الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من دفاتر الذكريات . . . معسكرات الطلبة عام 1986

أحمد الشحماني

2009 / 9 / 7
الادب والفن


أحيانا تتمكن مني الذكريات رغم إغلاقي كل النوافذ وتأخذني إلى مدن بعيدة ومسافات بعيدة وتزرع في داخلي أشواك الألم والحسرة.

* * *

أذكر ذات مرة ولعلها لم تكن المرة الأولى في تاريخ عمري الحافل بالضياع والألم والحرمان ونحن نتجه صوب المجهول بحثا عن طريق يوصلنا إلى واحة الأمان . . . حيث كانت جميع الطرق والمطبات مليئة بالجراد الآدمي والأفاعي الآدمية التي لا تتورع عن قتل وفتك كل من تراه أو تشك في هروبه خارج أسوار معسكرات الموت . . . معسكرات الطلبة, المعسكرات التي ابتكرها القائد الملهم بأفكاره النيره . . .


ــ المعسكر كان عبارة عن جملونات من حديد . .
ــ الزمن كان شهر تموز . .

لقد وضعوا الطلبة في تلك الجملونات الحديدية وكأنهم قطيع أغنام .

آه يا لسخرية القدر ويا لمهزلة التاريخ الإنساني . .


تخيل كيف تصبح الحرارة داخل الجملونات الحديدية في شهر تموز . . . في داخل كل جملون عشرات الطلبة يفترشون يطقاتهم أرضية الجملون . . . ليس هنالك مجموعة صحية لقضاء حاجة, من يريد أن يفعلها فعليه أن يذهب إلى مكان بعيد بين خفايا ومطبات الرمال الصحراوية – هنالك فقط حمامات متفرقة يعود بناءها إلى العصر الحجري ويحتاج من يذهب إليها إلى حجز تذكره ذهاب وإياب قبل يومين لان عدد الزائرين من الطلبة لتلك الحمامات يتجاوز العدد المسموح به . .

وجبة الطعام التي تسمى بالمصطلح العسكري العراقي القصعة والتي هي عبارة عن صفيح مستطيل الشكل أشبه بالصينية صممت وفق احدث التقنيات العالمية , كنا نستعملها لجلب الطعام الذي تمتزج حباته بالرمال والاتربه العالقه في أجواء المعسكر ذات الرمال المتحركه , في كل وجبة طعام يذهب احد الأصدقاء ويأخذ معه القصعة ويجري عليها عملية سمكره وتنظيف لا يطيقها حتى إنسان العصر الجاهلي وهذه العملية تتمثل بمسحها بقليل من الطين ومن ثم غسلها بالماء لكي تزال منها طبقة الدهون السابقة التي بقيت عالقة بها من بقايا وجبة الطعام السابقة.


لقد شاهدت بأم عيني ثلاث حالات من الموت المفاجئ لطلبة المعسكرات في داخل الجملونات الحديدية التي تزداد فيها حرارة شهر تموز بشكل يفوق الوصف وتبدو كأنها الجحيم قد شرعت أبوابها . .

التدريب مرهق جدا ولأن الطلبة لم يعتادوا على هكذا قسوة وتدريب شديد لفترة تمتد من الساعة الخامسة صباحا وأحيانا من الرابعة صباحا حتى العاشرة صباحا وبعدها من الحادية عشر حتى الثانية ظهرا – ومن ثم من الرابعة عصرا حتى السابعة – من بين الأصدقاء اللذين شاهدتهم يودع الحياة كان صديق لي أسمه جعفر من أهالي البصرة الفيحاء وكان زميلي في المرحلة الأولى في كلية الآداب, رحمه الله . .

أتذكر جيدا عندما كنا نأتي من التدريب والبزة العسكرية ذات اللون الخاكي تغلف أجسادنا نشعر بالضيق والاختناق الشديد نتيجة الحر وسخونة الجو التموزي الصحراوي . . . أي سخرية للقدر تلك التي كنا فيها؟ كل الشعوب تتنفس الحرية إلا نحن نتنفس الذل والعبودية والقهر والحرمان ! كل الشعوب تقدس الله إلا نحن نقدس ونأله الشيطان . .

* * *

قبل أن نعلن قرار هروبنا الليلي . . .


قبل أن نعلن قرار هروبنا الليلي الساخن بالخوف – كان هاجس الخوف والقلق يطاردنا أين ما نذهب وكأنه شبح الموت الذي ينتزع الأرواح من غير موعد – لقد تمت عقوبتنا لمدة ساعتين في اشد ساعات نهار تموز الحارق الملتهب من قبل عرفاء شرفاء في الكلية العسكرية ينضحون غيرة ومروه وشهامة حيث كانوا أدوات مطيعة لأوامر قائد المعسكر. .

بدءوا بتطبيق الأوامر الفرعونية بشكل صارم وبشع لا تتقبله النفس البشرية , كان كل واحدا منهم ماسكا بيده اليمنى هراوة وبيده اليسرى سلاح الكلاشنكوف وكأنهم في حالة استعداد واستنفار وتأهب تام لمحاربة أعداء الوطن . . .

بدأت الأوامر بخلع ملابسنا وحلق شعر رؤوسنا (نمره صفر) من قبل حلاقين متخصصين للعقوبات وهذا الحدث يمثل انجاز عظيم في سفر حياتهم العسكرية بل ربما سيؤرخه التاريخ لهم بأحرف من نور على انه اقرب عمل صالح إلى الله تعالى . .

وبعد ذلك تم إجبارنا بالإكراه بتمريغنا فوق الطريق القيري في ظهيرة صيف تموز الذي بدا وكأنه تنور مستعر الحرارة وبدأت المادة القيرية تتفاعل مع العقوبة وتذوب تدريجيا بفعل لهيب وسموم الصيف الحارق وبدأنا نشعر بأن أرواحنا على وشك أن تخرج لأن المادة القيرية تلابست مع أجسامنا . . .

اذكر حينها أن احد الأساتذة بدرجة دكتوراه وكان حينها معاون عميد في أحدى الجامعات العراقية قال لهم بعدما نفذت لغة التوسل : "اقتلوني قبل أن تعذبوني وتهينونني بهذه الوحشية والشناعة", أجابه احد عرفاء الكلية العسكرية المشرفين على تعذيبنا: أسكت, "أذا لم تطبق العقوبة فسوف اجعل الرصاصة تأخذ مكانها الطبيعي في رأسك العفن لتخمد أنفاسك" . . .

أثناء العقوبة وتصاعد أصوات التوسل والتوجع لاحظت نزيف الدماء من أجسام الطلبة الأصدقاء – اثنان منهم فارقت أرواحهم الحياة, ودعوا الحياة بسبب حالة الحرق والاكتواء وما رافقه من توقف لعمل القلب بسبب إجراءات العقوبة الوحشية واللاانسانية والتي غفلت عنها كل وسائل الأعلام العالمي وتجاهلتها منظمات حقوق الإنسان – وأين هي حقوق الإنسان في وطن يقتل فيه الإنسان! , وطن تتناسل فيه الأوجاع والأحزان!. . .

كنت ضعيف الجسد لا أقوى على هكذا عقوبة وحشية – كان هنالك رجل عسكري برتبة نائب ضابط جعل الله في قلبه رحمة, تعاطف معي في تلك اللحظة عندما شعر بأنني لا أقوى على الحركه في الوقت الذي كان فيه عرفاء الكلية العسكرية الشرفاء منشغلين منهمكين مع فريستهم الثمينة من الطلبة ليحصدوا كلمة شكر من آمر المعسكر الذي هو الآخر مشغولا بحصاد الضحايا من أرواح الطلبة الأبرياء الذين جاءت بهم الأقدار إلى هذا المكان التعيس . . .

تداركني ذلك الرجل الطيب وحاول أن يخفيني وراء بعض شجيرات الأثل – الله كم أنا مدين لشجيرات الأثل الصحراوية. . .

بعد انتهاء ساعات العقوبة الفرعونية أساقونا مثلما تساق قطيع الأغنام إلى السجن . .

السجن كان عبارة عن صفيح معدني مثبت فوق بقعة ارض منخفضة مليئة بالأوساخ والقاذورات والتبول والروائح النتنه – وكان يقف في بوابة السجن رجل عسكري برتبة نائب عريف تبدو في ملامح وقسمات وجهه علامات الحزن والاكتئاب . .

عندما خيم الظلام بدأ السجن وكأنه جهنم – ليس هنالك نافذة ضوء – لا ماء – لا طعام – المكان ضيق جدا – بدأت العيون تنظر إلى بعضها البعض بحذر وخوف شديد – تحدث معي صديقي رياض - أحمد: هل نستطيع أن نفعل شيئا – هل نستطيع أن نهرب من هذا النفق المظلم؟, أجبته والحيرة تغلفني : لا اعرف . .

