الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حسين عبد المهدي والتوحد مع الضمير

تقي الوزان

2009 / 9 / 18
سيرة ذاتية


الصيرة , تعني سياج البيت الريفي من النباتات والاشواك , والمرتفع بعض الشئ , وتحورت الى الصويرة . المدينة نشأت لحاجة المنطقة الزراعية لسوق يستوعب انتاجها , ويوفر لها احتياجاتها من السكر والطحين والاقمشة وباقي الحاجيات الاخرى . والصويرة مركز مشيخة عشائر زبيد , المدينة ليست موغلة في القدم , ويحدد نشوئها بعام 1852 م , وبقيت لما يقرب الخمسين عاماً تابعة الى بغداد , ثم الحقت بالكوت . الصويرة تتموضع بين بساتين النخيل والحمضيات على الضفة اليمنى لدجلة , وتقع على بعد خمسة وخمسين كيلومتراً جنوب بغداد , ومثل هذه المسافة تقريباً شمال شرق الحلة , وتتوسط العراق بالتمام كما يؤكد شاعرها المرحوم عبد المطلب الموسوي . اغلب سكانها من بغداد والفرات الاوسط , وهم خليط من العرب والاكراد الفيلية , وبعض عوائل التركمان والارمن والشيشان . وخليط ايضاً من الشيعة والسنة والبعض من الصابئة , واستمر آخر وجود يهودي فيها الى بداية السبعينات من القرن الماضي . وهو الخليط الذي حماها من الانزلاق الى التعصب الطائفي والقومي . بعكس ريفها الذي تمزق بعد ان سيطرت عليه عصابات البعث , وبعد ان وزعها صدام كأقطاعيات لمرتزقته من قيادات الفروع وضباط الحرس الجمهوري . هذا النسيج المتنوع لاهالي المدينة جعلهم يتفاخرون بأبن مدينتهم الشهيد الزعيم عبد الكريم قاسم , وهو الشخصية التي يعتبرونها رمزاً لمدينتهم , ولا احد لحد الآن يستطيع ان يجزم بتحديد اصوله القومية والمذهبية بشكل كامل , والجميع يدعي انتسابه اليهم , فهو العربي والفيلي , والشيعي والسني , والاهم ابن المدينة التي احتضنت هذا التنوع . وفي مفاتن هذا التنوع نشأ وترعرع احد مناضلي المدينة وهو حسين عبد المهدي الدباج .

دخلت عليه وهو يحمل صينية الشاي , لأنه لايعرف كيف يحمل قدحين او اكثر في يد واحدة مثل باقي اصحاب المقاهي . جلست على احد الكراسي القليلة في الغرفة الصغيرة التي سميت مقهى . ناديته بعد ان استدار الى الطباخ الذي عليه عدة الشاي : عمري ابو علي فد استكان جاي . تجمد لحظات , واستدار ببطئ وهو يسأل : تريده ساده , لو مكاسر ؟! أراد ان يتأكد بعد ان ميز صوتي . ضحك وعلق اثنان من الجالسين على ( ساده لومكاسر ) التي تستخدم مع المشروبات الكحولية وليس مع الشاي ... صمتا , بعد ان رأيا عناقنا ودموعنا . لم يمضي على فراقنا اكثر من ثلاث سنوات .

كان حسين سميناً وقصيراً , ويجد صعوبة كبيرة في حركة المفارز . كنا بيشمركَة في قاطع السليمانية للحزب الشيوعي , ونتيجة وعورة الطرق الجبلية , وقساوة الثلوج في الشتاء ’ اصيب بألتهاب الغظروف في الركبتين , وسبب له آلام كبيرة . كان الحزب يعتمد في وقتها على مساعدة الاخوة في الحزب الديمقراطي الكوردستاني لارسال انصارنا للعلاج في ايران , في مثل هذه الحالات الصعبة . وقد تأخر الاخوة في الحزب الديمقراطي في اعداد ورقة ارساله , مما اضطره للذهاب الى ايران بصفته الشخصية . وبعد وصوله بأسبوع الى الاوردكَاه " كمب اللاجئين " , وفي عيادة الطبيب الذي يراجعه تعرف عليه احد افراد ( الباسدار ) الايراني , من الذين كانوا على احتكاك مع قوات البيشمركَه العراقية في مناطق الحدود , واخبر عنه السلطات الايرانية كونه من الحزب الشيوعي العراقي . فسجن , وتكرر التحقيق معه لأكثر من اربعة اشهر . أستطاع بعدها ان يقنعهم بأنه كان ضيفاً عند الشيوعيين , لكونهم الوحيدين من العرب , بهدف مساعدته وايصاله الى جمهورية ايران الاسلامية . افرج عنه , وجاء الى مدينة قم , وساعده احد ابناء مدينته الذي يمتلك مطعماً فوق هذه الغرفة التي حولها الى مقهى .

تذكرنا تفاصيل حياتنا في كوردستان , ورغم شظف العيش وصعوبة حياة الانصار , الا انها المرّة الاولى التي امتلكنا فيها ارادتنا وفعلنا , ومارسنا فيها انسانيتنا بمساحات لم نكن نحلم بها . كنا سعداء , والنكته اصبحت صناعة انصارية , كان اسم حسين في الانصار " عمر " , واتخذ هذا الاسم تيمناً بأسم اخيه الكبير الذي كان شيوعياً ايضاً .

كان والد حسين المرحوم عبد المهدي الدباج يعمل بزازاً , صاحب نكتة وتعليقات هزلية . عم زوجته من السّنة المتعصبين , وكان يناكده في بعض الاحيان من خلال تسفيه الطائفية ودفعه للانفعال وسب عبد المهدي . عبد المهدي سمى ابنه البكر " عمر " , واثار دهشة عم زوجته الذي علق : يبدو ان عبد المهدي صار عاقلاً ... انتظر عبد المهدي ان يصبح عمر في السنة العاشرة من عمره , ليأخذه الى دكانه , وعند مرور عم زوجته ينادي على ابنه : ولك عمر تظل ماتفتهم ؟ فيطير ما تبقى من عقل في رأس عم زوجته , ويبدأ الأخير بالصراخ والسباب , وتنتشر أخبار هذه المسرحية يومياً في المدينة مع بعض البهارات . واخذ البعض يحقد على عمر وابيه بسبب هذه المسرحية والبهارات .... بعد سنوات , وبالتحديد عام 1963 م وبعد ثلاثة اشهر من انقلاب شباط الاسود , كان عمر يركب سيارة متوجهة الى بغداد , وفي سيطرة معسكر الرشيد أخبر احد الجالسين ( من حثالات البعث ) اخبر مفرزة الحرس القومي بعد ان ابرز هويته البعثية : ان عمر شيوعي . أنزلوه , ولم يعرف احداً عنه شيئاً لعدة اشهر . بعدها حكمت عليه محكمة الحرس القومي بالسجن , واودع السجن , واصبح شيوعياً رغم انفه .

كان حسين يضحك وهو يعيد قصة اخيه عمر , ويعتبرها احد الاسباب الرئيسية في حبه وانتمائه للحزب الشيوعي . تخرج حسين من دار المعلمين الابتدائية في الكوت , وعمل في سلك التعليم , كان معلماً ناجحاً ومثقفاً , وكان يعشق الدراسات اللغوية , وعمل لسنوات على قاموس اللغة الشعبية , ولا اعرف اين تركه ؟ تزوج عام 1978 م , وفي نهاية عام 1979 م اضطر لترك العراق بعد سلسلة استدعائات وتوقيفات وتعذيب من قبل الامن , حاله حال الشيوعيين الآخرين . ترك زوجته وطفلته رماح التي لم تتجاوز الستة اشهر , ولا أذكر مر يوم علينا في كردستان ما لم يظهر صورة رماح ويقبلها .

جلسنا نسائل بعضنا عن معارفنا , وبين فترة واخرى يطلب من اي شخص يقف امام طباخ الشاي ان يسعفنا بقدحين . لفت انتباهي كثرة الذين يأخذون اقداح الشاي , سواء الى المطعم فوقنا او يشربون ويذهبون , واخبرته : بأنني اعتقدت ان المقهى يعود اليك ؟ فأخبرني : بنعم , وسألته : لماذا لم تأخذ الحساب منهم اذن؟! اجابني : هم يحسبون ويعطوني عند ( التعزيلة ) . وكيف تضبط الحساب ؟! ما يحتاج , ذوله كلهم مثلنه , اليدفع يدفع , والما يدفع يعني ماعنده .

هو ذاته ابو رماح الذي عرفته سابقاً . تنقل في عدة اعمال , منها بائع خضرة وفواكه , بعدها عمل منقح في مؤسسة كَولبيكَاني لطباعة الكتب , وكان آخرها يعرف بأبو علي السماك , حيث يأتي بالسمك من اصفهان ليبيعه في قم . وعند اندلاع عاصفة الانتفاضة الجبارة عام 1991 م – ورغم تدهور صحته – الا انه شارك بفاعلية , وفي البصرة في احدى المواجهات بين الثوار وسلطة الغدر , اصابته طلقة غادرة في بطنه ليستشهد بعد ساعات .

جئ بجثمانه من قبل ابناء مدينته الصويرة ليوارى الثرى في مقبرة الشهداء في مدينة قم . وشهد يوم دفنه من المرارة والحزن من قبل اصدقائه ومحبيه ما لم تشهده قم من قبل .










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. زاخاروفا: على أوكرانيا أن تتعهد بأن تظل دولة محايدة


.. إيهاب جبارين: التصعيد الإسرائيلي على جبهة الضفة الغربية قد ي




.. ناشط كويتي يوثق خطر حياة الغزييين أمام تراكم القمامة والصرف


.. طلاب في جامعة بيرنستون في أمريكا يبدأون إضرابا عن الطعام تضا




.. إسرائيل تهدم منزلاً محاصراً في بلدة دير الغصون