الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تفتح النص الأزلي في جوهر الفكر

رحاب حسين الصائغ

2009 / 9 / 2
الادب والفن



شيركو بيكه س ومضيق الفراشات
دعوني أرتب وجه الليل وأرسم خفقات التأمل على نواة فكري التي تسبح في فضاء (مضيق الفراشات / القصيدة الطويلة، المتكونة من (151 ) صفحة للشاعر شيركوبيكه س)، وما تفشى من دقة سنابل الشعر المعاصر عند شاعر كوردي ممشوق الاسلوب في الشعر، ولغته المتدقفة بضياء يلامس وجه التاريخ الجديد لكورد ستان العراق، ممتزجاً بتاريخها العميق في محاربة الظلم الملتحم بكل معاني الحياة، شاعر لن يشيخ في ذاتيته الابداعية، يسابق الأسلاف والزمان في حبه حد التقديس، تتنفس قصائده الشعرية روح انسانية في صورة الواقع، والحلم يتسامى بلهب وهاج، لا عقم ولا يأس عند شيركوبيكه س، شاعر لغته لها نوع الازل، عشقه متصاعد في عصر مشتبك مع استحضارات مبنية على الاقتران المتداخل يصاحبه تأسيس في طبقات فنية لرؤياه المتحررة من القبلي في مغايرة ليس مالوفة لواقع صادق، لغته الأم التي تغذى على حليبها واستنشق حنانها أنبتته مخلص لها حد استنطاق المفردة وعطر سماء كلماته يزهو كقطرات المطر ونسيم الغدير، مفكراً بالتأصيل للتاريخ الكوردي بين ضلوع عالمه المتفهم بكل دقة نغمات الالم والعذاب والمعاناة التي اصابت شعبه وخلية نحله وارض امته، تاركاً كل تجاعيد الزمن بنفي تلك التشوهات، يبصر بعين كاهن رونق ألوانة الامعة والمصقولة بالحب الممتزج بالحياة، رسول خرق متخيل العامة، لذا لا بد أن يلقب بشاعر " الأزل " في قديمه وحاضره، متمعن بكل عمق في الماضي العتيد بروح متحضرة شاهقة في ملامسة واقعه الصخب.
الشاعر شيركوبيكه س، وقصيدته مضيق الفراشات، لها خطاب شعري متميز يعمل خارج حدود القبيلة والتحجيم، منقحا أرواق البشر والجماد والنبات، متفحصاً ثغر الجذور غاصاً في اعماق مجهولها، مفتتاً دقائق أصغر ذرات مكوناتها بعملية كيميائية معينة متعلقة بأجواء الكائن الكوردي وما يرافقه من مسميات ومعاني أوجدت معاناته وعذاباته على كوكب الأرض، يغربل خصائص الانسان بادراك عالي، اذ نراه مشاركاً كائنات الكون وخصائل ووظائفها، من المطر والغربة والجبل الى العيون والزهور والانسان والاعلام والتاريخ، في أول القصيدة، حيث يقول:
تكتب الازهار المطر قطرة فقطرة ص (19)
وعيني تكتبك دمعة فدمعة
أيُّ عالم طافح بالغربة هذا وايُّ الم معطاء
يفتتان أحجار جبل رأسي هكذا.
الشاعر يوضح لنا شيء فيما تقدم المطر دوافع الحياة (السقي) انها تقدم للأزهار الحياة، اما هو يقدم لعيونها دموعه، وما ذنبه اذا كان العالم طافح بالغربة وكثير من الالم، شيركو مسلح بالفطنة لا يقبل الانزلاق في العبودية، شمولي كفراشاته لا يمل الحركة أو الطيران بألوانه الرائعة، ولكن الذي يشعرهُ أنَّ هناك أمور تصل حد لا يقبل السكوت عنها، والهموم في قمة راسه تفتت كل سيء موجود ومعاش، يعطينا صورة في اللا محدود من القضية، فيقول:
في غمرات هذا اليوم ص (20)
وكعشق " برايموك "
يأخذان بيدي اليك
سهباً بسهب وجبلاً بجبل
شيركو بيكه س، يعلم جيداً أنه ليس فقط من تعرض لهذا الألم، هناك مثله الشعب رأسهم محمل كالجبل بالهموم، وعشق الارض حب لا ينتهي يسري في القلوب يغلف دم الشرايين، وقوله ( هذا اليوم) يعني انه راسخ في داخلهم لم يزلزله شيء هذا الحلم مهما حدث إن كان سابقاً أو آنياً، كلماته كحباة الؤلؤة ينثرها على جيد الحياة، حيث يقول:
انه نوح الاعاصير وعزاء الازهار ص ( 21)
وأنا أعد العدة
العدة: من فرسي ذي الجمجمة الملتهبة
حينما ينبت الألم على الحجر
الشاعر يعود (للحجر) مستخرجاً مؤثرات الماضي الموجودة في رأس شعبه، تشبيه الجمجمة بالحجر، يعني بها ان الانسان الكوردي متعصب لفكره، متمسك بصلابة في قضيته رغم وجود الاعاصير لا يتزعزع، وقوله: (ربما يكون هناك عزاء للازهار)، ويقصد الجيل الجديد، هذا الشعب لم يسكت، يعد العدة، يعطينا صورة رائعة لبياض الرغبة ببصيرة شاعر مملوء بالدهشة، حينما ينبت الألم، كونه قادر على اتمصاص الحلم وبث الروح فيها بدافع أعمق، كقوله:
أوقدوا لي جرحاً في قمة "ككون" . " حاجي " ص ( 22)
فليكن رأس قصيدة مقطوع
أونهد "وسانان "
أم قامة " حلبجة "
بعد آذان جروحكم أصل
شيركو، يعلم للنار جمر، وللخشب طقطقة حين يحترق، بكبرياء وعنوة الجبل الشامخ يطالب بحرق الجرح وعلى قمة ككون كي تكون شاهداً لما تحمل الارض من بصمات لن ينساها التاريخ وفواجع هي الشاهد، كالقصف الكيمياوي عام 1988 واسفر عن ذلك موت أكثر من خمسة الاف شخص، تاركاً جسده الصخري كنجم في حضن السماء المشتبكة مع العالم في التطلع لحقوقه المسلوبة، وحين يذكر حلبجة تلك المدينة التي تسابق الغدر على الفتك بها، لا يكمن ان تمحى ذكرى مأساتها من تاريخ الطغاة الاسود، حيث يقول:
كم هي خضراء آلام مرج الغربة هذا ص (27)
كم هو طري وليل
العذاب المزهر لتاريخ وطن الحسرات هذا
انظر ايها الشاب
كم هي سامقة، وردية،عالية
ذرى الآهات في صدر أصلنا!
