الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ايران والثورة...عود على بدء (4)

عبد كناعنة

2009 / 8 / 31
مواضيع وابحاث سياسية


كما كل ثورة بعد انتصارها مرت الثورة الايرانية يعملية مأسسة حيث بدأ التفكير بكيفية تحويل الفكر الخميني من النظرية الى التطبيق. وكيفية المحافظة على هذه القوى المختلفة والتي شكلت معاً الجبهة الواسعة التي أسقطت حكم الشاة بعد الثورة.

في هذه الحلقة الأخيرة من المقالات حول ايران لن أتحدث عن تاريخ الجمهورية الاسلامية وانما عن مرحلة تحويل الشعارات التي رفعت في خضم الثورة الايرانية الى دستور جمهورية ايران الاسلامية بعد الثورة. وهذه المرحلة هي إحدى أهم المراحل في حياة كل ثورة ولكن في الثورة الايرانية اكتسبت هذه المرحلة أهمية خاصة حيث نهلت الثورة الايرانية من مصادر مختلفة فكرية وسياسية ومحاولة التنسيق والتوفيق ما بين هذه المصادر المختلفة لهو أمر غاية في الاثارة خصوصاً مع التسليم بكون الخمينية هي عبارة عن "شعبوية" من نوع خاص رفعت شعارات كانت تؤمن بقسم منها ولم تكن تؤمن بأقسام ولكن استطاع مؤسسها نتيجة "البراغماتية" التي إتسم بها من الحفاظ على مركباتها المختلفة تحت عبائته.

الدستور الايراني الأول بعد الثورة كان من أكثر الدساتير العالمية التي وضعت على مقاس رجل واحد وهو الامام الخميني الأمر الذي إضطر الخميني لاحقاً وقبل وفاته بقليل أن يوعز للنظام الايراني ادخال بعض الاصلاحات عليه حتى يتلائم والفراغ الذي سيحدثه غيابه عن الساحة السياسية.

الدستور الايراني من العام 1979 ولد على وقع النقاش والجدال بين ثلاثة تيارات أساسية من رجال الدين والذين وضعوا الدستور الجديد لايران ما بعد الثورة وهم: التيار المحافظ الأورثوذوكسي والتيار الثوري الشعبوي والتيار الديمقراطي. حيث كان لكلٍ من هذه التيارات رؤيته الخاصة وتفسيرة للدولة الاسلامية الجديدة ولنظرية "ولاية الفقيه".

التيار المحافظ رأى انه لا حاجة لدستور جديد للدولة ورأى أن القرآن والأحاديث هي دستور الدولة الايرانية وان القيادة يجب ان تكون بأيدي رجال الدين بشكل مباشر ومن دون العودة الى الشعب أو البحث عن مؤسسات أخرى لكي تشاركهم في الحكم.

في المقابل فقد رأى التيار الثوري الشعبوي وجوب ادخال نوع من الشرعية الشعبية على نظام الحكم وخصوصاً من خلال دور القائد الثوري الأعلى الكريزماتي. رجال هذا التيار استعملوا ليس فقط أراء دينية وانما أخذوا من أفكار روسو حول العقد الاجتماعي مع التأكيد على ان الاسلام هو العقد الاجتماعي الأول في التاريخ. ومع خروج الشعب الى الشارع ومساندتهم للثورة فقد عبروا بالصورة الأنقى عن الإرادة الجمعية للشعب وبالتالي فان الدولة الاسلامية نالت شرعيتها من الله ومن الشعب. والقائد الأعلى للثورة وللدولة هو هو الممثل الأصدق للإرادة الجمعية للشعب وللعقد الاجتماعي أي الاسلام.

اما التيار الثالث وهو التيار الديمقراطي من بين رجال الدين فقد أكد على ان "ولاية الفقيه" يجب ان يتم التعاطي معها من خلال مفومها الرمزي. حيث يجب على ان تكون روح الدستور اسلامية وبالتزامن أن يكون جهاز الدولة ديمقراطياً. رجال هذا التيار وحتى لا يصطدموا بالكريزماتية الخاصة بالإمام الخميني أكدوا على أهمية الإمام الخميني وقيادته من أجل قيادة بناء المؤسسات الديمقراطية لإيران ما بعد الثورة واستثمار الإجماع العام عليه كقائد في سبيل إرساء أسس ديمقراطية لفترة ما بعد الثورة وبناء الدولة.
في نهاية الأمر كان الدستور الايراني معبراً عن وجهات النظر الثلاث لهذه التيارات.

