الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدرسة اولوغ بيك : جماليات مكان التعلم .. والتعليم

خالد السلطاني

2004 / 5 / 22
الادب والفن


منجز العمارة الاسلامية ( 5 )
عمارة مدرسة " اولوغ بيك " في سمرقند :
جماليات مكان التعلـّم .. والتعليـم

في دراسة سابقة عن العمارة الاسلامية ، اشرت الى بعض خصائص تلك العمارة الفطنة المبجلّة ، التى عدّ انجازها صفحات مضيئة في سجل العمارة العالمية ، وهي عدم وجود انفصال او قطيعة بين طبيعية المنشآءات الدينية والدنيوية ، ذلك الانفصال الذي يحلو للبعض من الدارسين لتلك العمارة ، التأكيد عليه والتشديد على حضوره كأمر مسلم به ، حاله حال القطيعة بيم هذين النوعينمن المباني التى طبعت عمارة بعض الحضارات الاخرى . واذا كان مثل هذا الشأن امراً ملازما لتلك الحضارات فان خصوصية المجتمع الاسلامي وتقاليده لا تقرّ بمثل هذا الطرح ولا تلتزم به ؛ لاعتبارات معروفة ، ليس المجال هنا ، يسمح باعادة التذكير بها .
وباختصار شديد ، فليس ثمة خط فاصل بين وظائف الابنية الدينية والدنيوية في العمارة الاسلامية ، فهناك تراكب كبير بينهما ، وتداخل تشابطي اكبر بين وظائف تلك الابينية وغاياتها ؛ تراكب ونداخل يجعلان من مبانني الحواضر الاسلامية مبانٍ جاهزة لان تنهض باداء الواجبات الدينية والدنيوية معاً .
وقد يكون هذا ، هو احد الاسباب الموجبة التى جعلت مباني المدينة الاسلامية تنطوي على قدر واضح من الابعاد الةاسعة والمقاسات الكبيرة ، والتى لا مثيل لها في الممارسة البنائية للحضارات الاخرى . من جانب اخر تظل تكوينات الابنية الاسلامية محتفظة بسمة بارزة اخرى ، وهي خاصية التنوع الوظيفي والتعدد المهماتي في مخططات تلك الابنية . بمعتى اخر ، ان طبيعة " دالة " المخطط التصميمي لا تعكس بسهولة " مدلولها " ، فكثير من الابنية في العمارة الاسلامية ذات المخطط المحدد بامكانها ان تنهض باعباء وظيفية متعددة ، وتودي فعاليات مختلفة ؛ اي " ان الشكل هنا ، لا يتبع .. المضمون " ، كما نادت بذلك طروحات " العمارة الحديثة " التى انتشر تأثيرها بصورة واسعة في مناطق جغرافية متعددة في النصف الاول من القرن العشرين المنصرم .

وتمثل مدرسة " اولوغ بيك " فسي سمرقند مثالاً واضحا للقدرة في التعبير عن تلك المبادئ والقيم المعمارية بصورة بليغة وعلى قدر كبير من الفصاحة .
بعود انشاء مدرسة " اولوغ بيك " في سمرقند الى اعوام 1417- 1420 م . وهذه المدرسة هي احدى ثلاث مدارس امر ببنائها الحاكم المتنّور ، المثقف ، والمحب للعلوم " اولوغ بيك " < 1394-1449 م > ، امير بلاد ما وراء النهر وحاكمها ، والمتخذ من ( سمرقند ) عاصمة له ، بعد ان تجزأت الامبراطورية الواسعة التى اسسها جده ( تيمور ) الرهيب . والمدرستان الاخريتان هما مدرسة في " بخارى " < 1418م > ، ومدرسة في مدينة "غيجدوفان " < 1437 م > .
تطلّ مدرسة " اولوغ بيك " على " ميدان ريجستان " المشهور ، والذي سيأخذ لاحقاً هيئته الحالية المعروق بها عقب بناء مدرسة " شير – دور " < 1616-1636 م> ، و مدرسة " طليا- كاري " < 1646-1660 م > .
و " ميدان ريجستان " الذي يعني حرفياً ( الميدلن الرملي ) او ( ساحة الرمال ) كان الاشهر في سمرقند القرون الوسطى . حيث تصب فيه جميع الطرق والشوراع المهمة في المدينة انذاك ، وفي هذا الموقع كانت تتلى البيانات والبلاغات المهمة التى يصدرها الحاكم ، فضلاً عن ان موقعها يجاور منطقة المتاجر التجارية وسواقها ؛ وهي المنطقة الاكثر حيوية وصخباً في سمرقند .
يعيد تكوين المدرسة التقاليد المعمارية التى انضجتها الممارسة البنائية الستبقة في هذت المجال . وهذا التكوين يعتمد على فناء مكشوف فسيح تحيط بهغرف : حجرات الراسة ، من جميع الجهات . وتقع على محوريه الرأسين – الطولي والعرضي اربعة < ايوانات > ضخمة يصل ارتفاعها الى ارتفاع الطابقين الملاصقين لها .
يقدر ابعاد مدرسة " اولوغ بيك " في سمرقند بـ ( 58× 80 ) متراً ، في حين تبلغ ابعاد الفناء المكشوف ذي الشكل المربع حوالى ( 35× 35 ) مترا . يتم الدخول الى المدرسة عبر بوابة ضخمة وعالية ذات عقد مدبب ، يصل ارتفاعها الى اكثر من ثلاثين متراً . وكتلة البوابة المفرغة بواسطة العقد الضخم في داخلها ، يعلو ارتفاعها عن سياق البناء المجاور ذي الطابقين .
تحتل الاركان الاربعة من المبنى اربع قاعات كبيرة للدرس < درس خانة > ، وتغطي هذه القاعات قباب تعلو بهيئتها الكروية قليلاً عن مستوى ارتفاع المبناء الاساسي . كما تم انشاء اربع منائر دائرية رشيقة وعالية قريبة من القاعات . وفي الزويا الاربع من المدرسة . ( وتظهر المنائر اربع جميعاً ، في الوقت الحاضر ، وقد تهدمت اقسامها العلوية ) .
يقع مسجد المدرسة في الجهة الغربية منها ، ممتدا في محور شمال - جنوب بابعاد ( 8× 22 ) متراً وبحنايا من الجانبين ( 2,5 × 7 ) مترا . يثير الانتباه اسلوب معالجة فضاء المسجد وطريقة تسقيفه ، اذ تـٌقسم اربعة عقود مستعرضة فضاء المسجد الى خمسة اقسام ، وكا قسم فيه تم تسقيفه بواسكة قباب تستند على عقدين متوازيين زنصف عقد بينهما . وسبق ان استخدمت مثل هذه المنظومة التركيبية في تسقيف مبانٍ اخرى ، الا ان استخدامها في " مدرسة اولوغ بيك " ينم على قدر كبير من التطور والنضوج ؛ كما انها اتستخدم لاول مرة في عمارة آسيا الوسطى في تغطية فضاءات واسعة كما هو الحال في مسجد المدرسة .
يتميز مخطط " مدرسة اولوغ بيك " بوجود مدخلين اضافين في جانبي المبنى ، مشكلين من الداخل ايوانين يطلان على فناء المدرسة . ويبقى الاسلوب الزخرفي في معالجة هذين الايوانيين ، وكذلك نوعية التزيينات فيهما ، يبقى اقل بكثير مما هو معمول في المدخل الرئيس المطل على الميدان ؛ كما ان ارتفاعهما اوطأ من هذا الاخير بصورة واضحة .
تتوزع غرف الطلاب ( الحجرات ) كما كانت تسمى ، على مدار الفناء المكشوف وعلى جانبي الاواوين الاربعة ، وثمة سلسلة من الغرف الاخرى تقع في الطابق الاعلى ، الا انها ازيلت عام 1720 م من قبل < عامل > سمرقند ، بدعوى امكانية قصف قصر الحاكم في القلعة من السطوح العالية للمدرسة !
وكما اشير سابقاً ، فان المخطط التكويني " لمدرسة اولوغ بيك " يعيد ما كان معروفاً من اساليب الحل الفضائي – الفني لتلك الابنية ، التى شاع انتشارها في الممارسة التصميمية الخاصة بالعمارة الاسلامية بدءاً من القرن الثاني عشر . على انه ، يتوجب علينا الاشارة بان بنية المخطط التكويني هذه ، التى تشمل فضاء مكشوفا ومحاطاً بفضاءات اخرى مسقفة ، ويلفها جدار : سور سميك ، غالباً ما يكون اصماً ( وفي احسن الاحوال قليل الفتحات ) ، ذا اتصال مقنن عبر بوابات مع المحيط الخارجي ، نشير الى مثل تلك البنية التطكوينية لم تكن مقتصرة حصراً على ابنية المدارس ، وانما كانت تمثل " موتيفاً " Motif معلوماً ، ذائعا ومنتشراً في تطبيقات العمارة الاسلامية يعكس توظيفها تعددية الاستخدام . بمعنى اخر ظلت البنية التكوينية قادرة على القيام باداء مختلف اشكال الوظائف البنائية كالمساجد والقصور والخانات والبيمارستانات < المستشفيات > والخانقاهات ، وغيرها من الابنية وبضمنها المدارس . اي اننا نرصد مفهوماً يتخطى مهام احادية التصميم الوظيفي ليؤسس تصوراً جديدياً يعنى بتعددية الوظيفة للحيزّ المتشكل ؛ او ما يطلق عليه " الفضاء الشامل " Universal Space ، ذلك المفهوم الذي تبنته ( العمارة الحديثة ) في وقت متأخر ؛ والذي يجعل من ثبوت الشكل المعماري وعاءأً لاداء وظائف متعددة .
تمّيزت عمارة آسيا الوسطى في القرنين الرابع عشر والخامس عشر بمحاولة تشييد مجمعات Ensembles بنائية كبيرة ومعقدة في مراكز المدن المهمة ، مما حدا بالمعماريين الى ادخال افكار تكوينية جديدة ، ودفع بهم الى اعادة النظر في الاشكال المعمارية التقليدية واساليبها .
ولقد اثرت تلك المقاربات الحديدة على الصياغات التكوينية " لمدرسة اولوغ بيك " بسمرقند ، من حيث ابتكار اشكال تصميمية معبرة وايجاد مقاييس معمارية ملائمة لها ، مما اعطى الاحساس برحابة الميدان الذي تطلّ عليه المدرسة والشعور بضخامة بنائها . وتلعب عمارة المدرسة ومفرداتها التصميمية بقبابها العالية ومدخلها الضخم ، ومنائرها الاربع الرشيقة المرتفعة ، تلعب دوراً كبيراً في تحديد مؤشرات النقاط الاساسية في المدينة وكذلك في رسم وتحديد " خط سمائها " Silhouette المعبّر الذي لا ينسى ! .

يتجسد في عمارة " مدرسة اولوغ بيك " وتحديداً في نوعية صياغاتها الفنية ، ذلك القرار التزييني الذي يؤكد حضور " ثيمة " الطيف اللوني كوسيلة ضرورية في عملية اكساء المبنى بالصبغات اللونية ، اذ خطت الممارسة التزيينية في هذا الشأن خطوات كبيرة . وانتقلت من تقليدية استخدام اللون الاحادي الى ممارسة تعددية الالوان ، فيما يدعى بـ " الفسيفساء الخزفي المنقوش " ؛ والذي عدّ من اهم نجاحات الفن التزييني الذي انتجته شعوب الشرق الاسلامي .
يعتمد انتاج وتقنية هذا الاسلوب التزييني على تقطيع بلاطات خزفية ملونة مسبقاً طبقاً لنوعية الزخرف المراد اكساؤه على الجدران ، وتعطي خاصية الطين ذي النوعية المختارة المعمول به البلاطات اللونية ، امكانية تقطيعها بسهولة ويسر ، وذلك لان سمك تلك البلاطات الملونة لا يتجاوز بضع مللبمترات معدودة . يتم تجميع تلك العناصر الملونة استنادا الى نوعية الزخرف المرسوم ومن ثم يتم تثبيتها بواسطة الجص على سطوح الجدران . ويتيح العمل بهذا الاسلوب امكانية الحصول على صبغة لونية صافية وبّراقة وشديدة الكثافة ، الامر الذي لا يمكن تحقيقه جراء حرق وشواء البلاطات المنقوشة والمصبوغة والتى حتماً ستفيض الوانها وتتدفق على سطوحها بالاضافة الى امكانية امتزاج الوانها بعضها بالبعض الآخر .

في مدرسة " اولوغ بيك " يمثل المنهاج التزييني الذي بفضله تكتسي جميع سطوح جدران المبنى صبغة تلوينية ، يمثل ذلك حدثاً تصميمياً هلى درجة كبيرة من الاهمية والاصالة . حدثاً يضيف للمنجز المعماري الاسلامي خصوصية متفردة تجعله يثري المشهد المعماري العالمي بمفردات جديدة واصيلة ؛ فنحن ازاء ممارسة معمارية مبدعة تحاول ان ترتقي عالياً بالمفردة التشكيلية – الفنية ، وتجعلها عنصراً مكافئاً للحل التكويني ، وعاملاً مرادفاً له . اذ قلما وجدت في تاريخ العمران الانساني ظاهرة تلوين المبنى باجمعه كمثل حالة اكساء " مدرسة اولوغ بيك " ( ومثيلاتها من الابنية الاخرى ) بكثافة لونية غامرة ، بحيث تجعل من القوام الانشائي ذاته حالة ملوّنة !.
يتوق معمار " مدرسة اولوغ بيك " ان يكون اساس بناء تكويناته التزيينية التى يتعاطي معها حافلاًً بالمنطق الصارم والحسابات الرياضية الدقيقة وحضور الهندسية . وعلى الرغم من التكوين الخزفي للمدرسة يمثل وحدة واحدة معقدة ومتشابكة ، فان اجزاءها تتمتع هي الاخرى بوحدات تكوينية متكاملة . تتصف الاكساءات الزخرفية المستخدمة في المدرسة باناقة وثراء كبيرين ، بسبب صفاء الالوان للطلـّيات الزجاجية وتمازج هذه الالوان بانسجام دقيق . كما ان تلك الاناقة والثراء مردهما ايضاً جمال الخطوطورشاقة الرسوم الزخرفية . وتعتبر تلك الاكساءات من افضل ما انتج في مجال الفن التزييني في عموم الشرق ابن القرون الوسطى . ثمة بهجة واضحة تكتسي بها تزيينات المدخل الرئيس المشغولة بضفائر مبرومة، واشرطةحلزونيةمن الخزف الملون المنقوش . اما الجدران الداخلية الجانبية لعقد المدخل الضخم المحفور في كتلة المدخل ، وكذلك حناياه فقد غٌطيت برسوم فسيفسائية دقيقة مع حشوات بقطع رخامية صغيرة ، وتم اكساء ارضية منطقة اعلى عقد المدخل بتشكيلات نجومية قوامها موزائيك فيروزي مشغول بقطع الرخام . ويقال ان عمل تلك الاكساءات المعبرة رمزياً عن نجوم السماء ، كان اشارة لولع الامير " اولوغ بيك " نفسع بعلم الفلك . كما تم اكساء الواجهات الجدانبية لمبنى المدرسة وسطوح منائرها العمودية بتربيعات فسيفسائية ضمن شبكات هندسية ضخمة من الكتابات المستلة من القرآن الكريم وبالخط الكوفي .
ولئن كانت طبيعة التزيينات ومقياس وحداتها الضخم التى غلفت الواجهات الخارجية تؤطد على اهمية المبنى ورسميته ، فان معالجات الفناء الداخلي للمدرسة تمت بشكل مختلف . اذ روعي توظيف شبكة بسيطة من التقسيمات الفضائية ، يتجاوب ايقاع تقسيماتها مع عرض الحجرات المحيطة بالفناء ، ولزيادة حدة هذا الايقاع وشدّته ، فانه يقطع بانتظام بواسطة المداخل الايوانية عند المحاور الرأسية للفناء المكشوف .
ان اختيار تناسب منسجم لشكل الفناء المربع ، وانتقاء اسلوب معين لتقسيمات وتجزئة الواجهات ، وايجاد مقياس انساني مناسب ، اكسب عمارة الفناء صفة الالفة " البيوتية " ، ومنحها احساساً مفعماً بالراحة والهدوء ، ( وهو ما ينبغي ان تكون عليه المباني التعليمية ) . وتضيف الشجيرات المغروسة في وسط فناء المدرسة مزيداً من المتعة والفائدة للبيئة المصممة .

عندما زرت " مدرسة اولوغ بيك " ميدانيا ً ، لاغراض تتعلق بدراستي عن العمارة الاسلامية ، وكان الوقت ربيعاً ، أدهشتني أشكال المغروسات النباتية في وسط الفناء ؛ التى اكتست جميع اغصانها المجردة من الاوراق بالورود ذات الالوان الزاهية ؛ وكل ذلك كان يُرى على خلفية السطوح الفسيفسائية ذات الخزف " الميوليقي " الدقيق والمتألفة نقشاته من زخرفة نباتية مطعمة بكتابات حروفية ، مشغولة بحشوات من الطليّـات الزجاجية الفيروزية !

وتساءلت في حينها ، مَن يحاكي مَن ؟ العمارة للطبيعة ام الطبيعة للعمارة ؟
واي تناغم انسجامي بليغ يجرى بين البيئتين : بيئة المغروسات الطبيعية ، وبيئة المعمار المصنوعة ، ذلك المعمار الذي استطاع ان يجعل مادة الصلصال الرخيص لتكون بستاناً طافحاً بالالوان .. والبهجة معاً !□□





د.خالد السلطاني
مدرسة العمارة / الاكاديمية الملكية للفنون
كوبنهاغن- الدانمرك








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عاجل.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق


.. لطلاب الثانوية العامة.. المراجعة النهائية لمادة اللغة الإسبا




.. أين ظهر نجم الفنانة الألبانية الأصول -دوا ليبا-؟


.. الفنان الكوميدي بدر صالح: في كل مدينة يوجد قوانين خاصة للسوا




.. تحليلات كوميدية من الفنان بدر صالح لطرق السواقة المختلفة وال