الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الى سعدي يوسف ... تصبحون على وطن !

جمعة الحلفي

2004 / 5 / 21
الادب والفن


هل الوطن قيمة عليا مجردة؟ لا نجرؤ، في الغالب، على طرح أسئلة من هذا القبيل، أو من هذا العيار، فالوطن هوية أخلاقية تتعالى إلى درجة القداسة، والسؤال عن ماهيّة هذه القيمة، أو هذه الهوية، بمصاف السؤال عن ماهيّة الأبوّة أو الأمومة.
ثم أن مجرد التفكير بطرح مثل هذه الأسئلة من شأنه أن يصيبنا برهاب الخوف من الاتهام، الاتهام بالمروق أو بالعقوق أو بالجحود، فالوطن في مختلف / كل الأحوال شرف المواطن منذ اخُترعت خرائط البلدان وحدود الخلجان، ومَن منّا، نحن المواطنين البسطاء، مَن تسوّل له نفسه تدنيس الانتماء لهذا الشرف الملحمي، ونحن نحيا في معمعان التدافر القومي والطائفي والإثني والمناطقي والسلطوي، السائد كالحمى في برهتنا التاريخية المعاشة؟
نعود لسؤالنا، متدرعين، أو متذرعين بظرفنا (العراقي) الراهن، الذي ضاعت فيه الطاسة: هل الوطن قيمة عليا مجردة؟ ونقترح للإجابة، البحث في الدواخل، وفي تلا فيف الأرواح والأحاسيس الدفينة، قبل أن نستعير إجابات من الفلاسفة وعباقرة السياسة والايديولوجيا، فهؤلاء، سامحهم الله، حسموا الأسئلة وتركونا في التيه.
سَألت معلمة المدرسة تلاميذها الصغار: ماهو الوطن يا أولاد؟ أجاب أحدهم قائلاً: إنه أمي. وقال الثاني: إنه جدتي. وقال الثالث: إنه قطتي السوداء المرقطة بالأبيض. وقال الرابع: إنه جارتنا الحلوة. وأجاب الخامس: إنه سريري الذي أنام عليه. وقال السادس: إنه العطلة الصيفية. فقالت لهم المعلمة: الوطن يا أولادي، كل هذه الأشياء مجتمعة.. انتهى الدرس أذهبوا إلى أوطانكم.
هل هناك أفضل وأدق وأجمل من هذا التعريف البسيط للوطن؟ لكنني، مع ذلك، أختلف مع السيدة معلمة المدرسة، فإذا كان الوطن، كما وصفه تلاميذها الصغار حقاً، فمعنى هذا أنني لم أعد، لا أنا ولا الآلاف من أمثالي، وطنيين شرفاء نستطيع الإجابة عن ذلك السؤال المهم، فأنا، على سبيل المثال طبعاً، مطرود من وطني منذ ربع قرن. ماتت أمي وأبي وجدتي كمداً وفقدتُ دزينة من أخوتي وأصدقائي في أتون العوز والمرض والاضطهاد والحروب. ثم أنني لم أكن أنام على سرير بل على الأرض الجرداء. ولم تكن لدي قطة سوداء مرقطة بالأبيض، بل كان لدي كلب أجرب مات برصاصة يوم قررت السلطة المندحرة قتل الكلاب السائبة مقابل نصف دينار للقاتل! أما ابنة الجيران فقد تزوجها عريف مخابرات، بالقوة الغاشمة، بعد أن هدد أهلها بالوشاية بابنهم (الشيوعي الزنديق!). ومنذ ربع قرن وحتى الآن لم ينته درس المنفى العصيب كي أعود إلى وطني.
إذن في ضوء هذه الحيثيات سيكون السؤال ملحاً: ماهو الوطن وهل هو قيمة عليا مجردة؟
يقول الإمام علي (ع) "الفقر في الوطن غربة". فماذا سيكون عليه الوطن إذا كان ذلك الفقير مهاناً ومذلاً ومقموعاً أيضاً؟ ويقول ناظم حكمت "وطن الإنسان حريته وكفايته" وفي وطني ليست هناك كفاية، والحرية خليط من فوضى ورهاب. ويقول كارل ماركس "ليس للرأسمال وطن" ومعنى هذا أن كل الأوطان مفتوحة لصاحب الرأسمال، فماذا عمّن لا رأسمال له سوى أسلابه؟ أما النشيد القومي العتيد فيقول: بلاد العرب أوطاني. وهذا محض وهم قومي جربناه حتى الثمالة وظل بعيد المنال.
إذن، مرة أخرى، وهذا سؤال آخر أكثر إثارة للريبة: ما الذي يربطني بوطني المزعوم، أو المحتل، أو المسروق، أو الغائب، أو المصادر، أو المنهوب، أو المستباح، وأنا لا أملك منه ولا فيه شيئاً يذكر، لا الهواء ولا الماء ولا التراب ولا النفط ولا الذهب ولا التمر ولا الخبز ولا السكن ولا الهوية ولا الحماية ولا الحرية ولا الكفاية ولا الحبيبة ولا الأمان ولا حتى... فسحة القبر؟
إذن، أخيرة، يمكن أن نقول، خلاصة أو جواباً، أن وطن المضطهد هو الحرية أينما كانت، ووطن الفقير الكفاية أينما توفرت، ووطن المظلوم العدالة حيثما قامت. من كل هذه الأشياء مجتمعة يتكون الوطن، وعلى أولي الأمر أن يوفروها للناس كي يشعروا بوطنيتهم حقاً... انتهى الدرس.. تصبحون على وطن!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي