الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
لا هو موت .. لا هو انتحار
رباح آل جعفر
2009 / 9 / 9الادب والفن
وفرقتنا ، يا صديقي ، المنافي ...
آه ، يا غربة النار في بلد الثلج .. أكلما مرت ريح من جانبك ، تقول : العراق !! ..
وفرقتنا منازل ، كانت لها في القلوب منازل .. وفرقتنا الدير ، والدار ، والديار ، التي عفت محلها فمقامها .. وفرقتنا المسافات ، والحصارات ، والطغاة ، فافترقنا .. فلا سائق الأضعان يطوي البيد طيا ، ولا حادي العيس في ترحاله الأجل ، ولا سارت بالهوى الإبل ، ولا مرت براهب الدير النوق ، والحداة ، والعصافير .. ولست أعرف ما الذي حملنا على السفر في زوابع الشتاء ، وهزيع الليل ، وسط أوحال طرقات ضيقة ، وأزقة موحلة ، وفي برد ومطر .. ويا لعذابات كل تلك الشتاءات والسنين !.
وأحببنا أعزاء من كل القلب ودللناهم .. وكنا نجوع إذا جاعوا ، ونعطش إذا عطشوا ، ونمسح على وجوههم حين يتعبون ، ونقبلهم من جباههم بين المآقي .. وكنا ندللهم ، فنخاطبهم بأصوات ليس فيها حروف .. ونخاطبهم بجمل ليس فيها كلمات ، ونغني لهم بصوت غير مسموع .. وكنا نخاطبهم برؤوس الأصابع ، ونخاطبهم بالراحتين ، فكيف غارت العيون في المحاجر ، ونتأت عظام الوجه يكاد منها الجلد ينشق ، وصار الناس يعدون أضلاعنا بالنظر إليها ، لا يمدون إلى صدورنا يدا ، ولا يجسون الأضلاع ؟!.
وكنا نتغنى بالحبيبات .. فنرسمهن كفينوس التي في المرمر ، أو كالخضرة التي في الشجرة ، أو مثل ليلى التي تسكن التوباد .. وكنا ننظم لهن القلائد من جنبذ الجوري ، ومن قداح الليمون والبرتقال ، ومن جلنار الرمان قبل أن يتفتح ، ومن كل أنواع الثمر أول ما يتكور ، ومن أزهار الحدائق والبساتين ، التي تتقافز من حولها زرازير البراري ، وينث أغصانها قمر سهران .. وكنا نكتب لهن غزلا من الفستق المقشر ، ونناديهن بعشتروت ، أو فينوس ، أو المتجردة ، أو خولة ثهمد ، أو بتلك الحسناء البابلية من أور ، أو مية التي في العلياء ، لا مية التي في السند ، أو من :
تلك الجآذر في زي الأعاريب
حمر الحلى والمطايا والجلابيب
ومرت أيام ، ومرت شهور ، ومرت أعوام .. كنا نخنق العبرة ولا نبكي ، ونصبر على الشدة ، ونداري الحاجة بالتقشف سرا وبإظهار التجمل وبإعلان الاستغناء ، وكانت وجوهنا المختنقة بالسعال ، صفراء كالسل ، تبدو شاحبة كالوداع .. وكنا نلوك الماء ، ونعلك الهواء ، ونبيع كل حصتنا من التصوف ، والإشراق ، بفنجان قهوة ، وقطعة من راحة الحلقوم .. وكنا نبيع أفلاطون ألف مرة ومرة في الساعة ، ونبيع حصتنا من الحلاج ، والسهروردي ، وابن عربي ، وسقراط ، وبيتراندرسل ، بدشداشة مطرزة بالكلبدون ..
وتكاثرت علينا الأحلام ، ونحن نريد أن نقطف القمر بأيدينا ، ونقتسم الأرض شعرا ، وشوقا ، وشبابا ، ومواقد ، ولا نتمنى مع امرئ القيس لذلك الليل الطويل أن ينجلي .. فلا يتهم تهامي إذا أتهمنا ، ولا ينجد نجدي إذا أنجدنا ، ولا يسقي الساقي بين الصفا والمروة ، ولا من ماء حوض الكوثر ، إذا نحن سقينا الخيام من فرات عذب سلسبيل ، ولا نسقي إلا من مدافع الريان .
تلك محطاتنا ، قوارب بلا دفة ، ولا شراع .. أكنا نبالغ ، أم أنها المنازل مثل الطباشير ، ما تلبث أن تذروها الريح ، ويمحوها السراب ؟!.
وفرقتنا ، يا صديقي ، الغربة ، ولما أجبرت قبيلة ( جرهم ) على الجلاء ، فإنهم سدوا بئر زمزم ، ودفنوا فيها أشياءهم ، وذكرياتهم ، وخرج عمرو بن الحارث ومن معه من قبيلة ( جرهم ) إلى منفاهم الأخير في اليمن ، فحزنوا على ما فارقوا في بلادهم مكة أشد الحزن ، وفي ذلك قال عمرو :
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس .. ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا
صروف الليالي والحظوظ العواثر
وفرقتنا ، يا صديقي ، المطارات ، وصالات الترانزيت ، والباصات ، والتاكسيات ، والأنفاق ، والفنادق ، وصناديق البريد ، وجوازات السفر ، ووكالات غوث اللاجئين ، وفتنة القرن الرابع الهجري ، والشطار ، والخصيان ، والعيارون ، وأوطان صرنا نحملها في حقيبة اليد ..
وجاء من بعدنا آخرون ..
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. فاكرين القصيدة دى من فيلم عسكر في المعسكر؟ سليمان عيد حكال
.. حديث السوشال | 1.6 مليون شخص.. مادونا تحيي أضخم حفل في مسيرت
.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص
.. صباح العربية | في مصر: إيرادات خيالية في السينما خلال يوم..
.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص