الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من دفاتر المنفى ... عربانة النواب 5 من 5

جمعة الحلفي

2004 / 5 / 19
الادب والفن


... إذن هكذا انتقلتُ من مشجع لفرقة "أوروك" التي أنشئت على عجل، عندما بدأ النواب بكتابة نص مسرحية العربانة، الى ممثل لأحد الأدوار الرئيسية في المسرحية! طبعا لم يسألني أحد كيف تجرأت، أو كيف شعرت وأنا اعتلي خشبة المسرح أول مرة، لأمثل دوراً رئيسياً في مسرحية سيحضر لمشاهدتها، فيما بعد، المئات من المشاهدين وتُكتب عنها عشرات المقالات، مع أنني كنت مواطناً سكونياً لا تربطه بالمسرح أية صلة، بل أن أحداً لم ينصحني ، في تلك الأيام، كيف يجب أن أتحدث عن دوري في المسرحية أمام كاميرات التلفزيون، التي تقاطر مرا سلوها على مسرح الحمراء، عشية العرض، وهم يسألونني، بكل جدية، عن تجربتي ورؤيتي لمستقبل المسرح العربي!! لكنني أذكر شيئاً واحداً، أنني كنت حينها أسجل ما يشبه اليوميات في دفتر شخصي، ومنه أقتطع هذه الأوراق:

الورقة الأولى

((...مساء الخميس كان رجالياً كئيباً ، فقد انقضى في جلسة عمل، مع مظفر النواب وباسم قهار وهوشنك الوزيري، حول كيفية تدبير التمويل، لكن قبل ذلك كان وقتي مليئاً بالتمرينات المسرحية الممتعة، حركة، ركض، انحناء، تنفس على الطريقة البوذية .. أعطتنا رائفة أحمد إحدى الممثلات السوريات معنا، تمرينات مدهشة في الضحك… لم أكن أتصور يوماً أن المرء يمكن أن يتمرن على الضحك، خاصة بالنسبة لنا نحن العراقيين الممتلئين حزناً وكرباً. كنا نتمدد على خشبة المسرح ونبدأ بالضحك شيئاً فشيئاً… أول الأمر يبدو الضحك مصطنعاً وخالياً من البهجة، لكن بعد قليل تفقس معنا، كما يقول السوريون، فيصبح الضحك المصطنع ضحكاً حقيقياً، نضحك ونضحك دون سبب محدد أو لسبب تافه أحيانا.. هكذا يبدأ التمرين، لكنه ينتهي بمشهد هستيري الى درجة أن رائفة تظل تصرخ بنا كي نتوقف عن الضحك!
شيئاً فشيئاً صرتُ اكتشف متعة المسرح، إنها متعة لا تضاهى.. كتابة إبداعية من نوع آخر،.. كتابة بالجسد والحواس على صفحة الهواء، تجربة فريدة لا أدري الى أين ستوصلني.. لقد تخلصت من الكثير من الشوائب الشخصية، الاجتماعية والنفسية، كالخجل والتردد والخشية من مواجهة الآخرين.. أصبحت أكثر وضوحاً وكأنني اغتسل كل يوم في مياه مقدسة.. لقد كنت ثقيلاً بعض الشيء هذا اليوم وهو ما يتطلب المزيد من التمرين.. المزيد من الدخول في تفاصيل الحركة والتقنية والمواجهة… بوسعي أن أصل الى آخر نقطة (هكذا أشعر الآن) لكن كيف ومتى.. لا ادري!))

الورقة الثانية
((مساء السبت .. عدنا من التمرينات إلى بيت النواب فقد كان دعانا لسهرة يقرأ فيها لنا آخر ما كتب من فصول المسرحية، استمعنا أليه باهتمام لكننا صدمنا لأنه لم يأخذ باقتراحاتنا حول تقريب النص من الواقع العراقي السائد.. دارت مناقشات حامية ختمها مظفر بأنه لا يقبل أي تغيير على النص. عدت إلى البيت أشبه بالمهزوم في معركة، من جراء تعب التمرينات والمناقشات.))

الورقة الثالثة
((مساء الأحد.. فوجئنا بمظفر وقد سبقنا إلى المسرح، كان يرسم على خشب العربانة نقوشاً شعبية، أهّلة.. وجوه نساء جنوبيات..حلي وأساور ملونة بالأصفر والأزرق والأحمر، حتى بدت لنا تلك العربانة مثل صندوق العرس.. كان مشهد مظفر وهو يرسم على خشب تلك العربانة العجيبة والعتيقة، مثيراً للإعجاب، فقد كان أكثر الجميع اهتماماً.. فهو صاحب النص وهو من جلب لنا التبرعات للعمل من أصدقاء له في ليبيا ولندن، بعد أن فشلنا في الحصول على شيء يعتد به من أحزاب المعارضة، فالجميع كان يسبقنا في الشكوى، ولهذا كانت الحصيلة بائسة، ألفي ليرة من هذا الحزب وثلاثة آلاف من ذاك.. عجيب أمر أحزابنا العتيدة هذه..
احتفلنا هذه الليلة في بيت النواب، القريب من المنتدى، فغداً نبدأ بعرض المسرحية على مسرح الحمراء الكبير والمهيب..كان هناك معظم الممثلين والممثلات.. فاروق صبري، رائفة أحمد، حنان شقير، صلاح هادي، شكر خلخال، ريما حرب، موسى الخافور، إبراهيم الطاهر، إضافة إلى قهار والوزيري. كانت وجوه الجميع فرحة ومسرورة ومتعبة أيضا فقد خضنا التجربة بنجاح لكن بقي الأهم وهو أن نقدم ما تعبنا من أجله كل هذه الأشهر، بطريقة لائقة بجهدنا وبتاريخ المسرح العراقي..أقول هذا وأنا لا أزال غير مصدق أنني صرت ممثلاً.. هل سأواصل هذه المغامرة ؟ هل سأمثل في مسرحية أخرى إذا ما عرض علي ذلك.. أم سأكون مسرحياً لمرة واحدة؟ ))

الورقة الأخيرة
((..لم أتمكن، يوم أمس، من تسجيل شيء فقد كان يوماً مدهشاً، صاخباً، مسكراً حتى الثمالة.. لقد نجحت العربانة أخيراً، هكذا في لحظة واحدة.. لحظة النجاح نسينا تعب ستة اشهر كاملة.. نسينا خلافاتنا ومشاحناتنا اليومية، نسينا الأخطاء الصغيرة التي وقعنا فيها أثناء العرض، نسينا كل شيء حتى ذلك الخوف الذي كان يعشعش في قلوبنا جميعاً قبل ساعات من بدء المسرحية، ولم نشعر سوى بتلك اللحظة المهيبة، التي خرجنا فيها نحيي الجمهور وهو يصفق لنا وقوفاً.
في الكواليس كان باسم قهار أول من جاء لتهنئتنا فتعانقاً وبكينا معاً.. جاء أصدقاء ومشاهدون كثيرون لا نعرفهم، حتى امتلأت كواليس المسرح بالمهنئين.. ثم جاء مظفر، بهدوئه المعتاد وابتسامة رضا واضحة ترتسم على وجهه.. دخل عليً وأنا أغيّر ملابسي وأمسح عن وجهي طلاء الفون الذي يضعه الممثلون كأساس للماكياج.. قال لي مازحاً: لا أصدق انك لم تمثل على خشبة المسرح من قبل.. وأضاف بمرح: سنحتفل الليلة، أجمع الشباب وألحقونا. انحشرنا في مطعم صغير في ساحة عرنوس بالصالحية، قدموا لنا النبيذ والبيرة فشربنا نخب العربانة، تلك المدرعة الخشبية التي سحلتها من سوق ساروجه حتى مسرح الحمراء، فحولها مظفر النواب، برسومه الملونة، إلى ما يشبه صندوق العرس. كنا أشبه بجوقة أطفال في رحلة مدرسية، نهنئ بعضنا بعضاً ونتعانق لأتفه الأسباب.. نسخر من الأخطاء التي وقعنا بها.. نعيد تمثيل بعض المشاهد بطريقة كاريكاتيرية، نمزح مع حنان شقير ورائفة احمد وكيف كن يلفظن اللهجة العراقية بلكنة سورية.. مضى الوقت سريعا ولم ننتبه حتى نهض مظفر فنبهنا إلى أن هذه الليلة هي الأولى وعلينا أن نستعد لأسبوع أو لعشرة أيام من العروض المتواصلة.. ثم ختم السهرة بكلمة قصيرة ومؤثرة قال فيها ما معناه أن نجاح العربانة لا يعود لأحد بعينه بل لهذه الجوقة..من العراقيين والسوريين، ممثلين وشعراء وصحفيين وباعة متجولين وصعاليك، لأنهم قدموا مثالاً في الإصرار على إنجاز عمل إبداعي دامت تمريناته كل هذه الأشهر من دون أن ينتظروا منه شيئا أو ربحاً سوى هذه اللحظات من البهجة والشعور بالنجاح…. )).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي