها، طبعاً، ولكنّها أيضاً إرادة الفنّانة.
■ ■ ■
في يومٍ من عام 2000 قالت فيروز لمحدّثها: «أمس كنتُ أسمع أغنياتٍ لي عن فلسطين. كُتبَ مرّة عن التحريض في صوتي. سأقول لك ما اكتشفته أمس: تحريضي حَنون. كيف تفسّر هذا التناقض: تحريض وحنون؟».
لو فكّت فيروز ألغاز ذلك منذ البداية هل كانت ستظلّ فيروز؟ لو اكتشفت فيروز فيروز منذ البداية لاستيقظت حسناء الغابة النائمة وحَلَّ قَدَرٌ محلّ قَدَر. ولكنْ هل تُسْتبدل الأقدار؟
■ ■ ■
العافيةُ وحدها، أمرٌ محفوفٌ بالإرهاق. الضعف وحده، سقيمٌ مُفْقِر.
كلاهما معاً شمس يؤدّيها القمر.
■ ■ ■
مغنٍ يلتمعُ صوته التماعاتٍ أخّاذة لا بفضل اتّحاده مع الكلمات التي يُنشد، إنما، على العكس، بفعل المسافة التي بينهما.
غُرْبةٌ تُمكّن المقتدر من أن يضاعف ظلّه، فيحضر بسطوة «موضوعيّة» أطغى من الانفعال.
هذا ما يحصل في ما غنّته فيروز. وهو ما يحصل في الأوبرا، حيث قد تبلغ «المسافة» حدود التعارض.
■ ■ ■
عصفورٌ سجين يُحلّق في سجنه وهو أهنأ من الطليق، لأن جناحيه طفولة باقية، ورهافته تستبق التجارب وتَشفُّ على نِصالها.
ذلك هو شخصٌ أحْبَبْتُ. وكلمة أَحببت. وصوتٌ أَحببت.
■ ■ ■
الأغنية القصيرة تراود الذاكرة كإطلالة خاطفة لوجهٍ معشوق.
■ ■ ■
يختزن الفولكلور من حقائق الشعوب وأحلامها ما لا تستطيع العلوم الاجتماعية والإنسانية الحدس به.
■ ■ ■
حين تشتدّ النبرة الميلودرامية في كلام الأغنية، يجلّسها صوت فيروز بصوتٍ يتعالى على الانفعال الخارجي. وحين يكثر «الإنشاء» في الأغنية، يأتي عمق الصوت ويضفي عليه ببلاغته المتقشّفة معاني لم تكن لتبدو بهذه المعاني.
■ ■ ■
أَبقى اللحظات الموسيقيّة هي تلك المفعمة بأكثر الأشياء هروباً، وأمتعُها أنجحها في استثارة ضباب الأعماق.
■ ■ ■
الفولكلور الغنائي كما أعاد صياغته الأخوان رحباني وطبَعَتْهُ بصوتها فيروز إلى الأبد أقلقَ في البداية الأوساط الأكاديمية بسبب تجديده وإضافاته.
وسرعان ما اتضح التوازن الخطير الذي أقامه المثلّث بين الذاكرة والجديد، وكيف أنقذوا صيغتهم من تحنّط الأولى وإقتلاع الثانية، محققين المعادلة المثلى في التأليف الغنائي، وهي الصوت الطالع والصدى العائد. وهو ما فشل آخرون في تحقيقه.
حضرنا معاً حفلة لاتجاه فني مختلف، يحاول الوفاء للأصول مع محاكاة الأساليب الأوبرالية عزفاً وغناء. (كان ذلك في الثلث الأول من ستينات القرن العشرين) فوجدنا فولكلوراً لبنانياً (أبو الزلف، عتابا وميجانا، مواويل...) يقدّم في سياق التفرنج الأوركسترالي فتكون النتيجة كائناً هجيناً تحوّلت معه روح البراري والأعالي إلى جوقات تلامذة متصنّعين يؤدّون نشازاً يتوهّم صانعوه أنهم «يرتقون» به إلى مستوى الفن «الراقي».
■ ■ ■
... حيث تضيع المعالم بين تأثّر الشعراء بأغاني الأخوين رحباني وتأثّر الأخوين رحباني بالشعراء. الفرق أن تأثُّرَ الأوّلَين واضحٌ حيث هو، وتأثّر الرحبانيين هو إمّا من نوعِ المحاكاة الأفضل من الأصل (غنائياً) وإمّا من نوع التأثّر غير المباشر. وهذا التأثّر المداوَر أو المحوَّل موجودٌ لديهما في الموسيقى على نحو أكبر.
■ ■ ■
العرب ظهروا في الغناء أكثر ممّا ظهروا في الموسيقى الصافية ربما لأن الإسلام طوى ما قَبْله من أساطير وخرافات ولم تنتقل ميثولوجيا «الجاهلية» إلى العصور اللاحقة انتقال الميثولوجيا الإغريقية ـــــ الرومانيّة والجرمانيّة والسلافيّة وغيرها إلى أوروبا بعد المسيحية. تبدو العلاقة ثابتة بين الموسيقى الصافية والجذور الميثولوجية ومصادر الإلهام الدينية. الظاهرة الصوتيّة ليست مصاحبة فقط لغنائيّة اللغة العربيّة ولفظيّتها الرنّانة بل كذلك لحلول الأغنية في الذائقة العربيّة محل الموسيقى الصافية. لذلك يَطْرب العربي للغناء بما يفوق حدود أيّة سلطة أخرى عليه، وللأغنية العقل باطنيّة اللحن خصوصاً، الفولكلوريّة الطابع بوجه أخصّ، وحتّى لو كانت فولكلوريّة غير مباشرة كما في الكثير من ألحان الرحبانيين وفيلمون وهبة وفريد الأطرش. وفي مصر، ورغم جهود عبد الوهاب وبراعته، لم تستطع تجديداته وتلقيحاته الغربيّة أن تغلب ولا أن تحجب سحر الألحان الشعبية.
■ ■ ■
أضاف أجداد مغمورون إلى التراث الشعبي كلٌّ على قَدْره. الفولكلور مجموعات من المؤلّفين المجهولين، ثم يأتي فنّان موهوب ويضيف إلى الموروث ولكنْ هذه المرّة إضافة «معلومة» غير مرشّحة للغَمْر. على الأقلّ في زمن مرئيّ قريب. عندئذٍ يُنْسَب الفولكلور الجماعي إلى شخص، مع أن إسهام الشخص محدود جداً، وعلى الأرجح شكليّ، كتغيير لفظة أو زيادة نوطة. لكنّ هذا التغيير يصبح جوهريّاً وساطعاً في الموروث إذا كان الفنّان المضيف خلّاقاً ومن طينة ينابيع الموروث لا فروعه، فتغدو الإضافة امتداداً طبيعيّاً ويصبح الدخيل هو والأصيل واحداً.
■ ■ ■
التحديث في الموسيقى محفوف بأخطار التيهِ إذا نأى عن جذور اللاوعي. هذه الأخطار هي نفسها في التصوير والنحت، ولكن على درجة أقلّ، لأنّهما أقلّ غوصاً من النغم والصوت في رحم الرأس، فرديّاً وجماعياً. أما الأدب فهو الأكثر قبولاً للتلاعب والعَبَث بسبب مشاعيّة الكلام، فيغدو في حاجة ماسّة إلى التغيير والنَفْض حتّى يظلّ قادراً على ملاقاة الأحلام واستنباطها، وحتّى تتجدّد اللغة وتحتفظ (أو تسترجع) قدرتها على التأثير.
■ ■ ■
الحَدَث هو تحوّل الجديد إلى أسطورة. لا يعود امتداداً فقط لحديث اللاوعي بل يضيف إليه. لا يَهْمي منه بل ينهمر عليه. وحتّى عندئذٍ لا يكون هجيناً ولو بدا كذلك، بل تكون له بغمر الأعماق السحيق، وشائجُ من النوع الذي لا يُستطاع اقتلاعه.
■ ■ ■
ابتكار أسطورة هو أبلغ من البناء على أسطورة. يظهر ذلك في الأدب خاصّة، عندما ابتعدت الرومنتيكيّة عن الرموز الإغريقية ـــــ الرومانيّة واستلهمت حاضرها ورؤاها الحديثة ولو على خلفيّة قصصٍ أو شخصيات من الماضي.
أمّا في الموسيقى فقد ظهر الاستقاء من الأساطير أقوى ما يكون في مؤلفات فاغنر، ولعلّه أبرز مَن نجح في تحقيق وحدة الكلمة والنغم، بل وحدة الجوّ والكلام والموسيقى، مستعيناً على ذلك بتكرار اللازمة، أو النغم الهاجس، وقد برع فيه قبله بيتهوفن في شكلٍ أكثر عفويّة وأسرع التصاقاً بالذاكرة.
لكنّنا هنا أيضاً ما زلنا في الأسطورة المستعادة أو المستعارة لا المبتكرة. الحكايات «الجديدة» نجدها في أمثال «كارمن» أو «لا ترافياتا» وقبلهما في «دون جوان» موزار.
■ ■ ■
... ما يعيدنا، بنظامه، إلى استراحة التحلّل، لا ما يحتاج منّا إلى الدعم لينتظم... الاختلاط بالموجة العملاقة، التي تستعيد المكان بابتلاعه، لا ادّخار الذات بعيداً.
الإغراء جيّد لأنه يأخذ إلى الانحلال ذاك. الادّخار يَحْفظ لأيّ غرض؟ الإنفاق تسييل لدم الشرايين. الإنفاق الشديد رقصة صوفيّة. ما يُنْفقني يجنّحني ـــــ دفعاتٍ دفعات قبل التحليق الأخير... ولا تحليق أخير، بل كلّ مرّة هو التحليق الأخير.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع