الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متى يعتذر الغرب للشعب المصري

مهدي بندق

2009 / 9 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


عن سؤال وكالة آنسا الإيطالية ، حول عبارة إحراق الكتب – والتي ُأريد لها أن تكون بمثابة كعب آخيل يتلقي فيه المرشح المصري لليونسكو السهم القاتل – قال فاروق حسني " ببساطة جاءت هذه العبارة في سياق الرد على أحد الأصوليين من أعضاء البرلمان ، حيث كان يدعي وجود كتب إسرائيلية تسئ للإسلام في المكتبات العامة ( وهذا غير صحيح ) فكانت الإجابة عليه باستخدام صيغة ِ مبالغة ، وكانت الصيغة للأسف مبتذلة " أ.هـ
بهذا النقد الذاتي رفيع المستوى ، استطاع فاروق حسني أن يبرهن على شجاعة وتحضر المصريين ، وقدرتهم على تجاوز الأخطاء ( الكلامية في غالبها الأعم ) جنبا ً إلى جنب حرصهم على مسايرة الاتجاهات المستقبلية في الفكر والعلم والفنون والآداب ؛ إيمانا ً منهم بأن غياب النقد الذاتي إنما يعني في التحليل الأخير تضخم الذات ، وانكفاءها على نفسها بما يؤدي للجمود والتحجر فالذبول والانقراض .
هكذا استطاع الفنان الوزير المصري أن يقلب السحر على الساحر ، حاصدا ً من المعسكر المضاد زادا ً مضافا ً لمئونته الانتخابية ، فبجانب التأييد الجماعي له من الدول العربية ودول المؤتمر الإسلامي ، والإتحاد الإفريقي ، اضطرت أمريكا وإسرائيل أن تعلنا عدم ممانعتهما في تبوئه المنصب ، وبذلك بات انتصاره في المعركة الانتخابية مسألة ساعات أو أيام .
فأين هذا الوعي المصري البازغ بضرورة ممارسة النقد الذاتي كوسيلة لتجاوز الأخطاء ، تقدما ً إلى مستقبل إنساني أرقى وأفضل ، من ذلك الاستعلاء والاستكبار في ثقافة الغرب ؟ ثمة لا يزال مثقفون يعتمدون نظرية " المركزية الأوربية " European Centrismوخلاصتها أن التحديث والتقدم لا سبيل إليهما إلا بإتباع الطريق الذي سارت فيه أوربا والغرب ( أمريكا حاليا ) وينسى هؤلاء أن الثراء الفاحش الذي حققه الغرب من خلال النظام الرأسمالي ، ما كان له أن يتحقق بدون حركة الاستعمار التي نزحت المواد الخام رخيصة ً من المستعمرات ، محولة تلك المستعمرات إلى مجرد أسواق لفائضها الإنتاجي ، فكان أن ُأنزلت الويلات ُ والكوارث ُ ، خارجيا ً وداخليا ً بدول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية عموما ً ، والعالم العربي والإسلامي على وجه التحديد .
يسأل جاك ليمون ( فيلم المفقود ) السفيرَ الأمريكي في شيلي عام 1973 : لماذا ، ونحن أثرياء ندبر انقلابا ً عسكريا ً في هذا البلد الفقير، نغتال به الوطنيين وفي مقدمتهم رئيس الدولة المنتخب سلفادور إلليندي ؟! فيرد السفير بوقاحة صادقة مذهلة : أنت تعيش بمستوى راق في أمريكا ، وهذا لا يتحقق إلا بتدخلنا هنا لضمان شراء المواد الخام ( النحاس ) بالسعر المناسب لصناعاتنا . الأمر ذاته حدث قبلا ً في إيران بسبب تأميم البترول عام 1952 حيث رتبت المخابرات الأمريكية انقلاب الجنرال زاهدي ضد الزعيم الوطني محمد مصدق الذي تم إعدامه . وهو بعينه ما حدث بعد ُ عام 2003 غزواًً للعراق لضمان السيطرة على النفط .
بالنسبة لمصر فلقد تلقت من الغرب الحديث ضربات مروعة ، لا لشئ سوى محاولتها اللحاق بركب التقدم ، اهتداء " بمنارة " المركز الأوربي ! أجهضت انجلترا وفرنسا وروسيا مشروع الوالي محمد علي بتدمير أسطوله البحري وهزم جيوشه ، وإجباره – بمعاهدة لندن 1840 - على تفكيك مصانعه وإيقاف إصلاحاته في مجالات التعليم والتصنيع وبناء الدولة المدنية الحديثة . وحين قامت الثورة العرابية بغرض استعادة مسيرة الإصلاح السياسي والاقتصادي أسرع البريطانيون " الديمقراطيون " باحتلال مصر بحجة لا يسوقها إلا مجرم عريق فاجر " عرابي يرمم طوابي الإسكندرية ، وهذا يعد تهديدا ً للأسطول البريطاني في عرض البحار !! "
كنت في السابعة يوم اشتعلت حرب فلسطين ، حكا لي جدي : في مثل عمرك من ستة وستين عاما رأيت منزلنا في حارة السيالة بحي الأنفوشي هذا ، كومة ً من الأحجار والحريق . ُقتل أبي وأمي وأخوتي الخمسة في لحظة أمام عينيّ . فيما بعد قيل لي إنني مكثت أعوى كذئب مطعون يومين كاملين . وفيما بعد أيضا ً علمت أنني ُحملت كالمتاع ضمن أطفال جيران لنا طيبين .. إلى أين ؟ لا أدري فالمدينة خلت تماما من سكانها بعد أن دمرت منازلها ومساجدها وكنائسها ودكاكينها بقنابل الأسطول ، حتى أنه لم يبق بها سوى الكلاب الضالة ، والغربان الجائعة تنهش جثث القتلى وتجهز على الجرحى ، بينما الحرائق لا تتوقف أو يعكر على انتشارها رجل إطفاء أو سقـّاء .
هكذا تكلم جدي قبل أن يموت كفيف البصر .
لأكثر من سبعين عاما ً والمصريون يرزحون تحت نير الاحتلال . يتجرعون السم في أشربتهم وهم يرون المحتل يتبختر بثقيل أحذيته في دروبهم ، يشاقون بمطعمهم بينا يعملون في بلدهم لصالحه دون صالحهم ، وكم قاوموا وكم ثاروا وكم فقدوا من شهداء وضحايا ! وحين نجحوا أخيرا ً بعد مفاوضات أليمة في إجلاء جيوشه عام 1954 لم تمكث انجلترا " الحانث " England the liar غير عامين إلا وعادت بصحبة الجيوش الفرنسية والإسرائيلية بالذريعة التقليدية " مصر أممت قناة السويس فحق ضربها واحتلال أراضيها وإسقاط نظامها " ولكن إزاء فشل العدوان الثلاثي في انجاز هدفه السياسي ، راحت أمريكا تخطط لإسرائيل كي تحطم الجيش المصري ، حتى تخضع مصر جميعا ً لإرادتها ، وهو ما لم يحدث سياسيا ً رغم هزيمة يونيو العسكرية القاسية . فلسوف يذكر التاريخ للمصريين أنهم تمكنوا من إعادة بناء قواتهم المسلحة في بضع سنين ، وأن يقتحموا بها أكبر مانع مائي في التاريخ ( خط بارليف ) وأن ينزلوا الهزيمة بالجيش الإسرائيلي ( الذي لا ُيقهر ! ) ليستعيدوا في النهاية كامل ترابهم الوطني .
ومع ذلك لابد من الاعتراف بأن مصر ظلت تعاني وحتى الآن من آثار تلك الضربات " التاريخية " اقتصاديا ً وسياسيا ً واجتماعيا ً، وهو ما يفسر ظاهرة التراجع المجتمعي الحالي عن توفير شروط الدولة العصرية بما تعنيه من المساواة الكاملة بين المواطنين ، دون النظر إلي أديانهم أو عقائدهم أو جنسهم ( ذكر / أنثى) أو لونهم ، وبما تعنيه ثانيا ً من إزالة كل عقبة أمام التنمية البشرية بما فيها بيروقراطية الدولة ، وبما تعنيه ثالثا ً من إسقاط كل قيد على حريات الأفراد سواء في التفكير أو التعبير أو الاعتقاد أو التنظيم..الخ . ولأن هذه الشروط هي التي تؤسس للديمقراطية ، فإن غيابها لا ريب يضع الديمقراطية في زنزانة القرون الوسطي حيث تعذب بالجلد والرجم والصلب .
السؤال الأهم في هذا السياق هو : هل الغرب مسئول عن تغييب تلك الشروط عن مجتمعاتنا ؟ نعم هو مسئول بقدر ما أدت ممارساته الوحشية إزاءنا إلي ترسيخ التخلف لدينا . فليس سرا ً أن المجتمعات التي ُتحجب عن سباق التقدم والتنافس النشط مع غيرها من سائر الأمم ، لا مندوحة أمامها من أن تبحث عن أمانها النفسي في ماض ٍ توحي مخايلاته Imaginaries بالثقة ، وعليه يكون شأنها شأن من يضع العصا في دولاب التروس ليمنعها من الدوران ، بحسبان الدوران – فيما يظن – إنما يقود الناس إلي البدع والضلال فالكفر الصريح ! دع أحدا ً يفكر على هذا النحو ثم سل من أين يأتي الإرهاب .
طبعا ً الغرب بأنانيته وتوحش رأسمالييه ، وجرائم أجهزة مخابراته، وعدوانية جيوشه مسئول عن ظاهرة الإرهاب التي يزعم رياء ً أنه يحاربها ، بينما هو يعرف كيف ُتصب مياهها في طاحونة مكاسبه . فهل يدرك مثقفوه الشرفاء تلك الحقيقة ؟
ذلك بعض فاتورة الحساب الذي ينبغي أن ُيصَـفـّي بين المثقفين المصريين و نظائرهم من مثقفي الغرب . فإذا كان بعض المصريين قد أخطأوا في حق الآخر المختلف بإطلاقهم لشعارات أو عبارات تحمل شبهة العنصريةRacism من باب رد الفعل على ما نالهم من أذى لقرون عديدة ؛ فإن النخب المصرية المثقفة (والتي هي بطبيعة الحال متأثرة مثل مواطنيها بذلك الأذى ) سرعان ما تفئ إلى الصواب " المستقبليّ " معلنة ً أنها لا يمكن أن تتبنى العنصرية أو توافق عليها بحال من الأحوال.
ومن هنا فإن النقد الذاتي الذي مارسه – شجاعا ً - فاروق حسني قد نقل الكرة إلى ملعب مثقفي الغرب ، حيث صار عليهم أن يمارسوا النقد الذاتي بدورهم على أنفسهم ،وأن يضغطوا بقواهم الفكرية على دولهم ( بالتحديد بريطانيا وفرنسا وأمريكا ، ولا نقول إسرائيل ) لتعتذر للشعب المصري اعتذارا ً واضحا ً لا لبس فيه ولا غموض عما أنزلته به من كوارث ، وما سببته له من آلام .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ترامب يهاجم مجددا مدعي عام نيويورك ويصعد لهجته ضد بايدن | #أ


.. استطلاع يكشف عدم اكتراث ذوي الأصول الإفريقية بانتخابات الرئا




.. بمشاركة 33 دولة.. انطلاق تدريبات -الأسد المتأهب- في الأردن |


.. الوجهة مجهولة.. نزوح كثيف من جباليا بسبب توغل الاحتلال




.. شهداء وجرحى بقصف الاحتلال على تل الزعتر في غزة