الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفكرات يوسف العاني في عصور مختلفة

رباح آل جعفر

2009 / 9 / 16
الادب والفن


تقول بطاقته الشخصية : إنه يوسف إسماعيل العاني من مواليد الفلوجة في (1 تموز 1927) ، وان كان تسجيله الرسمي للنفوس ببغداد ، وكان والده يبيع التبغ ، وفي الوقت ذاته كان إمام جامع الفلوجة ، يتولّى تحفيظ الأطفال صوت الترانيم ونبرات الأدعية ، ثم انتقلت الأسرة إلى بغداد ، ويوسف مازال طفلاً ، وافتتح أبوه دكاناً في سوق حمادة ، وما لبث أن مات بالمرض ، ووجد نفسه يتيماً بلا عطفٍ ، أو حنان ، وتنقّل بين بيوت أقربائه ، وتولّى تربيته قريب من أمه يدعى ( توفيق ) ، وكان تاجراً ذا سمعة طيبة وله علوة كبيرة على ضفاف دجلة ، ودرس يوسف الابتدائية والمتوسطة في جانب الكرخ من بغداد ، وانتقل إلى الثانوية المركزية في جانب الرصافة ، وتخرّج فيها سنة 1945 ليقضي شهراً في الجامعة الأميركية في بيروت ، ثم ليعود منها ليدخل كلية الحقوق في بغداد ويتخرّج منها 1949، ويمارس المحاماة .
وتشاء الصدفة أن يلتقي يوسف وهو طالب في كلية الحقوق بالمفكر الشيوعي عبد الجبار فهمي ، الذي استطاع كسبه في صفوف الحزب الشيوعي 1948، وانتمى يوسف إلى معهد الفنون الجميلة ، وتعرّف على الفنان إبراهيم جلال ، وتآخى الاثنان في ودّ عميق ، وأسّسا فرقة المسرح الفني الحديث 1952، ولم يكن يوسف ليقفل فمه ويسكت ، بل بدأ بتحريض الطلبة على عهد نوري السعيد ، فرصدوا أخباره وفصلوه من المعهد ، وهو في سنته الأخيرة 1953، وتدرج يوسف في الوظائف والمناصب حتى إحالته إلى التقاعد 1989 ، كان بينها حين عيّنه عبد الكريم قاسم سنة 1960 مديراً عاماً لمصلحة السينما والمسرح ، وفي تلك الفترة ، كان يوسف مالئاً مناقير العصافير الهابطة إليه زهراً، ورماناً ، وحبات كرز .. وسرقوا الحَبّ من جيوبه الممتلئة ، فما ردّ عصفوراً ، ولا آذى جناحاً ، وكان مثلاً أعلى للرجل العصاميّ الذي كوّن نفسه بنفسه ، وصنع مجده من عرقه ، وحين حاول الآخرون أن يتسلّقوا على أكتافه ، وجدوا أن أكتافه عالية ، وسلالمهم قصيرة .
وكان يوسف كثير التجوال ، وزار عديداً من الدول ، ورأى فيها وسمع ما كان يبحث عنه ، وتصدّر المسارح في لبنان ، ودرس في أوربا مسرح بريشت ، أو مسرح الاشتراكية الواقعية ، وشارك في العشرات من المهرجانات ، وله أصدقاء بطول العالم وعرضه ، يراسلهم ويراسلونه ، أبرزهم ( جون آردت ) من ايرلندا ، وكان من عادة الإسكندر أن يكتب الكثير من الرسائل ، ويوسف من أنصار الحياة مثل الفيلسوف الألماني ( نيتشة ) ، ومثالي جداً مثل ( هيجل ) ، يقرض الشعر ويحتفظ به ويقرأه على أصدقائه ، ويؤمن بأنه ( مادام الماء يجري فالساقية باقية ) ، ويعتقد أن الحرية أقوى من المال وعنابر الذهب ، وحين تسأله عن أي وثيقة تثبت شهرته ، فإنه يجيبك: ( سل الناس عني ) !.
وتسأل الناس ، وتقرأ يوسف العاني في مصادر وكتب ، تقرأه في ( قاموس المسرح الألماني ) الصادر في بيروت 1986، وتقرأه في ( المعجم المسرحي ) للدكتورة ماري الياس والدكتورة حنان قصاب ، وتقرأه في كتاب ( المسرح العربي ) للدكتور علي الراعي ، وتقرأه في ( المسرحية العربية الحديثة والتراث ) للدكتور إبراهيم السعافين ، وكتب عن يوسف نقاد ومثقفون عرب كبار ، أمثال محمود أمين العالم ، رجاء النقاش ، الفريد فرج ، عدا كثير ممّن كتبوا عنه من العراقيين ، ذلك أن الحديث عن مسرح يوسف العاني ، حديث في العمق ، وحديث في الجذور ، وحديث في أصل الأشياء .
وعدا مسرحياته العشر التي طبعت ، ابتداءً من ( رأس الشليلة ) 1954 ، أصدر يوسف مجلداً ضخماً بذكرياته عن عشرات من أصدقائه ، وطبعه في بيروت ، وقدّم له الروائي العربي عبد الرحمن منيف ، مذكرات تستحق التسجيل لرجال ونساء تركوا في الدنيا ذكراً وأثراً ، فكانت ذاكرته قد أطلت على عوالم عشرات المبدعين ، رحلوا عنّا إلى عوالمهم النهائية ، والتقط منهم ما كان خفياً ، أو مستوراً ، وقدّمه لنا على أنه الجزء الحيوي من تواريخ أولئك الذين أبدعوا وذهبوا .. ويخيّل إليك وأنت تقرأ مذكرات يوسف العاني ، ما يذكرك بالسيمفونية الثامنة من أعمال ( شوبير ) ، وهي السيمفونية الشامخة ، التي اشتهرت باسم ( السيمفونية التي لم تكتمل )، لأن ( شوبير ) أعدّ معظمها في قالب نهائي ثم انصرف .
وفي يوسف حزن ، وفي حنجرته شهقة ، وفي قلبه لمسة عتاب على الزمان الذي سرعان ما ينسى أثر الخالدين ، وتطبّع يوسف على ( السخرية ) ، بل كانت ( السخرية ) إسلوباً سياسياً يتفنّن به من طعن خصومه ، ويلمز به من لا يعجبه ، فحين يهمّ بغمز خصم له يهزّ حاجبه ، أو يلوي فمه .. وهو لا يمثّل كي يسترضي ، أو يجامل ، أو يطالب مرضاة الشارع العام ، فضوضاء الشارع العام تخرج من داخله ، والبكاء العام يمطر من عيونه ، والقلق العام هو جزء من قلقه ، إنه عصفور الحرية يهاجم هذا المجتمع المسطول ، الذي يؤمن بالتواشيح ، وضوء القمر ، ويخاطب في مسرحه الناس الجالسين على أرصفة الحزن ، والمصنوعين من أعصاب وأنسجة ، ولحم بشري محترق ، لا الناس المصنوعين من زبدة ، وحرير ، وسيراميك ، ثم أنه فنان من هذا العالم الثالث ، أو الثالث عشر ، ولديه من مخزون الدموع ما يكفي لملء عشرة بحور !!.
ويوسف العاني ممّن خصبوا الحركة الفنية ، وزادوها تنوّعاً وغنى ، وما زال فنه ينطوي على قدر ملموس من الحيوية والخصوبة ، في وقت لم يعد الفن فناً ، بل أصبح تهريجاً ولعباً حول الفن ، وهو من الأساطين الفاتحين في المسرح العراقي منذ أن صعد على الخشبة 1946 ، ووجد كل شيء حوله بلا معنى .. لا شيء له معنى ، ولكن الإنسان هو الذي يصنع المعنى لكلّ شيء .. وفي عيون الناس معان غريبة ، واستطلاع سخيف ، إنهم يحبون الذي يهرشهم ويضحكهم ، ولا شيء يسعد الإنسان أكثر من أن يرى الناس سعداء ، وأدرك يوسف منذ البداية ، أن لا أحد حر حرية مطلقة ، لا أحد ، حتى الطاغية نيرون ، حتى الطاغية كاليجولا ، بل أن يوليوس قيصر كان يقول لابنه الصغير : يا بنيّ أنك تتحكم في أمك ، وأمك تتحكم في أبيك ، وأبيك يتحكم في الرومان .. وكان يوسف دائماً مثالاً للفنان الذي يشعر بمسؤوليته عن الإرث الذي سيتركه لجيل قادم .. وكان هذا الفن قد فرّخ ، وتوالد ، وصار له أولاد وأحفاد .. وذلك معيار من أهم معايير استحقاق البقاء ، بصرف النظر عن القبر والكفن !.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة الخميس


.. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يساند غزة بأغنية -قاعة هند-




.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو