الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تذكروا الزهر الشقي .. عزيز السيد جاسم

رباح آل جعفر

2009 / 9 / 11
الادب والفن


إذا كانت الأصداف تلمع أحياناً تحت أضواء الشهرة ، فان الذهب في أحيان كثيرة ينام مدفوناً تحت التراب ، وإذا كان حجم المصائب ، إنما يقاس بفقد الأعزاء ، فعسى أن يجد المثقفون عزاء باقيا بفقدهم عزيز السيد جاسم .
كان المفكر الأستاذ عزيز السيد جاسم ، أو ( السيد ) كما اعتدنا نحن أصدقاؤه أن نسميه ، من أوائل الذين زرعوا الثقة في نفسي ، وجعلوني أتشبث بأسناني بمهنة الصحافة ، على الرغم من طول الطريق ومشقته ، فلقد علمني ألا تخدعني المظاهر الجوفاء ، وألا أنبهر بالقشور الزائفة ، وما أكثرها في المجتمع .. وفي الثقافة .. وفي الصحافة !.
وكان مكتبه في شارع السعدون في قلب بغداد أشبه بسوق الثلاثاء ، يلتقي به مثقفون ، وأدباء ، وأصدقاء ، من كل لون ، وصنف ، واتجاه ، وشباب يتفجرون بالحماس ، والنشاط ، وفي أدمغتهم تدور أفكار جديدة ، ولديهم طموح من نوع خاص ، وكانوا نماذج لألوف من أبناء الجيل ، الذين فقدوا الثقة في كل شيء ، حتى في الخلاص من المصير المحتوم ، ثم أسلمهم اليأس إلى الانطواء داخل أنفسهم ، خصوصاً وأن التغيير كان يكلف كثيراً ، وربما يكلفهم حياتهم .
كان مكتب عزيز عالماً خاصاً ومستقلاً ، وكان مرآة صادقة ، وكانت رفوف المكتبة فيه تغطي معظم الجدران فيما عدا نافذة واسعة تطل على الشارع المكتظ بالناس ، والمرضى ، والفقراء ، والباعة المتجولين .
أحياناً كنت أمضي إلى جانبه ، وهو يمارس هوايته ، حين يقتطع المسافات الطويلة مشياً على قدميه ، كل يوم ، لأنه يجد في ذلك التسلية ، والرياضة ، والتأمل ، والطواف حول الأشياء ، وكان يقول لي : انه عندما يمشي يشعر أن ليس هنالك في الكون شيء ساكن .
وفي بعض الأحيان ، كنا نتوقف عند المكتبة العلمية في شارع السعدون ، نتصفح عناوين الكتب .. وكان عزيز أستاذاً للكثيرين منا ، وكان حرصه بالغاً حتى على توجيه قراءاتنا ، وكان من أشد المثقفين صفاء فكر ، ورجاحة عقل ، وربما من أكثرهم سوء حظ أيضاً ! .
سألته ، ذات مرة ، عن موقفه الفلسفي من الموت ، وفناء الجسد ، وقال لي بنصف ابتسامة لاحت على شفتيه : أنه يشتاق كثيراً إلى الموت ، عملاً بالآية الكريمة : ( وعجلت إليك ربي لترضى ) ! .
ووجدته دائم التفكير بالله تعالى ، كثير التفكير بوالدته ، حزيناً وهو يرى أحوال المثقفين العراقيين ، الذين وصفهم لي يوماً ، بأنهم ( يشكلون جيشاً بلا أحذية ) ، ومن هنا سمعته كثيرا ، يردد قول أحد المتصوفة : ( اللهم أخرج الدنيا من قلبي ، وضعها بين يدي ) ، ومرة همست في أذنه أسأله عن المظلومين في التأريخ ، فهمس ، هو الآخر ، في أذني ، يقول : إنهم شهداء المعارضة في كل زمان ، ومكان ! .
لم يبع عزيز آخرته بدنياه ، ولم يكن من النوع الذي يتدافع على منفعة مؤجلة ، ومكافأة موعودة ، بل كان ذلك الطيب المسالم ، الذي يشق لنفسه طريقاً وسطاً في الحياة لكي يجنب نفسه المتاعب ، ولكن المتاعب كانت تسعى إليه ، لأنه كان برغم طيبته صاحب نظرة موضوعية ، وفكر حر ، وعلاقات إنسانية أساسها الاحترام المتبادل ، وليس على أساس النظرية الانتهازية المعروفة .
واقتحم عزيز غابة الحياة ، وتعرض لكل أخطارها ، وذاق مرها ، وشرها ، وبذل دمه نقطة وراء نقطة ، وأخذ من جسده وجاد بها على نفسه : ( كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ) ، ورحل عن دنيانا في سبيل ما يؤمن بأنه حق ، وحتى لا يأتي غدا من يدعي بأن كل القيم اهتزت بما في ذلك جوهر روح الفداء .
وعزيز من النوع الذي تأسره الصداقة ، فيرفعها دائما إلى مستوى يستحق التسجيل .. ومن الذين يكتبون بأصابعهم الشموع ، التي يوقدونها من أجل أن يطلع فجر كل يوم .. وهكذا عرفته عن قرب ، كتاباً مفتوحاً تقرأ صفحاته في يسر وسهولة ، ورجلاً يحتفظ بقلب طفل ، ويحب الناس ، بل هو على علاقة حب دائمة مع الحب نفسه ، فلا يعرف قلبه غير أن يحب ، وقال لي يوماً : انه ( يسوعي ) في المحبة ، مجبول على المحبة والتعاطف ، ولا صلة له بالكراهية .
كانت آخر مرة ألتقي بها الراحل عزيز السيد جاسم قبل غزو الكويت باسبوع ، وقد أهداني مجموعة من مؤلفاته ، بينها كتابه العظيم الخالد : ( محمد صلى الله عليه وسلم الحقيقة العظمى ) ، وأذكر أني قلت له ، لحظتها : يا أبا خولة ، إن شاء الله تعالى ، ستحمل هذا الكتاب يوم الحساب ، في يمينك ، وتقول للملائكة الكرام البررة : هاكم اقرأوا كتابي ، فتدخل الجنة .. فدمعت عيناه ، خشوعا ، وتضرعا ، ورهبة .
وأشهد أن عزيز السيد جاسم كان رجلاً مؤمنا بربه من طراز فريد ، وقوراً بنفسه ، شديد الأنفة والكبرياء .. سخياً ، كريماً ، مضيافاً ، تعلمت منه الكثير .. ولقد أحببته واحترمته .. وما أكثر الذين نحبهم .. وما أقل هؤلاء الذين يستحقون الاحترام ! .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الوفاء
الدكتور يحيى السنبل ( 2009 / 9 / 11 - 21:29 )
قليل في هذا المجتمع الاوفياء لمن علمهم والوفاء للصاحب وللصديق تدل على معدن الرجل الاصيل الذي يتذكر اصحاب الفضل عليه وهذا ماعرفته عن اخي وصديقي رباح ال جعفر اصيلا وفيا مشهود له بالوفاء وطيب الخلق كيف لا وهو ابن عائلة عريقة في نسبها وحسبها

اخر الافلام

.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة


.. كلمة أخيرة -درس من نور الشريف لـ حسن الرداد.. وحكاية أول لقا




.. كلمة أخيرة -فادي ابن حسن الرداد غير حياته، ومطلع عين إيمي سم


.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا




.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07