الشاعرهنا يقدم صورة فنية بارعة التعبير، كي يثبت للجيل المولود من جذور هذه الازمة التي يصفها بالالم الاخضر ويعني ما يقول لأنها جرح اخضر ومرجه الغربة المعاشة، وعذاب مستمر وحسرات لا تنتهي، تعبير يشكل الهوية التي تنهض باعباء الحاجة تجاه الحلم، حلم المستقبل، ماذا يمكن ان يقال في ابداع بمثل هذه الصورة الرائعة، تشكيل جمالي خالي من الترهل وعطاء في توصيل الافكار لمجتمعه، وجميل حين يقول" كم هي سامقة، وردية، عالية " صورة تحمل التجدد في التذكر وتزكية الالم في نفس اللحظة التي تمر بذاكرة الفرد مما تدفعه للتخلص من قيود الجمود او التفكير بالفشل، للذاكرة الوان تدفع الى التجدد بالرغبة بالحياة بالاعمل من اجل ازالة وخلع القيد من معصمها، ثم يقول:
النابت فوق الحجر المحفور ص (29)
سدة لدموع شاطئ " زلم "
واغنية لثلج مشتعل من " سنوري "
راس موجة هيامة حصان اشهب
هدوءه: تخبط
صهيله: سكون
بعاده: فرب
الشاعر شيركو، لا ينفك في قصيدته من ذكر الحقيقة التي حفرت في رؤوس هذا الشعب وذكر الاماكن التي اتت بالارتقاء المألوف في حياتهم " زلم " عين ماء في حلبجة، ومن أجمل المناطق السياحية، حتى هذه لم تخلص من الاعتداء والظلم و "الجبل سنروي " ايضا لم يسلم، الشاعر حين وصم عنوان قصيدته بمضيق هو يعني ان ما اوجده ظلم الطغاة كان اشبه بمضيق صعب الخروج منه ولكن حين قال، " الفراشات " اوجد منبر للخروج من الوضع لأنَّ الفراشات تملك روح شفافة معنية بالمكان الواسع والفسيح، والعنوان يقدم صورتين ممتزتين بالمعنى المتضاد، فيه السوداوية والنقاء الناصع، الضيق وقسوة اللحظة، والتحرر والذي يحمل نوع من التمرد الذكي، خرج بتركيبات جميلة، وانماء بالغ الاهمية في وعاء العمل الدرامي من اجل التعريف بما حدث وبما لا يمكن ان يستمر من عنف وطغيان، شيركو يعلم مسوغات التأثير الوجداني في ترتيب فائق الجمالية للعبارة الشعرية، وجر وسائل ابداعه الى قائمة الواقع وعلى ساحة حدث ملغومة عمل على تفجيرها بشكل اسلم واكثر ايجابية، نراه يقول:
( ثلاث مقولات مقدسة في مفكرة ص (33)
ل " مولانا " لم يراها أحد)
الاولى:
رموا بعاشق في النار
لكنه استمر يعزف قيثارة الحب
باوتار اللهب
لحين وصلت روحه الطاهرة السماء
وقلبه الله
(مولانا امام الطريقة انقشبندبة في كوردستان) كم بالغ الوصف هنا، حيث رميّ العاشق في النار، يتحول الى عزف في قيثارة الحب باوتار اللهب، الشاعر تقديمه مقولات مقدسة من مفكرة مولانا، يوحد بين المفعم من المجهول والمعلوم من الذاتية، بلاغة في شكلانية الحكمة، وتحكم في امكانية الشعر ودمج متفوق في كشف الوعي من خلال اعتماده التراث والموروث والصوفية عند روح مولانا وروح العاشق كلاهما زاهدان في حالة الدنيا، وقوله:
( موعظة شعرية غير منشورة " لحاجي " ، ص (27)
اعطاني اياها في حينه جلمود ذو لحية خضراء)
لو لم يكن ساعد هذا الحجر مفتولاً
وقلبه قاسياً
لكانت العاصفة قد اقتلعته الف مرة
واخذته بعيداً
الجلمود قطعة من الحجر الصعبة التفتيت من صخر الجبل، يصفها بذي اللحية الخضراء ويقصد الجمال في الطبيعة بكردستان توحي بالكثير من التفاعل مع الحياة ومنها الطيبة والمتآلفة، وقصد آخر هو الموعظة المتعلقة بالجذور كالصخر ولا يمكن نزعها، والقصد الآخر قضية كورد ستان ستبقى خضراء ومستمرة الى ما لانهاية من اجل المستقبل، شيركو يعمل كماسح الزجاج بمنديل القلب الثابت ايمانه بما يملك من قوة وشجاعة، اذ يقول:
ماذا تفعل عندما يكون الموت ص (41)
جنديا للدولة وانت شجرة اقلام في الجبل
ماذا تفعل عندما يكون مسرحك جمراً؟
ومستمعوك بنادق؟
للشاعر تحليق عبر فجوات تتعدى الاعتيادي من نصه، تبحث في رؤيا اكبر، حيث يشتمل الخيال والحلم والواقع على مسطح العمل الذي يقود للسمو وحلبته المقترنة بالالهام من صميم الحدث والجر الى جمرة الحاضر الذي يدعوا في عدم لغي الامل، فهو يسائل العالم من حوله، ان الذي رزخ تحته هذا الشعب الآمل بالعيش الجميل وبابسط اشكاله، وواجه شيء أكبر منه رغم صبره كان الموت ياتي من قبل الاخر بعدة اشكال واحجام وانواع، ثم يستمر في قوله:
آتي هنا ورياح أحلامي ص (45)
تبذر زمناً
لم تولد أرضه بعد
آتي هنا ورؤياي
تخضر شواطئ المستقبل
لم تولد امطاره بعد
حلمي هذا
شيركو بدأ قصيدته( تكتب الامطار الازهار قطرة فقطرة) واستمر على هذا النحو، وهنا يقول: (آتي ورياح حلمي، تبذر زمنا، لم تولد ارضه بعد) يوجد في سياقاته معادلاً مهم لتصالب اليقظة مع الحلم، لواقع جديد مستمد من الماضي، له فسحات للتنبؤ بما يرغب من تمايز في المستقبل الذي سيخضر على شواطئ الحلم الجميل والمتخيل ادراج مستند على هدهدة الاماني وغرس صرخات تحمل الفرح والتأمل بما يودع من امنيات في مكانها من المسقتبل، ثم يقول:
ايها المثل القديم الحجري ص (47)
يا رقبة نمري المخطط بدمي
والمشتعلة بعشقي:
يا ملحمة الطبيعة الهائجة دوماً
امام غرفتي.
شيركو مؤثر ومتأثر بالمكان لا يبتعد عنها، يصب من عنق زجاجة غبار نهارات زالت ثم يؤكد ان المثل القديم سائر على خطى الحياة له مرجعية تعمل في صنع الاشارة للقادم من الزمن ، يمارس داخله كل عصي من ما هو محجم أو باتت الوانه شاحبة، رافضاً أي كابوس آخر مخنق لحركات الفعل الساعي من اجله الى خلق الخلاص، ويجيب معلناً للجميع لا بد من ادراك الوضع، ان للحياة طبيعة هائجة ومواهب قادرة على التآلف مع من يحبها، وعشق الوطن يهدء من فعلها، وقوله:
وكانت السياسة: ثوراً هائجاً أحمر العنين ص (51)
وقد ربطنا التاريخ براسه وقرنيه.
وصرخات أرنب قصائدنا تضيع في أجمة البنادق
كضياع دمائنا في زحمة الجرائم والانتقام.
كشف الظلم على الصعيد الاجرائي حقيقة ملامحها تتجلى بالوصف البصري معاني الاستمرار تؤرخ وتثبت لواقع ملموس، يذكر شيركو انهم ربطوا بالتاريخ المصنوع من الزيف في بعض مفاصله، ولكن من الجانب المشرق محاور القضية مختلف عن المعاش، في اختزال واضح لمعاناة ضاق بها من يتحسسها عن قرب ومن لم يتحسسها يبسطها الشاعر بطريقة ملفتة للنظر، حيث يقول:
رأيت بأم عيني: الحرية تتدفق من أكتافهم،
رأيت بنفسي: وقد نمت الشقائق في حقول
وطفاوات صدورهم، رأيت بأم عيني!
قد جعل كل منهم روحه باقة، واضعاً أياها
على قربوس سرجه
للشاعر تجليات كثيرة في رؤياه الشعرية، نشاط روحي لرصد وجذب زمن النص ومفرداته التي اوجدها بذكاء ( الحرية، نمت، الشقائق، حقول) ثمة علاقة خفية للتفاعل المسبق يصحبه رونق التجدد في نقطة جوهرية تتبع التطور الخارج من قدرة الشعب على نمطية الطقوس الجديدة في مدار الزمن، الشاعر لم يترك فرصة لملحمته الشعرية التي اكسبها أزلية الوجود، إلاَّ وادخلها بحر التنوع المتجانس بثقة وبراعة خدمت القصيدة من كل جانب، حبك شعره الازلي متمكن متقمصاً الجمال النامي في نفس الرائي للتغيير الحاصل، حيث يقول:
للصفحة الاولى من " بانكي حق " ص (57)
جلست ناولني الحزن، فأخذته، تأملته
انه نفس الصراخ، نفس العذاب الذي
كنا قد ارسلناه اليوم لمذياع هذا الجبل
لكن كلامنا كان مكتوباً بلغة كردية اكثر قصاحة.
التأمل في هذا المقطع من القصيدة يحيلك لفكرة رائعة، لم يسكت هذا الشعب على الجور والظلم الذي اصابه، انه يعمل بكل الاوجه من أجل ايصال صوته، صرخته المخنوقة، وبلغته الكوردية، ان الشاعر شيركو، يقدم دقة في الصورة للجهات المناضلة التي تعمل على تنمية جذور الوعي وتركيب خصائصها في نفوس الشجعان من المقاومين، لديهم لغة العقل والفكر، انها ثورة يوجد في جوانبها التشابك في مناخ العمل، على الرغم من وجود بعض الا سلاف المنشقة، لذا نجد الشاعر يقول:
لكنك بقيت هيبة هذا التاريخ الكثيف ص (59)
جاء موت وذهب آخر
ولكنك بقيت خرير هذا الماء
وصوت لهب هذه النار.
وجدك هذا الماء
صوتك هذا جذر
وعشقك حجر!
تدخل في هذه الصورة الشعرية ارتعاشات موحية بقوة في دفع الإطر الايجابية بالمعنى الحرفي للتدفق المتنامي في التوكيد على معيار طبيعة الفكر المؤسس لزمن الطمأنينة في معرفة التاويل واستمرار الزمن رغم كل شيء في الدفاع عن حقه، فيقول:
حين كان الوطن
وسادة صخر تحت رأس عشقك،
كانت خضرة هذه الدنيا وهدوؤها
قد قمة في صوتك
في قمة البجل تلك.
شيركو يجد التعددية في صلب الدلالة الموضوعية، فهو يقدم صوت الحرية عن طريق التأمل (الوطن واللازمني) يعشقهما في جرأة الساعي ومجاهداً لا حضار الصورة الفنية بمزج أكبر من العشق والهدوء في المتمثل بخضرة الروح الوطنية، فلا بد من الاعلان عن هذا العشق الاول للوطن كي يتم اكتمال الحياة، رؤية صادقة من شاعر يعلن انتمائه للجبل، ثم يقول:
من أقصى الجرح الى أقصاه ص (63)
من أقصى الفجيعة الى اقصاها
أنت لم تقدر أن تعطي بيد " مولوي " الماء
لم تقدر ان تضع الاحذية " لنالي "
لم تقدر ان تعطي " كوران ملعقة دواء"
ثم يعود للتذكر كيف ان الحياة قست في الماضي على رموز من الشعب الكوردي يوم كانوا يملكون روح التجسد في ذلك التاريخ، يدفعون بالتمرد الى ساحات البحث عن طرق الوجود لثورة الشعر والحياة والتزهد من اجل ان يكون وجود الوطن اكثر سمو واكثر خضرة وهدوء وانصاف للبشر في اماكنهم التي فيها ولدوا، وارضهم التي شعث سماؤها بحضورهم ومن اجلهم، صوتهم كان يحاول ابعاد الاحداث السوداء ساعود لتاريخ يخصهم، وارض تعرفهم، حقاً انه شاعر الازل في اظهار الصورة عند الاسلاف، حيث يقول:
( برقية ليست عاجلة.. ولاهي بشعر) ص (64)
باسم حللبجة وخمسة آلاف قمر
باسم مولوي وخمسة آلاف زهرة
باسم كوران وخمسة آلاف حمامة
الى علماء العباقرة في ! بلد بوشكين، بلد
جاك لندن، بلد بايرون، بلد جان دارك،
بلد بسمارك، بلد كاريبالدي، بلد فان كوخ..
بلد.. بلد.. بلد...
انها رسالة تحمل صرخة وكثير من الاعتزاز، مضموناًً يقدمه شيركو بيكه س، ليس على اساس الشكر كما نوه، بل هي رحيل الى العالم، ورسم فصول المرارة التارخية، واشارة تحليلية بنبرة متقاطعة مع الدلالة المبطنة، انها اكتساب مؤثر منحدر من الحدث الغامق للشقاء الذي اصاب كوردستان العراق، انه كمن يقول: (ذكر ان نفعت الذكرى)، ونجده يقول:
لقد جلبت من وراء المستحيل الحلم ص (69)
مراراً
القمر وعناقيد النجوم ل.." خزال " .
لقد صنعت من طين الليالي الحالكة
آجر الشعاع، لمواسم عديدة
وبنيت في الارض المصابة بالعمى من العطش مجدداً
ضياء عينيك
فرضية الجمال تعد عطورها في هذه الصورة الشعرية الدرامية، شيركو متفنن في خلق الصور الجمالية ومركز على الابداع الفكري في الشعر عنده، لذا نجد قوله: (لقد جلبت من وراء المستحيل الحلم)، والحلم يحلق بمرارة، بينما المستحيل يموت مع استمرار المحاولة، لكنه من وراء المستحيل جلب الحلم اي تحايل على المستحيل، يوثق ان حضور الحلم لا يتم بدون الالحاح والاصرار، اذن لابد من وجود الصدق في العمل والمحاولة ( مراراً) التأكيد يحيل الى ضمان النجاح، ثم يقول:
ان اعترضت طريقك العاصفة ص (73)
صِرْ جبلاً
ان استقبلك النسيم
صِرْ بستاناً
" قرات هذا الكلام
في يوميات شجرة البلوط "
يأمر بالتمرد والتنعت والاثبات في المغامرة، ثم يقودنا الى مثل ( شجرة البلوط) وهذه الشجرة ترمز لصلابة الكوردي وشجاعته وشموخه، انها مثله، يسبق قوله في ذكر شجرة البلوط الى الرغبة في الاصرار للمواجهة، لكنه بلغة شفافة وناعمة يسحق تراخي الجسد في المشهد، ليس شيركو اي شاعر ليقول مثل هذا الكلام، ولم يترك لنفسه صفة التميز بما قدم ، بل ذكر ان ذلك من صرح يوميات شجرة البلوط، اذن كم الشاعر ازلي وانساني في مقولته تلك، وكم هو حامل همَّ هذا الشعب، وامله كبير في انجاز ما مطلوب منه باقل وقت واكبر تضحية، الشاعر مستمر في طعن كل ما يعيق، ومستجد في خلق الجديد واخراجه للضوء مع الظاهر من الامور الدافعة للسير نحو الامام، يقول:
عندما يجن العاشق ص ً (74)
يهيم باللشعر.
وعندما يجن الشعر
يهيم بالرب.
انا العاشق وانا الشعر!
" كان هذ الكلام نهر هائم على
وجه خارطة الوطن "
التضاد في حقيقة الحياة يشمل التفاعلية، جنون العاشق وجنون الشعر والانا، اجتماع جميل لألم كبير يهيم في نهر الوطن، مستمراً في مسك محاور الحياة والقضية معاً، بمعرفة كاملة لجوانب حساسة في اخراج معاني روح القصيدة منذ البدء، ينمي أثر كل مجد بالأمل يصاحبه رغبة نقية في حَبْكْ التضاد بعنفوان جميل وامتزاجه بطبيعة كوردستان ذي التضارسي الجبلية الفاتنة السحر، ثم يقول:
منذ الآن فصاعدا انا حلبجة! ص (79)
منذ الآن فصاعدا انا حبات الرمان
ذلك الحزن العظيم.
لون حبات الرمان احمر، وعندما يملك شخص دموع تلك الحبات الحمراء يعني الدم والانسان عادةً يدافع عن ثلاث اشياء الشرف والوطن ومتلكاته، وهو يقدم قضية الوطن في المقدمة وحجمها اكبر من كل ما يملك، شيركو يملك نشاط ذهني في اختياره للمفردة يأتي من خلال تفهمه للقضية، استحضارات تراكيبه اللغوية تستضيف التاصيل والتخلص من القيود عملية درامية تتحدى سياق الرواية في الادب الكوردي، غرس حلقة خضراء في تعامد واعي، يخلق عند المتلقي الوعي الكبير، يقول:
الشاعر يكتب بحس مرهف لا يقلق القارئ بثقل العبارة يسبح في فضاء حر من عبقها المسكون بقدرته الشعرية في مساحات القصيدة، ويحيلك للتتبع بحرفية في اللغة ، يجد اسباب الحب والرقة حتى من قبل ورقة شجرة او رفرفة فراشة أو مضيق صعب اجتيازه، لكن هو يخلق الاجواء الابواب ويوصلك الى الطريق بوضوح ثابت وفكر نير ونفس مطمئنة، يؤثث لوحشة الانكاسر تجبر متزمت باسلوب مختصص وبلغة شعرية عابقة بالحب وصل الى سحب السماء بخياله الكبير في ايجاد الايقاع المؤنس للقصيدة، شاعر رافض كل صور التركيع بتماس يبحث عن العلو، نجده يقول:
أي عاصفة بوسعها أن تصفي سيمائ ص (102)
تارخكم العابس؟
كيف ستصالحون الارض؟
ايتها النهارات العكرة!
هديركم
صراخ مزارعنا وحقولنا المختلفة
لطمات تموجكم الاسود هي
سكرات نجومنا
ها هي انقاض اغنينا
تكتسح اشلاء اعيادنا.
العلاقة قائمة بين العقل واللغة، طبيعة هذه العلاقة هي ليس مجرد فرضيات ، لأن غطاؤها الفعلي يعمل على أرصدة الذهن، انها وفق معيار التجربة المعاشة، فهمو يُحمل قصيدته انين طالما كان متواجد في قلوب وعقول الجميع، محاولاً ان يبث في قصيدته كل انواع الاسى والفطنة المطلوبة في امته الكوردية، احيانا يساءل الطيف العام للحياة ومن ثم يعود لدفن تلك السكرات مستعيداً كل جديد، ومن ثم يعود لواقع مار فوق شعب اليوم والمناسبات المهمة،
يقول:
وقدمي مكتظة ملأ بحلبجة صغار الآلام ص (105)
انها معتادة ليلاً
ان تستلقي على هذا السرير الضيق
مع نهر ما
وتعانق بحيرة أقصر من أرجل النهر
وضيق لجثمان البحيرة الزرقاء.
شيركو لم يكن وحيدا في بيته، عنده كثير من الذكريات التي لا تفارق فكره، كأنها غيوم ملبدة بالهموم العميقة، هي ما تغزو سقف رأسه، تتجاوز حدود المكان تتجاذب أطراف المآسي التي وقعت لحلبجة، وكلي بازي، وقلعة دزة، وبيره مه كرون، الرمزية والمجاز، النشاط التفاعلي بوصفه دليل عمل سيوسولوجي تجري في نفسه الحزينة، لما حدث من افعال قاسية وجنونية، طعنة غادرة حين تكون في الظهرو مرحلة صعبة من المستحيل نسيانها ام التخلي عنها، ثم يستمر حيث يقول:
- ها هوا ذا الخريف ص (106)
بعد رحيل حصانك الاسود.
ها هو ذا الخريف الاول ببعد بزوغ غربتك
وغروب جبال روحك.
ها هو ذا الخريف الاول
بعد تيه مركبك.
يتحول الشاعر من البيت والوحدة الى الخريف، هو معني بكل هموم بلادهِ، يهندس من جديد كاسراً افق الماضي وبإصرار يعد للحاضر، بناء يعمل على مجمل حوافيه المضطربة فيما اصابها من صدع ورضوض، بجذوته الشعرية يقدم اكثر حداثة وأصيل، تحمل بصمة من منظور واقعي منطلق من معجم رؤيته، فتكون لديه جمال يشبه لجج الامواج ووسع الافق، ثم يقول:
- من اين اتيت؟ يسألونك ص (109)
يغدو هذا السؤال مرة اخرى عليقة
تخرج الدم من صوتي.
ها نان ذا أردد اسم زهرتي للمرة الألف
فيهم من يبدو وكأنه
قد سمع ذات يوم من ريح ما
فيهزُّ رأسه ايجاباً بعد هنية
الشاعر يدون عذوبة عالقة في نفسه، بما يقدم من صياغة لهذا الفهم والتعريف بماهية المكان، وبجرأ يتقبل ذلك التدرج في الوجوه المطترفة في الحديث، انها حبه الاسطوري الذي يهيم به الشاعر شيركو، الارض التي هي جزء من تكوينه، مستعد ان يجابه الكون باجمعه من اجلها، بارادة التوحد مع حبيبته كوردستان العراق، يختم اسئلة الآخرون فهو عاشق لجذوره لا تقع فاصلة واحدة منها خارج حبه لها، حاملا بين اصابعه صورة حبه للارض المفتون بها وبكل تضاريسها، يظهر لهم خارطة وطنه من جيبه بزهو لا يغاليه زهو واحساس اكثر جمالاً مشيرا على الخارطة هذه بلده ارضه رغم انف الجميع وانه يفهم احتقان المصالح لدى الدول، اما هو قادم من قلب التاريخ والتاريخ لا يمكن له ان يفقد اجزاؤه، ونجده يقول:
اضع اصبعي على شمسي المقطعة ص (110)
ارباً ارباً
- انا قادم من هنا
من داخ سفينة " نوح"
ولدت في لوج " جودي"
- ان احلامكم الملونة التي تحملونهالا
هي الموجودة في الملاحم والاساطير القديمة
والدي ايضا كان حاملاً الوطن في عينيه
كان نحلة ميناء ناعس
من شمال افريقيا.
شيركو يقول للعالم باجمعه، مازالت الولادة مستمرة واقتحام النجوم ليس صعب وان كان لكم ماضي فمثل الماضي الذي عندي له جذور واستهدي بها من مكان عمقه فجوات وجودي، ولدت حيث ولدتم هذه الارض ولكن ارض الاساطير والسير الاولى فيها ولدت وانا ابن نوح والاحلام الموجودة من عهده والوطن الذي في عيني عاشت الملامح فيه، انا الهة الخصب واجداي يعشقون ارضهم حد الموت، لذا مزاميري كتبتها من عهدهم واحفظ ترتتيلها، ثم يقول:
كان والدي طائراً جبلياً ص (114)
انطلق من الجبل
حتى وصل ثلج هذا القطب.
وذات يوم
تجمدت احلامه معه
وهو يغرد
. . .
اني تاريخ مسافر
أطوف يثوراتي
لا أحد غيري ينظر دمي
الشاعر شيركو صاغ مقامات كل الاجوبة بحرفية ناحتاً اشارات الالم في ناصية التاريخ، انه يعلم حقائق الامور والنبش فيها لا يعني العجز بل القدرة على تجسيد الصور الثابته، حيث يقول : والدي كان طائرا جبلياً انا الشاعر شيركو يعني الكثير، الجبال لا تبكي لا تنكث حسراتها الجبال تحوي الصقور التي تؤسس في القمة وعصافير وحشية لا تحب الذل، وتطير عالياً حيث العز والرفعة، مجازات شيركو في البوح المكثف المتعالي في ايجاد السببية والاسباب، اذ يقول (اني تاريخ مسافر) يصطاد الابتهاج متبيناً الاطمئنان الانساني، استعاراته للمتخيل الذهني يشتمل على فنية الشعر المنجز من الابداع الفكري والوعي المتجذر في وجدانه مشكلاً حبكة سياقات صورها الشعرية غير ما يراه الآخر، مضاءة من عين شاعر ومحدثات فكره المستجد في الابتكار، مستمراً بقوله:
ياصدى القبج الاحمر داخل صدري ص (117)
متى كانت الاطراف المحيطة
بملتقى اسرارك خالية هكذا؟
في مهد الوطن.
شيركو يحلل قهر الزمان السائد في تفاعلاته مع المجتمع بنسقية جميلة، لأن الاختلاف في الصراع اللاحق بين ديمومة الحياة وديناميكيتها شيء مختلف، للوطن ذكريات لا تمحى مهما اختلف الوجود المكاني، ان الوطن سلة ازهار في القلب كلما هبَّتْ عليها نسائم الحنين استجد عطرها اقوة من ذي قبل، أو تمايلت تعيد امجاد الامل، رؤياه النضوجية متفرعة من الارتقاء بالقصيدة، يقول:
هناك حيث احزان جيرتك عديدون، ص (118)
على سلم الوقت المناسب وغير المناسب
كان اخلاصكم سرب سنجابي
يتسلقون وينزلون على حائطكم المشترك.
وكاللبلاب المتسلق على ابوابكم وشبابيككم
كانت القبلات تسير وتزحف
وتتماوج اسراركم ونجواكم
على سطوح وافنية بيوتكم
يملك الشاعر شيركو ذكريات مشتعلة في راس المكان، يقشر حلم المقهورين والمقموعين من كوردستان ، سابحا بالمتجدد من الجذور يحفر في قعر جمجمة الجبل، كأنه يقول لكل معضلة واقع وحل والحدث المجد تفاعلاته كثيرة في مادة الحياة، يسخرها الشاعر شيركو بعملية ادراكية تصاحبها لغته الشعرية على اعمدة من مرمر الزمن ينحت عليها باظافره، حيث يقول:
عند كل عثرة في ذلك الليل ص (120)
لحظتها كنت اشعر
ان المصباح الاصفر هو انا نفسي
والسديم هو انا
وسككالحديد انا بنفسي
والدرب هو انا
وكذلك الرحيل.
الشاعر يجمع الابتهاج والشموخ الواضح في نفس الانسان الكوردي، لا يحمل القلق بل دائماً يريد ما يليق به من عظمة وتاريخ وارض، لذا نرى الشاعر يحلق بجذوة ملحمته الازلية باسلوب ممتع يسري في شعره الذي يشبه السرد الروائي، يمتلك الاحساس الاخضر في الرغبة نحو الحياة، فهو متعلق بكل شيء مهما كبر او صغر في دورهِ كشاعر مشتبك مع الحياة، يتغذى على الزمكانية وماهية التاريخ في تشكيل متماسك يضع القصيدة خارج حدود التقليد، فيقول:
ماذا أقول لها؟ أأقول: انها خبز الصاج ص ( 121)
أحن لها
أأقول: انها رائحة قلادة القرنفل ورائحة أمي
ورائحة فتيات محلتي التي باتت لا تصلني
أأقول: انها الجنون الريباس
البعيد عن الوطن " كلي خان "؟
أأقول: انها اشتياق الرمان المتشرد
ل.." شاربان "؟!
متمكن الشاعر في العودة للموروث ومعطيات شعبه وتقاليدهم، ان طقوس الحياة في كوردستان لها مميزاتها الخصبة والحنين لها لم ينفك عن مشاعره الانسانية مهما بعد عن الوطن او اختلف مكان تواجده، لا ماكان يعوض الوطن ولمعالمه نكهته تبقى عابقة في كل مسامات اهله، نفوس شعب كوردستان متحركة كسيل نهر نحو الوطن متفتحة كأزهار الربيع لطيبة ارضه وصلابة نفوسه كجيالها، يقول:
الليلة.. سيأخذني درب سري مائل الى الزرقة ص (126)
الى شاطئ البحيرة القريبة منا
في مكان لا مرئي
لا مرئي كملتقى غراميات ثلوج الرب،
كلهيب عشق ابدي،
ركن منزو، كالذي تظلله عريشة
اعماق الغرباء الباردة،
هادئ كفيء وحدة
ليالي الغرباء.
ياخذني الحنين
كالعاشق،
ربما يحط رحالة عند جرح شجرة كوم لا يئن
فيتركني.
شيركو يحمل تدفق مدهش له طقوس معينة يعنيها، تنير ترابط قوي في تناسل اللغة، محتشمة برقة في زمن التلامس نحو الشعر الازلي، آفاق وعيه تجيد شحن الاشراق المكتنز في سفره الممتد الى ابعد نقطة ضوء في شعره، جمالية في الابداع بخلق صور رائعة متجانسة مع الذات، حاملة قضية الانسان المغترب الذي يعيش غربتين داخله وفي محيط وجودة، والرغبة بتحقيق الاماني تزف في كل لحظة عرسها وتدندن اجراس التي تحدث لوعة في الصدر ينعشها شيركو بلهيب عاشق متيم, ولديه عطش لا ينتهي لما يحسه من وجع، يظيف له جمالية تعتلي الصورة الشعرية وتعبر لمنصة الجهات الفياضة من الوجدان، يقول:
لا اعرف ماذا افعل؟! حينما يدلف ذاك ص (129)
النور الرهيب كالشعاع ليلة خلوتي،
ويوقعني في دوامة اسئلته، يوقعني
في دوامة حبه، يبدد شكوكي
يغرقني في حنينه.. ماذا افعل؟
كيف استنطق صواعق وبروق ذلك العشق؟
ماذا اقول؟ كي ترعف حسرتي بالشعاع
ويزهر ذبولي ويتسلق على قامة الافق؟
يبقى شيركو مستمراً في تحريك فيض من المه المنصب من الحلم، مدركاً ان رغبته هذه ستنعش ابناء جلدته، الشاعر شيركو يكون صور روحية ليس من صنع الخيال، بل صور تحمل كل العزم الحقيقي الذي يطوف في قلوب الكورد اينما كانوا او وجدوا، فهو بحاجة للتفكير في الحدث لذا دائم الحنين، في الصفحات الاولى من كتابه مضيق الفراشات يذكر قبعة مولوي المخروطية، لآنه يعيش الازمة نفسها مع شعبه وشعورهِ بالفرد الكوردي من وحدة وغربة لم يفارقه، وداخله عشق لا يحتمل يسكنه احيانا السكون، ام اسكوت على ما اصابهم من تنكيل وغدر من قبل الطغاة هو ما ليس قادر على اخفائه، فهو حين يبحث عن مكان يسكنها احلامه وذكرياته ولحظات الحنين التي تدفعه للبحث عن الخلل وفي نفس الوقت عن العمل، ونجده يكمل ملحمته الازلية الدرامية، بقوله:
انوب وعند ذهابي ان احمل لهم البوم ص (131)
عذابات ولوعات واحتراق وصراخات
المياه والتراب والاشجار والاحجار والمدن والقرى
والحيوانات الطيور والبهائم
لقرنين من الزمان!
انوي وعند ذهابي ان احمل له بالاخص من عيوني
سماء " حلبجة " المختنقة.
حدث حلبجة الجسيم وهول الفاجعة التي اصابتها اصابت الوطن في الاقليم كله، مجتمعة بهذه المفردات في هذا المقطع الشعري من قصيدة مضيق الفراشات الطويلة، ورغبات لا يمكن طمرها تحمل شهادة اثبات في فضاء القصيدة يتلازم وسكب السجايا المحتضنة شكل القصيدة الفني، تخطي جميل في منجز الشعر الكوردي، انها ايماضات جمالية متفاعلة في التحليق المنطقي مما يضاعف جماليتها الشعرية، لها دلالات بارزة وفاعلة مندمجة في مركز التبادل المحسوس والمهيمن على النفس، ترتيب بناؤها بالمفهوم الجمالي للحياة المتعامدة بين الواقع والفعل، ان حواراتها التهكمية ملتحمة مع الذات بعمق الحدث، انزياحاتها تفجر صورة انسانية وقرائية في نسيج معاصر، يقول:
اعرف ان ص (133)
اجمة الاوجاع التي آخذها له معي
على ظهر " سه يوان "
نشيجها اكثر كثافة
وظلال دمقها اكثر سكوتاً
ومأقة حنجرة أشجارها اكثر امتلاء
من بيداء " خاك وخول "
وكن من أجل الشعر الجميل ورنين خلخال
القصيدة البهية
من اجل شعاع الفكر الثابت وامطار الخيال
وبريق الاحساس الطري
سأقول له:
لا شك.. يا سيدي.. لا شك
كلماتك اكثر عمقا
وحروفك اكثر سناء
يصل حد الشراسة في الصراحة وعملية السكب على قالب الصورة الشعرية، حتى في الصراحة عشق ازلي متفاعل بحيوية في بيان افصاحه عن حبه للمكان وفق توجه خارج عن حدود التعصب، يلون ما تحمل خبايا نفسه بالوان الفراشات الشفافة والجميلة والرقيقة كاحساسه المرهف في التعبير عن ما تجود به مشاعره الفياضة مثل خمائل كوردستان سماؤها في بناء استثناءات عميقة مستعينا باللغة باعتبارها هواؤه الذي يستنشقه في الوعي واللاوعي، وما تحمل تموجاتها وانقلاباتها في مساحات الابداع الفكري والفني، الممتزجة بالخيال والمستقبل، يقول:
سأقول له: كيف تخيط الغيوم ص (135)
بذور الوريقات الخريفية
على قيافة الغربة وكيف تزرع الدموع
وكيف احلت راسك مربعاً للبروق؟
نزعة الاستقطاب حول الذات تحث التحقيق الذاتي عن طريق التجربة، والشعر حب ازلي والتجربة ادراك فائق لمعنى الحياة، جميل جدا قوله : سأقول له: كيف تخيط الغيوم / بذور الوريقات الخرفية/ على قيافة الغربة وكيف تزرع الدموع، لوحب حقيقية بل تحفة قيمة لها اشعاعها الجميل على القصيدة كلها( مضيق الفراشات) بل قد اقول انها ثلث القصيدة وكنجمة الصباح في فضاء القصيدة هذه الابيات، بقوة الحب فاعلة تهز كل مكونات الجسد، ثم يقول:
سأصنع هودجاً من الهلال ص ( 138)
واسرج من البكاء فرساً صهالاً
واسأركبهُ احتراقي
كي يعبر مضيق رحيل الثلج ذاك عدواً
وارنو اليه من بعيد وانظر
كيف سأتبحر انا قبل وصوله
واستحيل قطرة عرق
على وجنة قصيدة مغتربة.
صور بوحية مكثفة كقصص التراث المدفون في عمق جبال كوردستان وبين طيات سفحها وعلى اغصان اشجارها، وما تحمل من مضامين منغرسة في كل جوانبها الحكمة، شاعر الازل يبحث في الجذور العميقة المجترى من الدهر في الزهد ومأساة دوامة الظلام المنتشر وانزياحات الذاكرة، والتفاف المغامر الذكي الشجاع القادر على الكسب، لمسح الزائف من شبكة ذوي الافكار الخائنة، صور مليئة بالرقة المتفجرة من ينبوع ماء في زاوية من زوايا الأرض الساكنة جذوة الشاعر، شيركو قناعاته كبيرة بشعبه الذي افترش الهدوء وعالج المجون المحيط بالحياة، يقول:
ذلك الصباح الخريفي الذي رحلت فيه ص (152)
كان فجري غروب وصالي
كنت ناراً ارتجف من برد الفراق
فأخذت آثار حروفي وانا في طريقي
الشاعر يستهويه جمع التاريخ والتراث والشخصيات المعروفة والممتزج ذكرها بكل حوافي الزمن لكوردستان، اعتمد العناوين والاسماء بتصريحات ادخلها التأشير كمدلول لبنية النص، ومرورها لاحقاً أدلة لمشروعة الجديد في المساحة الحاضرة، قفراتها تقع موضع معتمد في المجتمع الثقافي الكوردستاني، وما لدورها الذي يحمل الفوقية من مراتب الطبقات الغنية عن التعريف بما تملك من فكر نضج ونفس سديدة في الفعل والمحاولة الجدية لرفعة الشعب الكوردي، والذكاء العام في المجتمع وترك ايقاعية تاريخية مرتكزة بين ظهران الاجيال القادمة صانعة المستقبل، يقول:
ازداد اقترباً منه لامتصاص احزانه البيضاء ص (159)
يستحيل حبي نحلاً ولحيته بستاناً.
ازداد اقتراباً منه. سأمسك
حمامتي يديه الباردتين برفق،
اضعهما فوق صدري وهما تهدلان الشعر.
سأغطيهما بالبكاء.
اسعى ان احيل ذهني سمكة
للبحر الجالس أمامي
واسعى ان احيل رؤياي كبشاً
للبجل الواقف أمامي
محاولات الشاعر تحمل وصف يتقمص هوية الانتماء بشكل صارخ ليضعها بين يدي شعبه، بطروحات اعترافية قابلة للتحليل في صالح للنص، يرمز لها بالشعر لازلي للانسان المتنسم نكهة الحكمة التي تفوح في وجوده، وتعطر المكان المكتض طينها بعذوبة نفوس اهلها التي تعذبت طويلاً، ووجود الافتراضات العاتية وكيفية التعايش معها والبحث عن الخلاص من بقاياها، الشاعر يعيش غربة الشعور بالاطمئنان واعلانه بالبوح لهذا الاغتراب بالادب الروحي وملامحة الازلية له تأكيد على الاصرار داخله، بأن ما يبثه شيء عظيم واكبر من ما يتحدث عنه أو به، انه شيء جلل وتنفس يتوغل في انهيالات سلة ثمار ناضجة حين الجلوس امام الجبل المرمز له والمعني يثقله والبحر في نفس الوقت، تأوهاته تحتك بقوة تريد ان تكون قمما تعود بالخير على الجميع وليس سنابل تلعب بها رياح عاتية تعمل على انكسارها، يقول:
انظر تطوقني الجروح الغائرة ص ( 165)
كل الاطراف
ها هي الحروف تصرخ بي
والغربة شوك وحسك!
فأهلاً بك
هديتك حفيدي
كنت متلهفاً لرؤيته
اعرف ان نالي في اللحظة تلك جبل
من قمته وحتى اسفلهآذان وعيون
اعرف انه يريد ان يعلم احوال احفادهِ
شيركو ليس سجين افكاره طيلة زمنه المعاش بل يحمل منهجية وليدة خبرة وذوق تشكيلي ملم برؤياه بمنتجه الفني مع اضاءات مستقبلية، وليس اعتباطاً ينتج نصه الشعري على هذه المساحة في قصيدته مضيق الفراشات، وليس زائرا عارض لما لديه من بضاعة، انما افكاره المكتسبة جاءت من ثراء ذاتي ومعاناة وجدانية تجاه ارضه وشعبه، انها طويلة وعميقة تلك المعاناة التي دفعته ان يضج ويكتب ويرفض المناصب في الدولة ويعمل على مسح الزائف وخلق المعاصر في كتاباته، وجلَّ محولاته الفكرية تتفاعل مع اللغة بكل حيوية، مهتم بصوره، يقول:
الليلة ستمطر طفولتي ص (170)
على ذكريات الخضر والحمر
فأسحيل مضيقاً للفراشات
وتغدو أمي ظبية ناصعة البياض
للبيئة والذات مشاعر مرتبطة بعوامل حسية سماتها مستمدة من الطفولة، تبرز ملاحقاتها من ملامح الاحتضان، ثم تتحول الى مرحلة نوعية في خصوصية القصيدة، ومضيق الفراشات قصيدة من هذا النوع مرتبطة بالبوح الجميل وتضمينها معاني الايقاعات الثرة، يدخلها مصاف الخلود والازلية المستوحات من أسس التاريخ المنتجة منه وتمثل واقع ثابت موثق بكل معاني الاخلاص.
الشاعر شيركو غني عن التعريف بما قدم للشعر والادب الكوردي من خزين يحتفل ويفتخر به الادب الكوردي، وهو من الشعراء الذين تكلل اجتهاداته الشعرية بفاعلية تجعل المضمون الشكلي المتنوع في الصور المثيرة للفكر والمخيلة جميلة في تعابيرها العميقة والمتكاملة بدقة مفرداتها، وقوانينه الشعرية التي ادخلت قصائده العالمية، (مضيق الفراشات) ميثيولوجيا مختلفة وذا قيمة ادبية وفنية لما يحمل نصها من تداولات منسجمة مع بعضها وقد يطلق عليها الشعر الازلي أو الرواية الازلية شعرياً، وفي نظري هي نص له ازليته التي تمتد الى ما لا نهاية من الزمن لجودة معطياتها الفنية واللغوية والاسلوب المتفرد في تصفح المشهد الدرامي للشعب الكوردستاني، وهدف الشاعر شيركو في كتابته لمثل هذا النوع من الشعر جاء من عمق جذوره الكوردية لايمانه بمشروع الحياة المستقلة، ويعتبر قد نجح في معرفة نظم الحياة الحضارية بتلك الخصائص، والاقصاء الذي عاشه شعبه وحدَّ جعبته الفكرية والنفسية تجاه القضية التي هي صميم الازمة المعاشة، وادفء القارئ بحسية عالية كي يدخله جلل الموقف والعمل الذي قام بانجازه، ويحمل مفهومه الشعري لما يملك من توسع فكري، مركزاً على انتمائه القوي لأصل نبتته الاولى, والتي منها استمد كل قواه الحسية في توضيف الجمل والمفردات بدقة النحات الصلب الذي ينقر بازميله على الحجر فيحيله الى تحف فنية بارعة الشكل، قصيدة ( مضيق الفراشات) برقة وجمال الفراشات وسحرها كانت القصيدة آخذ في جماليتها وشفافيتها، خلق لها مضيق تمر منه بشغف العابد والعاشق، والفراشات عادة تعيش بين الخمائل والحدائق الغناء والرياض الجميلة، ولتنوعها في الشكل ومظهرها الانيق وخفة روحها المذهلة في كسب التعاطف من قبل الانسان، جاءت تسمية قصيدته ( مضيق الفراشات) أما ما يقصده بالمضيق هو المعاناة والتسلط الذي عاشه الانسان الكوردي في ارضه ومواطنه هو ما يشبه المضيق، وقد ذكر الشاعر انه استحال الى مضيق للفراشات، اي تحول هو من والى في نصه الشعري المكون من دلالات تشير بعضها لبعض، ولكنه بتنوع مشرئب بالجمال الفاخر والحب العميق المكتسب من واقع قد مرَّ وتحول الى فضاء جعل منه انسان متزامن مع القسوة والحب بشكل معهود في طبعه وصفاته التي اصبحت بصلابة الجبل الذي جاء ذكره في القصيدة أكثر من ( 48)، والشجرة التي هي رمز العطاء، ايضا جاء ذكرها في القصيدة أكثر من (41) مرة، والشاعر شيركو بيكه س اقلق فراشاته، وهدم مخاوفها وبنى لها فضاء شاسع بكل معاني كلمة الازل. الكاتبة/ ناقدة من العراق








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح


.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص




.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع