الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بريجنسكي والسجال الذي يتكرر دون أن يتجدّد: خيار أمريكا في العالم المعاصر: هيمنة أم ريادة؟

صبحي حديدي

2004 / 5 / 22
مواضيع وابحاث سياسية


في كتابه الجديد، "الاختيار: هيمنة عالمية أم قيادة عالمية"، والذي صدر قبل أسابيع معدودات، يحاول زبغنيو بريجنسكي تحديد موقع الولايات المتحدة في هذا العالم المعولَم، والقضايا التي تجابه السياسة الخارجية الأمريكية، كما يقترح سلسلة أطروحات خلاصية أو ــ في أضعف الإيمان ــ طهورية متسامية حكيمة عقلانية... في سنة الانتخابات الرئاسية الكبيسة هذه!
ورغم أنّ الكتاب صغير الحجم، 242 صفحة، فإنّ المرء يسجّل لبريجنسكي براعة واضحة في ضغط المسائل داخل برشامات سهلة التناول، إذا جازت الاستعارة هذه، تاركاً كما يبدو صداع الخوض في تفصيلاتها الشائكة لسواه من ثقاة وعلماء السياسة الخارجية الأمريكية. أطروحته بسيطة، وإنْ كانت حصيلتها عكسية وتبعاتها خطيرة وعواقبها وخيمة: الواقع العالمي بعد الحرب الباردة و9/11 وضع الولايات المتحدة في موقع فريد لأمّة قادرة على تأمين الاستقرار العالمي من خلال السيطرة العسكرية، وقادرة في الآن ذاته على تهديد الاستقرار الدولي من خلال الوسيلة العسكرية إياها. وإدارة جورج بوش، بصفة خاصة، أمام واحد من اختيارين: إمّا الهيمنة على العالم، أو قيادته. والمؤشرات المتوفرة تقول إنّ هذه الإدارة تميل، على نحو خطير، نحو الخيار الأوّل.
ولكن قبل استعراض المزيد من أفكار هذا الكتاب، لعلّنا بحاجة إلى أن نتذكّر أنّ هذا الرجل الذي ينطق اليوم بالحكمة ليس سوى الرجل ذاته الذي كان مستشار الأمن القومي في عهد جيمي كارتر، والمهندس الأبرز (حسب معظم التحليلات) وراء توريط السوفييت في أفغانستان، ثمّ إطلاق تلك الصناعة الجهادية التي أعطت الطالبان والأفغان العرب وأسامة بن لادن... وتتمة المسمّيات والأسماء التي تقضّ مضجع أمريكا اليوم!
وفي حوار شهير نشرته أسبوعية "لونوفيل أوبزرفاتور" الفرنسية سنة 1998، أعترف بريجنسكي بأنّ البيت الأبيض هو الذي استدرج السوفييت ودفعهم إلى خيار التدخّل العسكري، وذلك بعد انكشاف مخططات المخابرات المركزية الأمريكية لتنظيم انقلاب عسكري في أفغانستان. وحول ما إذا كان يندم اليوم على تلك العملية، ردّ الرجل: "أندم على ماذا؟ تلك العملية السرّية كانت فكرة ممتازة. وكانت حصيلتها استدراج الروس إلى المصيدة الأفغانية، وتريدني أن أندم عليها؟ في يوم عبور السوفييت الحدود رسمياً، كتبت مذكرة للرئيس كارتر أقول فيها ما معناه: الآن لدينا الفرصة لكي نعطي الإتحاد السوفييتي حرب فييتنام الخاصة به".
ولكن، يسأله الصحافي الفرنسي فانسان جوفير، ألا يندم أيضاً على دعم الأصولية الإسلامية وما أسفر عنه ذلك الدعم من تدريب وتسليح إرهابيي المستقبل؟ يجيب بريجنسكي: "ما هو الأكثر أهمية من وجهة تاريخ العالم، الطالبان أم سقوط الإمبراطورية السوفييتية؟ بعض الهائجين الإسلاميين، أم تحرير أوروبا الشرقية ونهاية الحرب الباردة"؟
ولكن ألا يُقال ويُعاد القول إنّ الأصولية الإسلامية تمثّل اليوم خطراً عالمياً؟ يردّ بريجنسكي: "كلام فارغ!"، قبل أن يتابع: "يُقال لنا إنه ينبغي على الغرب اعتماد سياسة متكاملة تجاه النزعة الإسلامية. هذا غباء: لا توجد إسلامية عالمية. فلننظر إلى الإسلام بطريقة عقلانية لا ديماغوجية أو عاطفية. إنه الدين الأوّل في العالم، وثمة 1.5 مليار مؤمن. ولكن ما هو الجامع بين أصوليي المملكة العربية السعودية، والمغرب المعتدل، والباكستان العسكرية، ومصر المؤيدة للغرب أو آسيا الوسطى العلمانية؟ لا شيء أكثر ممّا يوحّد بلدان الديانة المسيحية".
هل يؤمن بريجنسكي بهذا الكلام اليوم؟ وهل يوافق على أنّ الولايات المتحدة لا تحصد أكثر من ذاك الذي زرعته في أفغانستان وسوى أفغانستان؟ وهل إنّ الحديث عن أصولية إسلامية هو كلام فارغ اليوم أيضاً، كما في عام 1998 تاريخ حوار بريجنسكي مع المجلة الفرنسية، أو في عام 1979 حين زفّ مستشار الأمن القومي الأمريكي البشري إلى رئيسه: سيّدي الرئيس، لقد أهدينا الروس فييتنامهم؟
دعونا، أيضاً، نعود إلى عمل فكري سابق وضعه بريجنسكي على خلفية لا تشبه البتة ما يجري اليوم بصدد شؤون وشجون الهيمنة/القيادة الأمريكية للعالم. في "الإنفلات من العقال: حول الاهتياج الكوني عشية القرن الواحد والعشرين"، جادل بريجنسكي بأن التاريخ لم ينته بعد على طريقة فوكوياما، بل انضغط وتكثّف على طريقة بسمارك. وبينما شهد الماضي بروز الأحقاب جنباً إلى جنب وبتباين حادّ بعض الشيء يتيح تكوين معنى ما للتقدّم التاريخي، فإننا اليوم نشهد سيرورة مركبة من الإنقطاعات الحادة التي تتصادم فيما بينها، وتكثف إحساسنا بالمنظور الراهن إلى درجة منعنا من تكوين إدراك أوالية التطوّر ذاتها. في عبارة أخرى: نحن اليوم نعيش في عالم مختلف تماماً عن العالم الذي رغبنا ــ بل وشرعنا ــ في فهمه، وهو مرشح لكي يكون أكثر اختلافاً واغتراباً عن مدركاتنا حين تحلّ ساعة الحقيقة التي نؤجلها حيناً، ونسدل عليها الأستار الرمزية الزائفة حيناً آخر!
كلام فلسفي ثقيل، وكلام مدهش إذ يصدر عن سوبرمان الأزمات ورجل تحطيم الأقواس ("قوس الاسلام التاريخي" على سبيل المثال) أينما تشكلت في العالم، ونبيّ الردع الذي أطلق مفهوم التدخل السريع في عهد كارتر، ثم أسلمه وديعة ثمينة إلى خلفائه من مستشاري الأمن القومي الأمريكي. استمعوا إليه يقول في الصفحة الثانية من كتابه: "إن قدرتنا على فهم تشعبات الحاضر ـ لكي لا نقول المستقبل ـ يكبّلها الانهيار الهائل في القيم الناجزة، سيما في الأجزاء المتقدّمة من العالم. لقد جرى إعلان إفلاس الأنظمة التوتاليتارية، وهذا أمر مبهج. ولكن دور الدين في تعريف المفاهيم الأخلاقية أخلى مكانه أيضاً لأخلاقيات استهلاكية تتخفي تحت قناع البديل الأخلاقي".
ورغم انبثاق سيرورة سياسية كونية وحيدة ومتبادلة التأثير، فإن "عجز الولايات المتحدة عن ممارسة السلطة الكونية الفعلية يمكن أن ينتج حالة من الاحتقان العالمي بدل الاستقرار. وعلى المستوى الجيو ـ سياسي سوف يترجم هذا الموقف نفسه في تصاعد الأزمات الإقليمية الناجمة عن انهيار الإمبراطورية السوفييتية، كما سيترجم نفسه في فقدان الثقة بالباعث الديمقراطي الليبرالي ذاته قياساً على التجارب الفاشلة أو المتعثرة في بولونيا وهنغاريا وتشيكيا وروسيا وما إليها".
هذه هي سياسة "الجنون المنظّم" كما أسماها بريجنسكي من قبل، وهي السياسة التي رسمها ونفذّها وأدارها "مهندسو اليوتوبيا القسرية" حسب تعبيره. هل تعلمت البشرية دروس التاريخ؟ هل ستكون الرؤية التاريخية في القرن الجديد أكثر نضجاً في تعاملها مع الجنون السياسي الذي ساد القرن العشرين؟ هل من الممكن اليوم التفكير بإجماع ليبرالي ـ ديمقراطي، أو بديمقراطيات سوق إجماعية ليبرالية، على نطاق عالمي؟ وهل يقدّم مفهوم الديمقراطية الليبرالية ذاته إجابات ذات معنى حول الأزمات الناشبة والمعضلات الجديدة الخاصة بالوجود الاجتماعي قبل الوجود السياسي؟
بريجنسكي في هذا العمل الفكري رجّح إجابة مركبة تفيد النفي الواقعي والتأكيد المأمول، متكئاً على "ميل العقائد الصغرى إلى تحقيق انتصارات صغرى مؤقتة، وعلى ميل العقائد الكبرى إلى تحقيق انتصاراتها في منطقة محايدة حساسة بين الواقعي والمتخيل". وللذين يستغربون هذه الجرعة الفلسفية العالية في كلام بريجنسكي، ثمة تفسير واحد كافٍ: لقد استند الرجل إلى خزان فلسفي عامر هو (صدّقوا أو لا تصدّقوا!) أفكار الناقد والفيلسوف البنيوي البلغاري ـ الفرنسي تزفيتان تودوروف حول خطاب تعايش الذات مع الآخر، وإلى إفكار الفيلسوف الفرنسي جان ـ فرانسوا ليوتار حول الشرط ما بعد الحداثي والتصارع بين الحكايات الصغرى والحكايات الكبرى، وأخيراً إلى أفكار الفيلسوف الإيطالي بنديتو كروتشه حول "جماليات الإنهيار الحضاري"!
اليوم، في "الاختيار: هيمنة عالمية أم قيادة عالمية"، يقول إنّ الهيمنة العالمية (والصفة العالمية Global تعني هنا مفهوم العولمة أساساً) هي وهم عفا عليه الزمن، في حين أنّ القيادة العالمية المرتكزة على حقوق الإنسان و الاعتماد المتبادل هي الخيار الوحيد الصالح لمستقبل أمريكا. من الواضح أنّ العالم يعيش حال انتقال تاريخية، وفي رأي بريجنسكي فإنّ الولايات المتحدة هي القوّة العسكرية والثقافية الدافعة التي توجّه ذلك التحوّل، شاءت أمريكا ذلك أم أبت. غير أنّ السؤال، مع ذلك، يظلّ التالي: ما هي رؤية أمريكا لذلك المستقبل، وكيف سنبسط تلك الرؤية على امتداد العالم؟
غير أنّ بريجنسكي يجد نفسه مضطراً إلى نبذ الكثير من البلاغة الجوفاء حين يطرح الأسئلة الملموسة، كما في هذا المثال: إنّ قوّتنا العسكرية تؤدّب باضطراد دور الشرطي الكوني، في حين أنّ القوّة الأمريكية في الثقافة والاقتصاد (وهي القوّة التي نهضت على قرنين من الحرّيات الفردية والتطوّر الاقتصادي) تهدّد الأوضاع القائمة في بلدان مثل السعودية وإيران، لكي لا نتحدّث عن فرنسا وروسيا!
إنه يريد نظرة للدور الأمريكي العالمي أوسع وأكثر تعقيداً من النظرة التي تتداولها اليوم وسائل الإعلام والقيادة السياسية. نحن شرطيّ العالم، يقول بريجنسكي، ولكن ينبغي أن نبدو في صورة الشرطي العادل. ويحقّ لنا أن نتمتّع بمستوى من الأمن أعلى ممّا تتمتّع به الأمم الأخرى لأننا نجازف أكثر من سوانا، ولكننا في الآن ذاته أبرز المبشّرين بالحريات الإنسانية الجوهرية اللازمة من أجل الارتقاء بالعولمة إلى مصافّ أعلى...
والحال أنّ قراءة كتاب بريجنسكي على خلفية وقائع حديثة، مثل البربرية الأمريكية في سجن أبو غريب أو النازية الإسرائيلية في رفح أو خطاب جورج بوش أمام "اللجنة الأمريكية ـ الإسرائيلية للشؤون العامة"، الـ "إيباك"، سوف تفقد أطروحات الاختيار من معظم جدواها الفكرية، لكي لا نقول إنها تسحبها ببساطة من السجال. وهو أمر لا يغيب عن حسابات بريجنسكي نفسه في الواقع، إذْ يأسف لأنّ إدارة بوش مصممة على فصل الحرب ضدّ الإرهاب عن مصادر الإرهاب السياسية والتاريخية. وهو يقول: "إنّ نزوع أمريكا في ربيع 2002 إلى تبنّي أشكال أكثر تطرّفاً من القمع الإسرائيلي للفلسطينيين كجزء من الصراع ضدّ الإرهاب، هو مثال بيّن [على ذلك الفصل] وإنّ العزوف عن الإقرار بالرابط التاريخي بين صعود الإرهاب المعادي لأمريكا وبين التورّط الأمريكي في الشرق الأوسط يزيد من صعوبة صياغة ردّ استراتيجي فعّال ضدّ الإرهاب".
وذات يوم سألت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت، في تعليق على انفجارَي نيروبي ودار السلام، عن الأسباب التي تجعل الأمريكي مستهدفاً هكذا، رغم أنه قائد العالم الحرّ رائد الحرية والديمقراطية والتسامح. ولقد أجابت نفسها بنفسها: "لأنّ أبناء أمريكا يمثّلون بلداً هو الأعظم عالمياً في الدفاع عن الحرية والعدالة والقانون. ربما لأننا نمثّل قِيَم التسامح والانفتاح والتعددية، التي تنهض الآن في كل جزء من أجزاء العالم. ربما لأننا أقوياء، ولأننا نستخدم قوّتنا لحلّ النزاعات التي يريد البعض الإبقاء عليها إلى الأبد"!
والحقّ أنّ كتاب بريجنسكي، حتى دون أن يشاء مؤلفه، يزوّد البشرية بإجابة أخرى مختلفة: لماذا لا يدرك الأمريكي أن ثمن الريادة والقيادة يمكن أن يُسدّد بالدماء، ما دامت ريادة أمريكا وقيادتها تنهض في قسط كبير منها على سفك الدماء... دماء الآخرين؟









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رهان ماكرون بحل البرلمان وانتخاب غيره أصبح على المحك بعد نتا


.. نتنياهو: سنواصل الحرب على غزة حتى هزيمة حماس بشكل كامل وإطلا




.. تساؤلات بشأن استمرار بايدن بالسباق الرئاسي بعد أداءه الضعيف


.. نتائج أولية.. الغزواني يفوز بفترة جديدة بانتخابات موريتانيا|




.. وزير الدفاع الإسرائيلي: سنواصل الحرب حتى تعجز حماس عن إعادة