الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نفاق

خليل الشيخة
كاتب وقاص وناقد

(Kalil Chikha)

2009 / 9 / 2
الادب والفن


دلقت المرأة سطل الماء في طشت الغسيل وشرعت تدلك الثياب، بينما جلس الرجل قبالتها ينفث من سيجارة المالبورو الطويلة ويراقب فقاعات الصابون المتشكلة على سطح ماء الوعاء.
- يا أختي.. هل هناك مخلوق واحد على الأرض في هذا الزمن ليس عنده غسّالة كهربائية.. مازلت تغسلين بيديك وكأنكِ تعيشين في العصر الحجري. قال الرجل الجالس.‏

‏ومن دون النظر إليه ردت المرأة :‏
- لا تلزمني الغسالة.. أمي غسلت هكذا وجدتي أيضاً وعشنا سعداء دون غسالات.. لقد عودتم نسوانكم على البطر والكسل..كلهم ثوبان فلماذا الغسّالة!‏
- يا أختي.. الله منعم عليك .. ما شاء الله.. تقبضين معاش زوجك التقاعدي رحمه الله، ولك القدرة على شراء الغسّالة.‏
- قلت لك لا أريد غسّالة.. فهمت.‏
التفت إلى كيس بجانبه وأخرج منه قطعة حلوى:‏
- تفضلي يا أختي.. هذه البسبوسة طازجة عملتها زوجتي فوزية اليوم.. أحضرتها لك لأني أعرف محبتك للبسبوسة والحلويات.. خذي هذه القطعة.‏
- اترك الكيس هنا.. ألا ترى أني أغسل الآن ولا أستطيع الأكل.‏
رن الهاتف الجوّال المعلق على خصر الرجل فتناوله:‏
- آلو.. من.. فوزية.. ماذا تريدين.. دواء.. والله صح.. كيف نسيت.. الولد حرارته مرتفعه.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. كيف هو الآن. والله يا فوزية ليس معي قرش واحد.‏
أغلق الهاتف ورمى بعقب السيجارة بعيداً ثم أشعل واحدة أخرى وأخذ يسحب منها نفساً طويلاً وبدا عليه الارتباك والحيرة وقام قليلاً ثم تجول أمام المرأة وهو تائه في ثعابين الدخان المتطايرة التي تخرج من فمه حتى توقفت عن عملها ورفعت رأسها سائلة:‏
- ماذا جرى يا أخي.. إنشاء الله خير.. من المريض؟‏
- لا أريد أن أشغلك يا أختي بأموري العائلية.. أنت لديك همومك وزيادة.. لكن ماذا أقول.. والله أحب لي أحياناً أن أموت وأتخلص من أعباء هذه الحياة.. فلان مرض وعلتان جاع.. وأنا قد ابتليت بالضغط والسكري.. لا أستطيع العمل.. الطبيب قال لي ذلك.. أنظر بعيني ولا أستطيع إنقاذ أحد.. ابني يا أختي..‏
توقف عن الكلام ثم شهق وغطى وجهه بيديه وكأنه يبكي. فتبعته المرأة وربتت على كتفه وقالت وقد تأثر صوتها بالموقف المأساوي الذي يعيشه الرجل:‏
- الناس كلهم يعملون.. ومعهم الضغط والسكري.. لو قعد كل من معه سكري أو ضغط في البلد لوجدت ثلاث أرباع البلد قاعدة بلا عمل وفاتحة أفواهها تنتظر من يعطيها لقمة.‏
- ماذا يفعل الإنسان عندما يشاهد ابنه وفلذة كبده مريضاً عليلاً وهو لا يستطيع إنقاذه أو معونته – وأخرج من جيبه ورقة ولوح بها – هذه وصفة الدواء التي كتبها الدكتور لابني، لكن من أين أشتري ومن أين آتى بالمال؟ نظرت المرأة إلى وجهه وقد تهدلت ملامحها لما سمعت ودار في داخلها مشاعر من التعاطف والريبة حسمتها بتساؤل واستفسار:‏
- اسمع.. يا أخي.. أخشى أنك تمثل علي تمثيلاً كما فعلت في مرة سابقة وادعيت أن ابنك سعيد كسر جنزير الدبابة في الجيش وطالبوه بإصلاحه ثم وضعوه في السجن.. وأتيت إلي تبكي وتلطم.. ألا تذكر.. كانت كلها تمثيل بتمثيل ثم اشتريت لاقط دجيتل للتفرج على القنوات الأجنبية أنت وامرأتك بعد أن أخذت النقود مني.‏
- لعنة الله على ابني سعيد.. هو الذي كذب علينا ولا ذنب لي في ذلك.. أنا يا أختي لا أريد منك شيئاً.. الله يعطي جميع العباد – ووضع يديه على وجهه حزناً – لو مرض أحد أولادك ألست مستعدة لتقديم حياتك من أجله؟.. الأولاد يا أختي أكباد تمشي على الأرض كما يقول المثل. وكور ظهره وهدل ذراعيه دليل الحزن ثم صاح بصوت مأساوي: - وداعاً.. خاطرك يا أختي..‏
تبعته الأخت وقد انصب نظرها على الحدبة المصطنعة وخطواته البطيئة الضيقة فبدأ داخلها بالتصدع وعدم السيطرة مما أتاح لمشاعر الحب والحنو أن تفيض وتفور فخرج صوتها وكأنه صوت كائن آخر:‏
- أخي توقف.. لا أريدك أن تحزن.. أنت ما تبقى لي من رائحة أهلي.. كم ثمن الدواء؟‏
فرد وهو مازال يسحب نفسه: - لا أريد شيئاً.. أريد أن يأخذني الله ويخلصني من هذه الحياة.‏
فشدته المرأة من كتفه لتوقفه: - قل لي كم ثمن الدواء؟‏
- هذا دواء أجنبي.. هو غالي جداً.. لا أريد منك شيئاً.‏
- كم هو سعره؟‏
- غالي جدا يا أختي.. غالي.. ثمنه ألفي ليرة. أرجعته إلى كرسيه وأجلسته ثم اتجهت إلى خزانتها العتيقة ورفعت ثوبها وآثار الماء مازالت عالقة عليه من طشت الغسيل، ثم أخذت تبحث عن المفتاح ضمن ثنايا أثوابها الداخلية في غاية السرية وكأنها تخفي في الخزانة العتيقة أسلحة دمار شامل. فتحتها وتناولت النقود ثم رجعت إلى الأخ الذي مازال مطرقاً رأسه في الأرض ومدت يدها بالنقود إليه فلم يتأثر باليد الممدودة فصاحت به: - خذ وخلصني من أحزانك.. أنت أخي ولا أريد أن أراك حزيناً.. كئيباً.‏
فتناول النقود ونهض متجهاً إلى الباب. فقالت المرأة مواسية:‏
- ابق وتغدى معي يا أخي!‏
- والله أريد أن آتي بالدواء على جناح السرعة قبل أن نخسر الولد.‏
وبعد أن غادر وأصبح في الشارع، رن الهاتف الجوّال مرة أخرى فوضعه على أذنه:‏
- من.. فوزية.. أهلاً.. كيف حالك.. ماذا تريدين.. لحمة للكباب.. سجق ونقانق.. موالح.. قهوة.. شاي..أي شيء آخر.. حذاء للصغير. سآتي بكل ذلك.. كلامك أوامر يا فوزية.‏
وبعد أن ذهب إلى السوق واشترى كل ما طلب منه اتجه إلى البيت حاملاً الأكياس الثقيلة المليئة بالطعام والشراب فاستقبلته زوجته تساعده في حمل المؤونة وترتيبها في البراد. ودخل الغرفة ليرى ابنه المريض يضع أمامه إبريق شاي كبير بحجم الطنجرة يرشف من الكوب ببطء ويغني المواويل، فصرخ الأب من بعيد منطرباً:‏
- آه يا عين ما هذا الصوت الرخيم .. الله لا يحرمني منك يا ابني.‏
فتوقف الولد عن الغناء ثم سأل أباه:‏
- لقد وعدتني بأن تشتري لي تلفون جوّال.. متى ستوفي بوعدك يا أبي؟‏
فرد الرجل مبتسماً:‏
- سأذهب غداً إلى خالتي كرجيّة وأحاول معها، ربما تحن علي وتعطيني ثمن الهاتف.. لا تقلق.‏









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القبض على الفنان عباس أبو الحسن بسبب دهس سيدتين


.. كرنفال الثقافات في برلين ينبض بالحياة والألوان والموسيقى وال




.. هنا صدم الفنان عباس ا?بو الحسن سيدتين بسيارته في الشيخ زايد


.. إيران تجري تحقيقا في تحطم المروحية.. وتركيا تتحدث عن رواية ج




.. ضبط الفنان عباس أبو الحسن بعد اصطدام سيارته بسيدتين في الشيخ