الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفصل 3 من رواية الإنتفاضة العشيقة الزوجة ..

حبيب هنا

2009 / 9 / 18
الادب والفن


3

طويت أيام الأسبوع المهترأة ، ولم يتبق سوى السبت .. اغتلت الأزمنة التي تعكر صفو الحاضر ، وكأنها مقطوعة عن السياق التاريخي ، ولم أجرؤ للتعرض ليوم الغفران .. انتهكت أنسجة خلايا الشهيد الاستنساخية ، ومنعتها من إعادة إنتاج نفسها ، ولم أرأف بحال أُمٍ شيعت ابنها الأخير إلى مثواه ، ثم انطوت على نفسها في البيت .. تآمرت على ما تبقى من أحلامي عندما تأخر بزوغ الفجر ، ولم يسعفن ضعف نظري من قراءة ما يخبئه الغد .. نسيت " الباهر " تماماً ولم أتذكره إلاّ بعدما استشعرت طعم الذل .. قلت لنفسي : إما أن تتعود طعم الذل إلى أبد الآبدين ، وإما أن تقتفي أثر " الباهر " الذي ما زال يجوب البلاد طولاً وعرضاً غير عابئ بالانحسار والبحث الدائم عنه ..
وحين وصلت إليه كان قد تكاثر فأنجب " الحازم " و" الصارم " و " المتوكل " وبدأوا يدبون على الأرض ويجددون الوعد ، وامتلأت السهوب والجبال بهم ، فصارت ثورة من جبال الخليل حتى أنفاق رفح ،مما أعادنا إلى البدايات الأولى ، والرصاصات الأولى ، ودخول غرناطة ، و الاستجمام على السواحل الإسبانية ..
ولما اقتربت من مدخل الصحراء ، سمعت الهتافات الممزوجة بالزغاريد والصيحات ، تتجلى بوضوح ، عندها أيقنت أن أُمّاً تودع ابنها ، أو زوجة تودع زوجها ، أو أطفالاً يودعون أباهم ، أو كلهم مجتمعون يودعون الشهيد الذي آثر قبضة تراب عن قبضة ريح ، وفضل الترنيم معها عند همسات الفجر عن هرس حصاها والدب فوقها كلما طاردته أطعمة الحياة الفاسدة .
وقبل أن نغادر الصحراء ونودع قبور الشهداء ، أنا و" غادة " سمعت " الحازم " يخاطب " المتوكل " قائلاً :
ـ فيما مضي كان الكبار ، أيها " المتوكل" ، يرحلون إلى مثواهم الأخير عندما يحين الوقت ، والصغار إلى مدارسهم ، وكانوا عندما يقرع الجرس يصطفون طابوراً واحداً بانتظار انطلاق النشيد

وترديده . أما الآن فالكبار يحتضنون جدران البيوت الباردة خشية التداعي والسقوط ، والصغار يتصدون للرصاص بصدورهم ثم يرحلون إلى القبور بعيون مفتوحة تطمح بالحرية ورفع العلم .
مضى المشيعون بعد انتهاء المراسم فيما بقيت أنا و " غادة " نتفقد قبور الشهداء دون تحديد الهدف من وراء ذلك ، وفجأة دار سؤالها في رأسي دورته الجنونية ، وكانت قد سألته منذ اللحظة التي حطت فيها أقدامنا أرض الصحراء وشاهدنا القبور ، ولم أجب عليه :
ـ بماذا تشعر عندما تنظر إلى قبور الشهداء ؟ وهل المشاعر ذاتها تنتابك عندما تقف أمام القبور المختلفة ؟
عندها كنت أقف أمام قبر أبي .. دار السؤال دورته ، وفتح في عقلي إجابات لا حصر لها ،لخصتها في جملة واحدة :
إن الحياة لقذرة ، ولو لم تكن كذلك ، لما استقبلها الطفل الوليد الذي يغادر رحم أمه للتو بالبكاء !
شبكت ذراعها في ذراعي ، لأول مرة ، في أعقاب اقتراب أحد المتسولين بثيابه الرثة وملامحه الغائرة في القدم إلى بداية التكوين .. مد يده قائلاً :
ـ تصدقوا عليّ رحمة عن أمواتكم .
لم أعتد هذا النوع من الصدقة ، غير أنني فعلت استجابة لرغبة " غادة " بعد أن قالت :
ـ إنه إنسان مسكين ، بسيط ، أعطه ( شيكلاً ) كي يمضي ..
أنقدته ( شيكلاً ) فيما بقيت أذرعنا متشابكة ، ننظر إلى القبور ونسير بينها .. نتأمل العالم الراهن ونحن بين كفي العالم الآخر .. هي غارقة في تفكيرها الخاص ، وأنا غارق في الكينونة .وفجأة ، ضممتها إلى صدري وسمعت أنفاسها الصاعدة إلى الفضاء ، ودقات قلبها التي تؤكد استمرار الحياة ، دون أن تعترض أو تتمنع كما لو أنها تحتمي من خوف داخلي بالتصاقها بي . وكانت البذرة المغروسة بجوار القبر قد أضحت شجرة فردت ظلها علينا فغدونا شاهداً واحداً لقبر مجهول ، وكان أبي يسمع همسنا ويبارك هذه اللحظة ، فيما أخذنا نحن الاثنان غادة وأنا نقرأ الفاتحة على ضريحه ونترحم عليه..!!
في خضم هذه المشاعر ، أخذ عقلي يقيس أهلية التعايش مع اثنتين ، و المضي في التجربة حتى نهايتها الغامضة .. لقد فكرت أن أجمع بين طرفي المعادلة ، وأسير بهما في آنٍ معاً؛ أن أبقى مع زوجتي التي أحب ، ومع " غادة " التي لم أتصور فقدانها لحظة . ولكن كيف ؟ كيف لي أن أفعل ذلك ، وأنا محاصر بكل أوهام اليقين !!
حين كنت انفرد معها في مكان بعيد عن أعين الناس ، لا أدري ، كيف ألبس شخصية غير ما عرفت به من وقار ، فأبدو متوحشاً، كما لو أنني أرى المرأة لأول مرة !
كنت أتحدث معها بكلمات تصيب القلب ، وكانت فوراً تذكرني بزوجتي ، في وقت أعرف فيه ، أن هذا التذكير يوحي بحجم الإصابة التي طالت قلبها فتحاول الهرب ، ومع ذلك ، كنت أواصل حديثي فأقول :
- أنت جزء مني ، وأنا كذلك .. ولكن لماذا نخشى من الإعلان
أننا نكمل بعضنا ؟ ولماذا نسمح للوحش الرابض في أعماقنا، الذي نسميه الخوف التحكم في حبنا و إبقائه في الظل ؟ ونظرت إلى عينيها ، فجأة ، في لحظة خارجة عن العقل و لا تخضع لأي منطق ، فرأيت كل أسراري تلتمع فيهما ، كما لو أنني عارِ تماماً وليس هناك ما يستر عيوبي .. في هذه اللحظة بالذات ، نزف جسدي من العرق ما يكفي لنظم قصائد ( امرئ القيس ) في عقد يتزين به كل المحبين ، بعد أن يرموا همومهم خلف أمواج البحر المتلاحقة التواقة إلى التلامس دون جدوى .
وتعلمت السباحة في عينيها ، نعم ، هذه هي الكلمة المناسبة ،تعلمت السباحة و الغطس إلى أعماق المشاعر الإنسانية ، ولكن دون النفاذ إلى قرارها ، غير أنني أخيراً أمضيت عطلة نهاية الأسبوع بين طبقات صوتها ، دون أن أقدر على قول كلمة واحدة تمزق هذه اللحظة ، أو تنقلنا إلى أخرى مخالفة لها بالحجم ، ومضادة لها بالاتجاه .
