الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبد الغني الملاح يستردّ للمتنبي أباه !..

رباح آل جعفر

2009 / 9 / 2
الادب والفن


أعرف المثل العربي القائل : ( إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه ) .. وأعرف أن هذا المثل يكاد ينطبق بالتمام على أديبنا الكبير الراحل الأستاذ عبد الغني الملاح ، الذي قيل فيه كلام كثير .. بعضه تميّز بالعدل والإنصاف ، وأعطى ما لله لله وما لقيصر لقيصر، وبعضه الآخر تميّز بالظلم والإجحاف ، ولم يعط شيئاً لا لله ولا لقيصر!.
فهذا الملاح الذي بدأ الرحلة من الموصل سنة 1920 وتخرّج في مدارسها، وأشار إلى عبقريته مفكرون عرب كبار في مصر والمغرب وبلاد الشام، وعزّز فلسفته بمعادلات الفيزياء، وأنثروبولوجيا الإنسان، وكانت الجدلية الرياضية أساساً لبلورة آرائه في التاريخ والحياة .. هو الملاح الذي لم يأخذ حقه في بلده، وأخذه من هو دون منزلته في الثقافة ، ودون منزلته في الأكاديمية ، وأهملت دار الشؤون الثقافية طبع كتبه، بل وأهملته الدولة العراقية منذ تأسيسها ، وبدلاً من أن تطرّز صدره بالنياشين ، فإنها أعطته أذناً من طين وأذناً من عجين ، وكانت تلك مفارقة مضحكة ، وكان يريد أن يطلق صرخة احتجاج من أعماقه ، لكن لا حياة لمن تنادي !.
وهذا الملاح الذي شرع يكتب القصة منذ سنة 1938 وينظم الشعر منذ سنة 1940، وكان (مجد الزهور) أول كتاب يخرج من أنامله سنة 1949، حتى بلغت كتبه المطبوعة (17) كتاباً ، وكان يقول لي : إنه يؤلف كتبه ويصوغ كلماتها حواراً بين عاشق ومعشوق ، لا حواراً بين الطرشان ، ويوظف عقله وقلمه لتكريس المنهج الديمقراطي في الأدب والفكر... هو الملاح قارئ التاريخ الدؤوب ، من الطراز الذي لا يرثي ولا يمتدح، فأبديت احتراماً نحوه وأحببته ، وأذكر انه قال لي يوماً ، وكنت أجلس بجانبه وهو طريح فراش أقعده المرض: إن اشدّ ما يخشاه بعد رحيله عن هذه الدنيا، أن تمتدّ يد آثمة نحو قبره فتخلع شاهدته وتلصقها بقبر آخر غير قبره !.
هو الملاح الذي صحبته أياماً ودنوت منه وتابعته وتأملته ، مثلما يتأمل العطشان لقيان الماء العذب ، فلم أر منه ولا فيه إلا ما يؤيد أن الذهب يبقى ذهباً ، ووجدت أن رأسه ظلّ شامخاً ، لم ينحرف لحظة عن صراط الوطن المستقيم ، وعرفت منه أنه اعتقل وسجن أربع مرات في العهد الملكي ، ووجدته يدرس الفلسفة بالحماسة التي يدرس فيها الأدب ودواوين الشعراء ، ويقرأ الجبر والمثلثات ، بالحماسة التي يقرأ فيها كتب علم النفس ، ويقرأ تراجم المفكرين والأدباء بالحماسة التي يقرأ فيها علوم الكيمياء.
وأشهد أنني كنت استمتع دائماً بكل لقاء يجمعني بالأستاذ عبد الغني الملاح ، وهو يركب أجنحة النسور بخيال أديب ملهم يحلّق في السماء ويحاول أن يقطف نجومها بكلتا يديه ، وكنّا نتبادل الآراء والأفكار ، أديب وصحفي كلاهما له رأيه ، وبالرغم من أننا اختلفنا في بعض القضايا ، فإنني لم أشعر أننا اختلفنا ، وكان الملاح يفخر في كل مرة ، أنه استطاع أن يستردّ للمتنبي أباه بعد أن ضاع دمه بين القبائل والأفخاذ والأطراف والأجنحة والبطون ، ولقد حظي كتابه ( المتنبي يستردّ أباه ) بشهرة واسعة في المستشرقين والعرب ، وكذلك فجّر كتابه ( رحلة في ألف ليلة وليلة ) جدلاً مثمراً في نقد التراث .. وإذا كان في حلول المصائب يرهف الإحساس ، فمن الحق أن يقال إن الملاح كان مثل الشاعر الفرنسي ( دي موسيه ) ، كلاهما أعطى أمتع إنتاجه وهو مريض .
في الأيام الأخيرة من حياته غامت الدنيا في عينيه وتكاثفت الغيوم واسودّت ، ولم يقدر على بلع ريقه ، وكان صدره يضيق أحيانا ، ولم يكن صبره قادراً على الاحتمال ، فقد طفح الألم ، وشطّ القلم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وكنت أزوره بين الحين والآخر في منزله ، فأسمعه يردّد شعراً من المقامة البغدادية للحريري بخاطر منكسر حزين وصوت خجول ، قائلاً: ( أشكو إلى الله اشتكاء المريض... ريب الزمان المتعدّي البغيض ) ، ثم يجيش بالبكاء وهو يكمل البيت الثاني ، بقوله : ( يا قوم إني من أناس غنّوا... دهراً وجفن الدهر عنهم غضيض )، وكنت أسمعه دائم الاستشهاد بثلاث كلمات يحفظها عن فيلسوف إغريقي ، تقول: ( ولدت، فتعذبت، فمت ) ، وكانت في أحاديثنا لمسة من المرارة ، وسواها من الكلمات فإنها لم تلامس شفاهنا غير مرة أو مرتين، وكان ينام نومة المهموم ، وقد أصابه الوهن وفتك به المرض ، وهو يعرف إن هذه المعاناة لا تعالجها الأدعية وكتابة الرقى والتعاويذ ، وكان مجروحاً من قمة رأسه إلى أخمص قدمه بجراحٍ لم يبرأ منها قط حتى وفاته .
كان الملاح يعيش نوعاً من حياة الملل ، ويشعر أن اليوم مثل الغد ، وأن الغد كبعد الغد ، وكان يعتقد أن النوم هو الوسيلة الوحيدة للهروب من هذا الملل ، وقد أدرك جفاف الحياة وعقمها ، ولعلّ الحقيقة النهائية تبقى مع الأسف ، وهي أن أستاذنا عبد الغني الملاح وصل في آخر عمره، إلى أن أصبح هيكلاً عظمياً يُدار بيد إبنته، وهو قابع في فراش المرض وحيداً وتلفّ جسده يقظة الموت ، ويبحث عن العافية والأصدقاء ، ولا يعثر للاثنين على اثر!.
وإذا كان أصعب شيئ في الدنيا هو التفاهم مع الناس أو التفاهم بين الناس ، فلعلّ المريض هو وحده القادر على أن يرى الناس بوضوح لأنه بعيد عنهم... وفي الأيام الأخيرة استطاع الملاح أن يحوّل عزلته إلى فضيلة مبتعداً عن الناس ، خصوصاً وان الرياء كان ولا يزال هو العملة السائدة ، وظل طوال الثمانين سنة من حياته مثل سيزيف يحمل صخرته على رأسه ، ويريد أن يصعد بها إلى رأس الجبل .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو


.. في عيد ميلاد عادل إمام الـ 84 فيلم -زهايمر- يعود إلى دور الس




.. مفاجآت في محاكمة ترمب بقضية شراء صمت الممثلة السابقة ستورمي