بعد نصف ساعة تقريبا من الصمت والحذر والخوف والمجهول المنتظر همس رياض في أذني: لما لا تحاول أن تلقي نفسك وتصرخ وكأنك في الم شديد جراء العقوبة الفرعونية ونحن سوف نصرخ معك ونتظاهر بأنك فقدت الوعي وبحاجة إلى إسعاف أو مساعدة خارج أسوار هذه المغارة المظلمة – استحسنت الفكرة وبدأت اصرخ واضعا يدي على بطني وكأني أتلوى ألما , رياض وصلاح كانا يطلقان صيحاتهم المدوية: أرجوكم أنقذوا صديقنا , انه يموت من شدة الألم , أرجوكم أنقذوه – بعد فترة قليلة فتح نائب عريف المغارة الباب وقال سوف أسمح لكم بالخروج على مسؤوليتي وعليكم أن تجلسوا في ذلك المكان القريب من السجن لمدة عشر دقائق وبعدها تعودوا إلى حيث كنتم . .


انتهزنا فرصة الخروج من زنزانة الصفيح المعدني وهربنا إلى داخل أروقة المعسكر حيث بدأ الظلام يخيم على أرجاء المعسكر. . وهنا بدأنا نتنفس الصعداء قليلا ونناقش ما حل بنا من عقوبة وتعذيب وانتهاك صارخ لكرامتنا, فقررنا بصوت واحد أن ننهزم مهما كلف الأمر. . .

* * *

كيف هربنا ولماذا هربنا . . .


الوقت كان منتصف الليل من شهر تموز والمكان صحراء قاحلة تكسوها الرمال المتحركه, صحراء مليئة بالخوف تسكنها فقط الذئاب التي فتكت بعشرات الأشخاص اللذين أضلوا الطريق - كنا أربعة أشخاص . . أنا المتحدث, المقيم حاليا (في بلاد الله البعيده) ورياض راشد وصلاح نصار ومحمد علي – رياض وصلاح سرقهم الزمن قبل أحداث الكويت وطويت صفحتهم – لا خبر جاء منهم ولا وحي نزل, بعضهم يقول بأنهم ماتوا أثناء هروبهم إلى الشمال سنة 1989 وبعضهم يقول بأن البيشمركة اغتالوهم , كثرت الروايات عنهم والنتيجة ما تزال يكتنفها الغموض, الله وحده يعلم أين هم الآن أحياء أم أموات. .

كنا نرتدي البزة العسكرية ذات اللون الخاكي والبسطال الروماني الذي ساعدنا في تسلق الأسلاك الشائكة التي تجّير حدود المعسكر. .

عند هروبنا من المعسكر في منتصف الليل لم نكن نعرف إلى أين نتجه وأي الطرق نسلك , كنا فقط نفكر بالخلاص وبأي وسيلة ممكنه من ذلك المكان الشبح الذي بدءنا نشم فيه رائحة الموت والتعذيب القسري . .

اتجهنا صوب الباب الرئيسي وتمعنا النظر من مسافة بعيدة حيث الأضواء الخارجية التي تكشف لنا مكامن الخطر, ثم اتجهنا صوب السياج الذي يبدو بأنه بعيد عن مكامن الخطر في تلك الفترة بسبب انشغال دوريات حماية السياج بتناول وجبة العشاء, تسلقنا السياج وما هي إلا لحظات وإذا بإقدامنا تتحرر من قيود المعسكر وانهزمنا باتجاه الشارع العام , وبينما نحن في بداية المسافة شاهدنا ضوء سيارة نوع تويوتا بيك اب (Toyota Pick Up) تسير ببطء قادمة باتجاهنا, لوح لنا سائقها بيده . . غمرتنا الفرحة . . آه يا لغبائنا, تبسم لنا السائق عندما اقتربنا منه وقال لنا أسرعوا قبل أن يتمكن الحرس من الإمساك بكم . .

بسرعة غير اعتيادية رمينا أجسامنا في داخل بدن السيارة الخلفي, عندها سئلنا سائق البيك اب إلى أين انتم متجهون؟, أجبناه على الفور: إلى أي نقطة خارج أسوار المعسكر أو مكان بعيد عن مكامن هذا الشبح رجاءا . .

ـــ أجابنا بكل سرور سوف أساعدكم أنشاء الله . .

انطلقت السيارة بسرعة غير اعتيادية ولاحظنا بأنه بدأ يتكلم من خلال جهاز لاسلكي خاص مع جهة عسكرية – الويل لنا كم نحن أغبياء ومغفلين – اقتربت السيارة من المعسكر بعد أن خففت سرعتها , أدركنا شناعة وقبح هذا السائق المتواطئ مع رجالات المعسكر, قفزنا جميعنا إلى الأرض وقفزت معنا أرواحنا تتوسل إلينا أن نركض بأقصى ما نستطيع وفعلا تمكنا من الاختباء في مكان منخفض مظلم حتى هدأت عملية البحث عنا لكنهم قاموا بنصب سيطرات ودوريات في كل الاتجاهات . . .

في تلك الليلة لم يكن أمامنا إلا طريق واحد للإفلات من ألغام الدوريات المزروعة أمامنا – لقد قررنا أن ننسحب إلى الجانب الخلفي للمعسكر والذي يحتاج إلى وقت طويل ومشوار كبير من المشي , وبينما نحن نقطع المسافات تلو المسافات في الصحراء ذات الكثبان الرملية والخوف والقلق يسمر أقدامنا بين الحين والحين , التفتنا صدفة فوجدنا بأن الأخ محمد ليس معنا – صرخنا بصوت هادئ : " محمد - رجاءا ليس الوقت وقت مزاح نحن في مشوار صعب , لا تحاول اللعب على أعصابنا" , إلا أن محمد لم يظهر ولم نسمع له صوتا أو حركة – تجاهلنا المسألة واعتقدنا بأن محمد ما زال يفكر في ترويعنا في هذه الصحراء ذات الرمال المتحركة . .

بعد اقل من ثلاث دقائق اختفى صلاح بدون أن نشعر به, التفتنا أنا ورياض فلم نجد صلاح, والغريب في الأمر إن الطريق الذي نسير فيه خالي من الأشجار أو الحواجز أو البنايات التي ربما تحجب الرؤيا . . .

في تلك اللحظة انعقد لساننا , تسمرت أقدامنا, تبخرت الكلمات , ماتت في داخلنا الصيحات, وغلب علينا الخوف الشديد - نحن الاثنين المتبقين , حاولت أن امسك برياض وحاول رياض أن يمسك بي هو الآخر , كنت أتصور في تلك اللحظة أيهما سيكون الضحية القادمة أنا أم رياض – ارتسمت في ذهني في تلك اللحظة العصيبة حكايات ألف ليلى وليلى – حكايات الجن والطنطل , تجمدت أنفاسنا , مسكنا بأيدينا وتعانقنا بصمت وخوف وحذر وارتعاش كلي في الأطراف – عندها سمعنا صوتا يصرخ : رياض , احمد ساعدوني – انه صوت محمد , التفتنا إلى جهة الصوت المنادي وإذا بـــ محمد ساقطا في منخفض وبعد لحظات عثرنا على صلاح هو الآخر ساقطا على وجهه . . .

رجع الدم إلى عروقنا ودبت الحياة في أطراف جسدينا أنا ورياض وبدأ محمد وصلاح يشرح لنا ما حدث لهما ولكنهما لم يوضحا لنا ما هو السر وراء تلك الظاهرة الغريبة – هل هنالك حقا طنطل أو جن خطفهما ومن ثم أطلق سراحهما – حمدنا الله وشكرناه وأكملنا المسير الليلي في الصحراء الطويلة وتمكنا من الوصول إلى الطريق الأمين الذي يهدينا ويبعدنا عن جراد وأفاعي دوريات المعسكر الفرعوني – كان البيت الأقرب إلى ضيافتنا هو بيت صلاح نصار وكان ذلك حوالي في تمام الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل, حيث تفاجئ والده من هول المشهد التراجيدي عندما شاهدنا والتراب يعلو أطرافنا ورؤوسنا خالية من تاج الشعر والكدمات والضربات تلون وجوهنا, ساعتها تألم على حالنا وأغرورقت عيناه بالدموع وقال الحمد لله على سلامتكم يا أبنائي . .

* * *








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنان بولندي يتضامن مع فلسطين من أمام أحد معسكرات الاعتقال ال


.. عندما يلتقي الإبداع بالذكاء الاصطناعي: لوحات فنية تبهر الأنظ




.. إسرائـ.يل سجنتني سنتين??.. قصة صعبة للفنان الفلسطيني كامل ال


.. عمري ما هسيبها??.. تصريح جرئ من الفنان الفلسطيني كامل الباشا




.. مهرجان وهران للفيلم العربي يكرم المخرج الحاصل على الأوسكار ك