الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رنين السرد في جمهورية البرتقال

ناجح المعموري

2009 / 8 / 31
الادب والفن


إن تجربة الشاعر إبراهيم الخياط أكثر التجارب الشعرية الجديدة هدوءاً وضبطاً وتوازناً، والشاعر معني بما يرضيه قبل أن يعرف آراء الآخرين، مكتفياً بالكتابة، وبالنشر قليلاً، وعلى الرغم من أهمية رأي الآخر، لم يغامر مثل الآخرين بمعرفة ذلك، كما أنه قليل الانشغال بتجربته على الرغم من أهميتها كما قلنا. والشاعر مشغول باليومي، وهو محتدم ومتدفق حوله، وكان الشاعر طيلة حياته الطويلة ضحية اليومي/الرسمي وتبدياته السلطوية حتى اللحظات الأخيرة، عندما كان بمواجهة حادة جدا مع الحادث المنفلت.
نواجه في قراءة نصوص ديوانه "جمهورية البرتقال" حكيا متعاليا وكأنه معني أولا بالحكاية القصيرة التي عرفتها القصيدة العربية، وحصرا العراقية، في تجارب كثيرة أهمها تجربة سعدي يوسف/ رشدي العامل/ عبد الكريم كاصد. إنها السردية الغنائية، الهادئة، المتحركة برنين "خيّاطي" يستدعينا بوعي فني، ويأخذ بيدنا نحو امتداد الحكاية، الذي دائما ما يتشظى في حكاية أخرى وسرد يلوح للقارئ للدنو منه، والاقتراب إليه حتى يعقد المتلقي معه قرابة ليست متخيلة، وإنما هي قرابة قرائية تشكلت من خلال الحكي ورنين سردياته.
جمهورية البرتقال مجموعة من سرديات تومئ نحو ذاكرة الفرد/الشاعر والذات الأكبر/ذات الجماعة، لأن الذاكرة الناشطة هي الأقرب للجماعة منها للفرد الذي لا يستطيع وحده تأسيس ذاكرة قادرة على توحيد الجماعة حول مفرداتها. الفرد/الراوي في سرديات البرتقال هو الذي راكم حكايته، وأحياناً يتكرر المماثل أو ثيمة منه في نص آخر، ويتكون التتالي والتراكم للمتخيل وكأنه حضور واضح للمرجع اليومي/الواقعي/المعروف، والذي يتحول في أحيان كثيرة إلى متخيل، بسبب الغرابة السردية الكامنة فيه مع اشتغال المجازيات في قصائده، حتى صارت مجازياته لافتة للانتباه من عنونة ديوانه.
إلحاح إبراهيم الخياط على الضبط السردي هو الذي ساعده على خلق التنظيم في طبقات متراكمة أي مبادئ اختيار الألفاظ، لا إستناداً إلى اعتبارات مرجعية، بل لأسباب صوتية ودلالية كما قال باكوسن.
في قصيدة "الضجة الصديقة" استعارة صاعدة، حيث تحولت المفردات إلى وميض مجازي، أسس واحدة من خصائص الشاعر إبراهيم الخياط، هي غياب الصوت الطاغي حيناً وصعوده في حين آخر، أي بمعنى لم يستطع الشاعر ضبط كل ما أمسك به بهدوء تام، وإنما تفلت منه اليوميات ومخزونات الذاكرة القصيرة وتقول لنا شيئاً جديداً وبإيقاع حاد.
في "الضجة الصديقة" هدوء الشاعر وعنايته الاستعارية وهو يتحدث عن الجماعة وضجتها:
ترى ـ أمن الضجة انتهائي ؟
فعند التقاء المساءات
صامتاً أفردت بعضي
ورتقت بعضي بالجلنار
أحرقت دمعي
( وهل كان دمعي غير ماء ؟ )
أطفأت روحي
ثم رميت عقبها المفحم خلف الباب / ص15
البؤرة في هذه القصيدة هي الجبهة والغياب القائم / أو الاحتمالي، فإن المفرد هو المهيمن في السياق السردي، وإن ظل للجمع دور، لكنه قليل. لأن الحرب تلاحق الفرد وتشظيه ويظل صوت الشاعر ورنينه السردي في ترتيق بعضه بالجلنار.
وفي قصيدته "يا امرأة الوجع الحلو" شذرات والتماعات التكون اليومي الذي يومئ للأسطوري وبروز إمكانات الشاعر في خلق وحدة بين الأساطير الخاصة بالخسران، أساطير من فضاءات دينية مختلفة، لكنها مع الاختلاف الواضح فيما بينها تظل سردية متمركزة في الذاكرة الجمعية، وفاعلة بطاقاتها الإيحائية، قصيدة مائية، مكانها نهري، وقاموسها موحد لقصص وأساطير توزعت بين قصة يوسف ومرويات يسوع:
تقدّ قميصي ـ كل ليلة ـ من الجهات أربعها
ولا أقول : ربّ السجن أحب إليّ
لا أقول : ربّ السجن أ ..
فيا نهيرات بلادي الظامئة
بالغصة الوثقى أتيت
وبالغصات أعاود،
أجيء ـ كما الليل ـ عشياً
أهبط
بين فراتين اثنين
أنزوي في ألق العشب
ثم أحكي للبساتين الصديقة
عن النار والنارنجة والناطور / ص20
لم يتعامل الشاعر مع قصة يوسف مثلما هي في أصلها، وإن كان المقطع السابق دالاً على ذلك، لكن الشاعر خلخل انتظام نسقها القرآني، وانحرف ليضفي على القصيدة رؤيته الجديدة التي أضافت ما لم يكن موجوداً. وحصلت متغيرات في السياق السردي حيث كانت (امرأة الوجع الحلو) تقدّ قميصه من جهاته الأربع وهو صامت، الراوي السردي/ضمير المتكلم في هذه القصيدة تحول مراوداً بعد أن كان ملاحقاً من امرأة العشق الحلو:
أطلب مسرى أقدام تطأ الماء
ويحملها
" أمحي قيل
وقيل سرق "
فرجعت بأشيائي تلك ألوذ
رجعت فناراً
وعن نفسها
بتّ أراود
أنهار بلادي الظامئة / ص21
كان متكتماً في استهلال هذه القصيدة على محاولات امرأة العشق/الوجع الحلو، لكنه وجد في نهاية قصيدته إمكانية كامنة في أعماق الوجع المذكر المتكلم والفنار الذي وجد نفسه فجأة وهو يراود أنهار بلاده الظامئة. لعبت الشعرية قلباً لدال في هذه القصيدة، انحرفت زليخة/امرأة فوطيفار في قصة يوسف التوراتية إلى امرأة الوجع الحلو ولاحقته في النص لكنه صامت، هذا التوافق بين الأصل والقصيدة، أضفى عليها خرقاً فنياً ينطوي على دلالة مهمة.
إنه خرق الثابت وزحزحة المعروف في هذه القصة. لكننا فوجئنا بالشاعر/الراوي السردي/المتكلم قد أعلن عن مراودته للأنهار واتصل معها. ولابد لنا من قراءة أعمق حتى تتضح الزحزحة في الأصل الأسطوري، وكيف وظفه الشاعر إبراهيم الخياط بشكل مدهش حقاً. لقد تغيرت الأنثى في الأسطورة إلى مذكر، المرأة إلى الأنهر، ودلالة رمز المرأة والنهر مختلفة، لأنها مذكرة ومؤنثة في الأسطورة، وأيضاً كلاهما مؤنث في الأسطورة (باشلار).
تحول الراوي إلى مراود ولم يقد طرفاً في الأنهر العطشى. اتصل بها وطفح فيها الماء، ماء الراوي/السردي، وفي هذه النهاية إشارة واضحة لعلاقة الإله أنكي مع الفرات، حيث وقف عند ضفته وأطلق ماء ذكورته حتى امتلأ النهر وانتشر الخصب، وربما هذا الذي أراده الشاعر إبراهيم الخياط.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش


.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان




.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي


.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح




.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص