الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقب في السور

احمد الحاج علي

2004 / 5 / 23
الادب والفن


قصة : أحمد الحاج علي
بعد جهد متواصل ودؤوب من والدي ، استأجر لنا بيتاً على أطراف المدينة ، هجرنا البيت القديم الذي يقع وسطها . هرباً من الضجيج والزحام ، هكذا برر والدي انتقالنا ، إلا أن الأمر في حقيقته غير ذلك ، فوالدي الذي يعمل في معمل بلاستيك ، لم يعد يستطيع دفع أجار البيت المرتفع ، ومتطلبات المصروف الأخرى . وفي مساء يوم ربيعي نقلنا أمتعتنا على شاحنة صغيرة إلى البيت الجديد ، كان فرش البيت مكوناً من ثلاث فرش محشوة ببقايا الإسفنج وطاولة حديدية صدئة ، وأربع حصر منسولة خيوط بعضها ، وخزانة ملابس لا قوائم لها وأدوات مطبخ نصفها من البلاستيك .
في صباح اليوم التالي . وقبل أن ننتهي من وجبة الفطور المكون من مكدوس الباذنجان بدون حشوة وزيتون محلى بماء الكلس . قال والدي مخاطباً أمي بكلمات ناشفة : نحن غرباء عن الحارة ، عينك على أبنك . لا أريد سماع كلمة شكوى من الجيران . هزت أمي برأسها علامة الموافقة ولم تنطق بحرف وراح أبي إلى معمل البلاستيك . كنت أكره صمت أمي واستسلامها لرغبات أبي . يأمر ، فتطيع بلا أدنى احتجاج ،توافق بصمت ، وتعمل بصمت وكأن قوة خفية ربطت لسانها وسرقت منها نطقها .
تأتـأت قائلاً : أيرضيك يا أمي أن أبقى محبوساً في البيت : قالت بصوت يكاد لا يُسمع : لا تذهب بعيداً . فقط حول البيت.
خرجت في الحال ، درت حول البيت . كان يسوره سور بقامة رجل من الجهة الجنوبية والغربية . فبدت بيوت الجيران ، مكشوفة . تشبه بيتنا حد المطابقة في شكلها الخارجي المدهون بماء الكلس . وحتى حدائق البيوت الثلاث ، بدت متشابهة . في كل بيت شجرتان من السرو على يسار المدخل مباشرة ، وعريشة عنب. تسلقت على السطح فاردة أوراقها لتشرب خيوط الشمس . أما من الجهة الشرقية . فيسور بيتنا سور , قدرت ارتفاعه بخمسة أمتار وعلى الحافة العليا منه ، زرع الزجاج المكسر ، فصارت أشعة الشمس المعكوسة ، ترقص على جدار البيت بقع ضوء ، بينما ينفذ من النافذة جزء آخر من الأشعة المعكوسة ، مشكلةً دوائر من الضوء المبهر ، تضئ البيت ، وفي أسفل الجدار المرتفع نبتت نباتات برية عُليق . توت بري . وأشواك أُبرية ، صار من الصعب الاقتراب منه ، ثم أن الجدار يبدو مصقولاً لا حواف له ، باستثناء بعض النتوءات التي لا تغري بصعوده ، هبطت عليّ فكرة الصعود وألحت إلحاحاً إلى درجة الهوس , وبدأت أسأل نفسي أسئلة سريعة ومتواصلة , ماذا يخفي السور خلفه من أسرار ..؟
ولِمَ كل هذا الارتفاع ؟ كيف أصعد السور ؟ لا بد من صعوده
غربت وشرقت محاذياً السور, ثمة ضوءٌ داخلٌ عبر شجيرة التوت البري ، يضيء بعض فروعها الكثيفة ، توقفت . نظرت . لا شيء . إلا أن الضوء بدأ يضيء شئ ما بداخلي ويدفعني دفعاً إلى اكتشاف مصدره ، ومعرفة السر المختبئ خلف السور ، اقتربت من شجيرة التوت البري ، ألصقت جسدي بالسور ودفعتها مقدار شبر ، تسرب ضوء كالفضة من ثقب صغير بحجم حبة حُمص ، اقتربت منه ، أغمضت عيني اليسرى فتحت عيني اليمنى و ألصقتها على فتحة الثقب ، نظرت . على الفور ، دغدغت أنفي رائحة ياسمين مختلطة برائحة أرض مبللة بالمطر, وثمة طاولة دائرية بيضاء كبيرة ، صف حولها عدد من الكراسي ، وسط أشجار متنوعة ، تتدلى منها الثمار وتطير فوقها طيور وعصافير بريش ملون ، والى مسافة أبعد قليل ثمة مجموعة من شبان وصبايا يصخبون ويضحكون , وغير بعيد عنهم أطفال يقرؤون كتباً ملونة ، بعضهم يتأرجح بمراجيح تظللها ظلال الأشجار ، حاولت رؤية مساحة أكبر ، إلا أن ضيق الثقب لا يسمح لي بالرؤية أكثر مما رأيت ، هل يمكن رؤية عالمٍ ما من خلال ثقب ؟
فكرت بتوسيع الثقب ، فكرت بأداة تساعدني على توسيع الثقب ، لا بد من أداة صلبة ، فكرت . بماذا , بماذا . صوت نبع من داخلي ، مبرد حديد مدور ، أدوره في الثقب فأحصل على ما أريد من اتساع أبعدت عيني اليمنى عن فتحة الثقب ، أسندت رأسي على السور ، أنصت ، يا إلهي . هناك شئ ما مدهش . مضيء . مبهج . أصوات ما سمعتها من قبل . تصلني كتراتيل ملائكة ، مصرة على حملي إلى عالم أخر غير هذا العالم ، وأسمع خرير جداول رتيبة ، تأتي من البعيد ، وتصفيق أجنحة طيور غير مرئية ، وأسمع صهيل خيول كأنها تصلني من أعماق الزمن ، ووقع حوافرها يدق في أذني بينما يسيل ضوء كالفضة من الثقب .
يا إلهي . أأنا في حلم أم في علم ، فكثيرة هي أحلام الليالي التي تخبو مخلفة ورائها الخيبة والانكسار، لم أصدق أني في حلم . لذلك قرصت أذني ،فركت عيوني ، فردت أصابع يدي ، تحسست جسدي . وبدا لي أني أعيش الحالة بلحمي ودمي ، وحمى فكرة توسيع الثقب راحت تلح علي من جديد . سأبدأ بتوسيع الثقب حتى يصير بحجم خوخة ، بحجم برتقالة ، بحجم كرة ، بحجم نافذة تنفذ منها الريح والضوء والموسيقى ، لا أدري كيف ومتى حصلت على مبرد الحديد المدور . رحت أدوره في الثقب بشي من الجنون . بدأ يتسع شيئاً فشيئاً . صار بحجم خوخة ، صار بحجم برتقالة ، بحجم كرة , بحجم نافذة ، نفذت منها الريح ورائحة الياسمين والضوء , بدأ يتصدع بنيان السور بدأ ينهار السور انتشر ضوء كالفضة ملأ الأماكن ، صدحت زقزقة العصافير كتراتيل ملائكة .,علا صهيل الخيول الشاردة حولي انسابت الموسيقى كالضوء , رعشة حمى هزتني بقوة , الدهشة ربطت لساني , تساءلت بصوت مرتفع وأنا مبهور , بكل هذه السهولة تنهار الأسوار ؟
سمعت صوتاً كالسوط من خلفي ، خفت . الخوف شلني , بصعوبة درت للوراء مرعوباً , كان والدي خلفي يكزّ على أسنانه وعيناه جاحظتان ، وبدا طويلاً كمارد الأساطير ، والغضب الوحشي يغلي في عروقه ، كنت صامتاً كميت ، رفعني بيده اليسرى إلى مستوى وجهه ، وبيده اليمنى ، تتالت الضربات على وجهي ، خفتت أصوات الموسيقى ، توقفت الخيول الشاردة عن الصهيل ، العصافير حطت على الأرض وتحولت إلى تماثيل ، السور عاد كما كان عالياً ، الضوء بدا يتراجع ، الظلام غطى المكان ، الروح راحت مع الريح المحبوس وراء السور ، ضاق المدى مع تتالي الضربات لم أعد أرى لم أعد أسمع ، صحت من وجعي ، أبي .. أبي .
لمحت حركت يد أمي وهي تبعد اللحاف عن وجهي ، وصوت بسملتها وهي تحاول إيقاظي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فكرة جميلة علشان الجماهير تروح الملاعب وتشجيع فرق كرة القدم


.. الفنان السوري فارس الحلو: أرفض حكم العسكر




.. مواقف أبرز الفنانين السوريين بعد سقوط حكم الأسد


.. لحظة وصول الفنانة بدرية طلبة إلى عزاء زوجها بدار مناسبات الم




.. كيف عبر الفنانون السوريون عن مواقفهم بعد رحيل الأسد؟