الدستور الايراني:

الدستور الايراني وعلى الرغم من الجوهر الاسلامي إلا انه لم يقتصر على المفهوم الاسلامي للحكم وقد تطعم الدستور بنقاط قومية حيث وبحسب البند 115 من الدستور يحتّم على رئيس الدولة أن يكون صاحب جنسية ايرانية وليس أي مسلم، أو حتى أي مسلم شيعي كما يتوقع لو كان الدستور اسلامياً صرفاً. كذلك حدد الدستور بأن اللغة الرسمية للجمهورية الاسلامية الايرانية هي اللغة القومية الفارسية وليست اللغة العربية التي هي لغة القرآن.

لقد زاوج الدستور الايراني بين المفهوم الاسلامي من جهة والمفهوم الغربي الجمهوري من جهة أخرى وحاول النظام الجديد من خلال دستورة ربط الشرعيتين الالهية من جهة (وهي طبعاً العليا) والشرعية الشعبية التي تمثلت في الثورة ومن ثم في استحقاقات انتخابية مختلفة من جهة أخرى.

في البنود 5 و 107 من الدستور الايراني للعام 1979 تم التأكيد على أن الفقيه والذي عليه ان يكون مرجع تقليد هو القائد الأعلى للدولة وهو المراقب والمحاسب لمؤسسات الدولة ولرجالاتها مع العلم انه في دستور العام 1979 تم التطرق وبشكل واضح وجلي الى اسم الامام الخميني على انه القائد الأعلى للثورة الاسلامية والقائد الأعلى للجمهورية الاسلامية وفي هذا البند بالذات سوف يجري التعديل بعد عشر سنوات وبإيعاز من الخميني نفسه وهو على فراش المرض.

دين الدولة بحسب الدستور الايراني وتحديداً بحسب البند 12 منه هو الاسلام بحسب المذهب الشيعي الإثني-عشري مع العلم ان الدستور الايراني اعطى شرعية لبقية المذاهب الاسلامية في المناطق التي يعتبر اتباعها أكثرية.

مقابل هذا البند الخاص والذي يعلي شأن مذهب معين في الاسلام على بقية الديانات فنحن نجد في البند 54 من الدستور الايراني أن الجمهورية الاسلامية الايرانية تضع أمامها سعادة الانسان بدون علاقة لأصوله أو دينه أو مذهبه كهدف أعلى وفي ذات الوقت الجمهورية الاسلامية تدعم النضال الشرعي للمستضعفين بوجه قوى الاستكبار في انحاء العالم المختلفة.

يجمع الدستور الايراني داخلة مجموعة من الكوابح والتوازنات التي تحاول المحافظة والتنسيق بين التيارات السياسية والفكرية المختلفة التي ذكرناها سابقاً. والتوتر الأساس الذي حوله يدور الدستور الايراني هو بين الشرعية الالهية من جهة والشرعية الشعبية من جهة أخرى مع إعطاء الأفضلية للأولى دون طمس الأخيرة بصورة تامه وكاملة.

الولي الفقيه يتم تعيينه من خلال مجلس الخبراء والذي أقيم بعد وفاة الامام الخميني والذي يضم 12 عضواً بحيث يكون نصفهم من رجال الدين الكبار ويعينهم الولي الفقيه ونصفهم الآخر من رجال القانون والذين يعينهم رئيس السلطة القضائية في البلاد. وعلى هذا المجلس أن ينتخب أو يقيل الولي الفقيه فيما لو بطلت واحدة من الشروط التي يجب ان تتوفر به من جهة وعليه كذلك ان يراقب عمل المجلس التشريعي وكون القوانين التي يتم سنها ملائمة للفقه الاسلامي ولا تخرج عن تعاليمه.

لن أدخل في هذه العجالة الى تفاصيل والى نصوص الدستور الايراني أكثر من ذلك حيث ان الهدف الأساس من الحديث عن الدستور هو تبيان الكوابح والتوازنات في النظام الايراني الحالي من جهة وتبيان البرغماتية العالية التي إتسم بها قائد الثورة الايرانية والقيادة الايرانية عامة التي قامت حتى بتغيير الدستور والتوافق على شروط جديدة للولي الفقيه وحتى الوصول الى مرحلة إسقاط الشرط بضرورة كونه "مرجع تقليد" لكي يتولى القيادة كما حصل مع مرشد الثورة الاسلامية الحالي الخامينئي والذي كان عشية تنصيبة للقيادة حائز على درجة "حجة الاسلام" والتي هي درجة أقل في الهرمية المذهبية الشيعية من "آية الله" وقد تم اعلانه "آية الله" في خطوة سياسية بحتة حتى يتصدى لقيادة الجمهورية الاسلامية بعد وفاة الخميني. ولكنه لم يكن ولم يحصل يومها على درجة "مرجع تقليد".


خلاصة القول:
النظام الايراني ليس نظاماً سماوياً وقد زاوج بين الشريعة من جهة وبين الديمقراطية (الدينية والمحدودة) من جهة أخرى.

ما نشهده اليوم من صراع والمظاهرات والصدامات التي تحدث في ايران هي ضمن الصراع ذاته بين التيارات الفكرية والاجتماعية المختلفة المكونة للنظام الايراني ويمكن الى حد كبير (ودون اغفال المحركات الاجتماعية والاقتصادية الخاصة لإيران) رؤية الصراع الحالي وبعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة هناك على انه استمرار للنقاش الذي كان دائراً ليس فقط بين "اصلاحيين" ومحافظين"، والتي هي برأيي تسميات لا تفصح عن الكثير في الصراع القائم، وانما بين التيار الشعبوي الذي يمثله الرئيس الايراني الحالي أحمدي نجاد بدعم من الحرس الثوري والمليشيات الشعبية (الباسيج) وفقراء المدن الكبرى والأرياف من جهة وبين التيار الديمقراطي والذي لا ينقلب على "ولاية الفقيه" أو على الجمهورية الاسلامية وانما يعطي لهذه المصطلحات تفسيرات أكثر "ديمقرطية"، مع عدم اغفال البعد الأجنبي والذي يحاول الإصطياد في المياه العكرة لما بعد الانتخابات الرئاسية.

وكلمة أخيرة: من يتابع الفضائيات العربية وخصوصاً تلك الممولة من النفط السعودي والخليجي يعتقد أن النقطة الباقية في الشرق الأوسط والتي لم تصل اليها رياح الديمقراطية والتي يرزح شعبها تحت حكم دكتاتوري هي "ايران"، فالحكم في السعودية ودول الخليج مثال في "الديمقراطية والحرية". الهوس الذي تتعامل به هذه المحطات مع الحراك السياسي داخل ايران يثير الضحك والاشمئزاز في آن.

النظام السياسي في ايران هو بعيد كل البعد من أن يكون نظام مثالي أو حتى أقل من ذلك، ولكن به حراك سياسي حقيقي وبه شيء من الديمقراطية قطعاً أكثر من كل الدول العربية قاطبة. والتجربة الايرانية بمزاوجة مذهب اسلامي مع أفكار ثورية من جهة ومع شيء من الديمقراطية المحدودة ومع الكرامة القومية التي تنقص الأغلبية المطلقة من النخب الحاكمة في العالم العربي، هي بالفعل تجربة تستحق الدراسة والمعرفة.

(انتهى)









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هكذا دخلت شرطة نيويورك قاعة هاميلتون بجامعة كولومبيا حيث يت


.. وزير الدفاع الأمريكي يقول إن واشنطن ستعارض اقتحام رفح دون خط




.. وقفات احتجاجية في جامعات الكويت للتضامن مع غزة


.. وزير الخارجية الأمريكي: إسرائيل قدمت مقترحات قوية والكرة الآ




.. الجيش الإسرائيلي ينشر مشاهد قال إنها لتجهيز فرقتين للقتال في