وجعلت نفسي أتصورها تمشى على التراب عارية القدمين ، فإذا به يستحيل إلى قطرات ندى بعد أن جمعته في وعاء بلوري شفاف بإمكان العشاق ، فقط ، مشاهدة لحظات اللذة وهي تتراقص من خلفه !
كانت أكثر من نصف ذكية وأقل من مطلقة الذكاء.. تعرف ماذا تريد ، ولا تفتح مجالاً لكل الشباب كي يفكروا بها .. تصد البعض عندما يحاول الاقتراب منها ، وتطرب عندما يلاطفها البعض الآخر .. تتوقد باهتياج العشاق عندما تكون بصحبة اللواتي أقل منها جمالاً ،وتنكمش عندما يندفع المولعون في تصورها بين أذرعهم ، وعيونهم تتطاير شرراً ..كانت شديدة النعومة و تثيرك بتمنعها المتعمد ، مما يجعل أمر التفكير فيها دائماً . وكنت دائم الاشتهاء لها .
ومع كل يوم جديد ، أكتشف المدهش والمثير ليس فقط على صعيد صفاء بشرتها ونعومتها ، بل أيضاً على صعيد نمط التفكير و النظر إلى الحياة . كانت تؤثر العطاء ومساعدة الآخرين ، بكل ما تستطيع ، عندما يطلبون منها ،حتى وإن كان ذلك على حساب أولويات أخرى على مستواها الخاص . وكانت كلما خلت مع نفسها – معي – تطلعني على أدق التفاصيل ، على موقف البعض بالرد على الجميل بالجحود ، وعلى ازدياد تعلق البعض الآخر بها جراء الجميل . وكنت أكبر فيها هذا التصرف كما لو أنها تضع قدميها في المكان الذي يضع فيه الآخرون رؤوسهم .
كان الصمت قد أطبق أسنانه على حضورها ، فبدت كأنها غارقة في بحيرة من الذكريات المؤلمة ، وبصعوبة استطعت اغتصاب ابتسامة من بين شفتيها ، بعد أن وضعت يدي فوق يدها ، فإذا بها ترتجف .. عدت بالذاكرة إلى الوراء ، إلى المنعطف الأول ،وراء الفكرة الحمقاء التي جعلت من قلبي يتوثب ، كأنه بانتظار فجيعة غير متوقعة على وشك الحدوث دون مقدمات ، ولكني أحس بها على نحو غامض . عندها عرفت الفرق بين نقطة المطر الساقطة من السماء كي تغسل الشجر و الحجر ، الإسفلت والناس من الأوساخ العالقة بها ، وبين نقطة الدمع المتكورة على طرف رمش العين ، أو قرص الخد كي تغسل النفس البشرية من العذاب . و عندها ، فقط ، كان يتعين عليّ أن أقول شيئاً بغية إخراجها مما هي فيه من تفكير وخوف وذكريات مؤلمة ، فقلت :
- إن رجفة يدك لا تعبر بالضرورة عن الخوف و التوتر ، بل قد
تكون جراء ازدياد حجم عشقك لي .. انهمرت الدموع وفعلت فعلها ، مما ترك أثراً بليغاً في مساحيق التجميل ، فأحالها إلى خطوط تشبه السيول التي تحدثها الأمطار الغزيرة ، عندما تتساقط على صفحة الرمال الصفراء المنحدرة قليلاً ..ولما مددت يدي حتى أعيد للوجه نضارته ، رمت نفسها في أحضاني ، وتركت رأسها يتكئ على كتفي في نفس اللحظة التي غزت فيها نوبة بكاء حادة كيانها وجعلت جسدها كله يرتجف .. ومن بين زخات البكاء والارتجاف سمعتها تقول :
- إنني خائفة من المستقبل !
ظلت بين ذراعي ، لا أنا قادر على اعتصارها، ولا هي تملك حق فك الارتباط .. !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ذكرى وفاة الشاعر أمل دنقل.. محطات فى حياة -أمير شعراء الرفض-


.. محمد محمود: فيلم «بنقدر ظروفك» له رسالة للمجتمع.. وأحمد الفي




.. الممثلة كايت بلانشيت تظهر بفستان يحمل ألوان العلم الفلسطيني


.. فريق الرئيس الأميركي السابق الانتخابي يعلن مقاضاة صناع فيلم




.. الممثلة الأسترالية كايت بلانشيت تظهر بفستان يتزين بألوان الع