الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هدوء نسبي

عباس عبود سالم
كاتب وإعلامي

2009 / 9 / 7
الادب والفن


لايقتصر الاعلام اليوم على انتاج البرامج والنشرات الاخبارية، التي تتغذى على الاحداث اليومية، والتصريحات والعراك الكلامي، فاعلام اليوم الذي اختصر ارجاء الدنيا الواسعة وتناقضات العالم في شاشات لاتتجاوز ابعادها سنتمترات معدودة، اخذ يتخطى اساليبه وادواته واغراضه التقليدية، نحو استخدام الفنون والاداب وتطويعها لصالحه، لياكل من جرفها، متجاوزا النظريات التقليدية للابداع، ليحلق باجنحة التكنولوجيا الرقمية، مؤتمرا باوامر القابضين على السلطة والمال.
ولكن لشديد الاسف مازلنا نتعاطى مع (الميديا) بمحدودية تعزلها عن شموليتها لمجالات مختلفة من الابداع، ومازلنا اما مترددين خجولين من الدخول في معترك قضايا حساسة وهامة، او نتناول مثل هذه القضايا بتجن وحقد، مدفوع بمصالح خاصة قائمة على المتاجرة بالوطنية، وهو ما قامت به فضائيات عراقية، دابت على خلق المشاهد التافه، وتوظيف الدراما والفنون الاخرى لصناعة التفاهة.
وكلنا نعلم ان كما هائلا من الاحداث عاشها العراق وهي تنتظر المعالجة الدرامية واعادة انتاجها ابداعيا، لرسم خارطة الوعي لدى المتلقي العراقي، وتحصينه من الاختراقات الخارجية سواء كانت مدروسة اوعشوائية.
وفي نفس هذا السياق يتسائل الروائي السوري الحاصل على جائزة البوكر العربي (خالد خليفة) بقوله "كيف ان حدثا بهذا الحجم يقف امامنا ولا احد يقدم عنه شيء" ويقصد بالحدث الهائل هو سقوط نظام صدام او (سقوط بغداد) حسب الادبيات العربية، وخليفة في عبارته هذه يعلل سبب خوضه تجربة التعاطي مع حرب العراق، في روايته (بغداد زمن الحب والحرب) او (هدوء نسبي).
وعلى هذا الاساس قدم خليفة هذه الرواية او النص الدرامي، الذي اريد له ان يكون مميزا، عندما وضع بين يدي المخرج التونسي شوقي الماجري، الذي هو الاخر يمتلك لمسات عالمية ميزته من خلال اعمال جلبت اليه الاضواء والاهتمام، مثل ابو جعفر المنصور ،و اسمهان، وسلسلة اعمال ناجحة اخرى.
وفي هدوء نسبي الذي مولته اربع جهات انتاجية من ثلاث دول عربية، نجد انفسنا مع عمل ضخم يقال ان ميزانيته تجاوزت الاربع ملايين دولار، وشارك في ادائه اكثر من (273) ممثل من عشر بلدان عربية واجنبية، تنقلت اطقم التصوير فيه بين (170) موقعا، بين ازقة وساحات حماة، وتدمر السورية الاقرب شكلا لمدينة بغداد، ثم الى شوارع وميادين القاهرة لاضفاء شيء من الواقعية.
وللمبالغة في الواقعية تم تصميم الالات الحربية والاجهزة والمعدات والملابس، لتكون اقرب الى الحقيقة، لا بل ان المخرج شوقي الماجري كان حريصا على ان يتحدث ابطال العمل بلغاتهم الاصلية، الانكليزية، الفرنسية، بل حتى اللهجات العربية اديت كما هي، والعراقية على وجه الخصوص اديت لاول مرة بشكل لائق.
ولكن دقة المخرج والكاتب بالشكل، لم تقرن بدقة في المضمون، من نواح عدة، حيث ادخل صناع العمل انفسهم في اشكالية تاريخية من خلال تعاملهم مع الحدث من منظور رمزي، فلم يكن العمل تسجيل واقعي لوقائع التغطية الصحفية لحرب العراق 2003 فلا الشخوص هم الشخوص، ولاالقنوات هي نفس القنوات، ولا الاحداث هي نفسها الاحداث.
وبصورة اوضح كان العمل قد تظاهر بتناول قضية عربية من على الارض والبيئة السياسية والاجتماعية العراقية، فكان العراقيون هم الثانويين في الحظور، اما محور العمل فهو صحفي سوري وصحفية مصرية، يعيشون قصة حب في هدوء نسبي، يتخلل الضعف والدمار العراقي والعجرفة الامريكية، وهي خدعة لجأ اليها صناع العمل الدرامي للهروب من مواجهة محتملة مع من يطالبهم بتفسيرا واضحا لما حدث.
ففي هدوء نسبي لم تسلط الاضواء على الحقيقة كما هي بل كان هناك توزيع انتقائي للحقيقة، وكان التركيز واضحا على العرب الذين تألموا لسقوط بغداد، فمنهم الصحفي الواقف خلف الكاميرا وهو لايقوى على التحكم بانهمار دموعه، والمقاتل الذي عبر الحدود (ليجاهد) بنفسه، (حبا) ببغداد مدينته، اما العراقيون فهم اما جنود يجرون اذيال الهزيمة قي لقطات مذلة، او لصوص وسراق، او مستأسدين على ابناء جلدتهم، مبادرين الى تهديد بعضهم البعض على اساس مذهبي وقومي وهذا بخلاف الواقع، حيث اظهر العراقيون في تلك الفترة، تماسكا مجتمعيا اثار انتباه العالم.
وعمد صناع الهدوء النسبي على تضخيم الاخطاء الامريكية والتخفيف من حجم الجرائم الارهابية، وتحسين شيء من الصور القبيحة لمن كان السبب بخراب العراق قبل مجيء الاميركان، ومن اكمل الخراب بعد دخولهم بغداد، فقد نصب صناع المسلسل انفسهم قضاة ليحكموا على العراقيين بالتخاذل او الخيانة، وعلى الامريكان بالعجرفة والعدوان، وعلى الوافدين الى العراق من خارج الحدود بالاقدام والشجاعة، وعلى سائر البعثيين بانهم ضحية ماحدث.
وطالما كان العمل يتعلق بعمل الاطقم الاخبارية التلفزيونية، كان المخرج بحاجة الى خبير في انتاج وصناعة الاخبار، ليعمل على تنسيق طريقة وقوف المراسل خلف الكاميرا، وتقنين هذيان المراسلين وسوقهم الكلام الانشائي بأسفاف، لايليق بمستوى من يغطي حدثا هاما، حتى في ناحية اعداد التقارير، وكيفية التغطية، لابل حتى سيارات النقل الخارجي ظهرت على انها سيارات (مني باص) لنقل الاطقم الاعلامية بهدف التجوال في شوارع بغداد، اكثر من كونها عربات sng باهضة الثمن.
ولانريد ان نتوسع اكثر والمسلسل مازال مستمر بالعرض ولم ينهي حلقاته، لكن مايهمنا من الامر هو ان نراجع انفسنا مجددا، للتفكير الجاد في تشريح قضايانا الحساسة، واعادة انتاجها عراقيا، فنحن نمتلك المبدعين، لكننا لا نمتلك المؤسسات التي توظف الابداع، وهنا لابد لنا من وقفة للتامل في مفهومنا للميديا وتوظيفها لصالح قضايانا المصيرية بشكل مخطط، قبل ان تتحول الى الغام تنسف طريقنا الصعب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية


.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-




.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ


.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ




.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني