الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العالم عندما القصيدة نثرا _ 1

عبد العظيم فنجان

2009 / 9 / 19
الادب والفن



سومري في ساحة الميدان ، في بغداد

الى الشاعر جمال محمد امين

ها أني أكتبُ قصيدة نثر لا تقول شيئا ، ذلك أن أقصى ما اريدُه هو هذا ، رغم أنني اطمحُ أن تكون عنوانا لمجموعتي الشعرية : اريدُها أن تشي بلحظة حزينة ، و بوعي مضطرب ، متلاطم الأمواج : لا قعر له ، فيما اللؤلؤة هي سطحه ، لكن هل من الضروري أن تقول القصيدة شيئا ما ، كي تكون عنوانا ؟!


وحدي في ساحة الميدان ، بلا سجائر أو نقود ، مثل نسر جائع : ممنوع من التحليق حول أسوار الكلام ، أبحثُ عن فريسة اثرثرُ معها ، كي أتلافى السقوط في كمائن التفكير بهذه الهواية الحزينة ، فالشِعر مسألة شخصية جدا ، لا تعني أحدا : إنه مرضٌ كلما تقدم به العمر صار وكرا لألم لا يطاق ، لكنه مما يرفع الانسان فوق ذاته ، أما التصفيق فليس الا سلّم الهبوط نحو الدرك الأسفل من العافية : ما الشاعر، في هذا الزمن الكافر ، إن لم يكن غائبا في حضوره ، مثل ساعة يأوي اليها الوقتُ ، حتى وإن كانت محطمة ، تحت الأقدام ، وعاطلة ؟!
مَن سنّ قوانين النشر؟ مَن أوكل اليه أن يضع الأوسمة ، بأية مناسبة ، وأي معدن يعادل الكنز المخبوء تحت طبقات الكتابة ؟ و لماذا يجب على الشاعر أن يُصدر مجموعة شعرية ، كي يتم الاعتراف به من لدن شعراء لا يعبأ بهم أصلا ، كأن تجربته في تخريب قصائده ، قصيدة بعد قصيدة ، ليست مجموعة شعرية فريدة ، لا تقول أو تقول شيئا ؟!

ـ " يا للسخافة !
صار الصبيانُ شيوخا ، دون أن يصحبوا الطوسي في محنته ، وهاهم يـُثقلون ظهرقصيدة النثر بمتاع القريض ، لكن إذا كانوا لا يرون أن رامي السهام ، في الكهوف ، هو نفسه الواقف خلف المنجنيق ، عند أسوار بغداد ، إذا كانوا لا يرون أن رامي المنجنيق هو نفسه رامي البندقية ، وإذا كانوا لا يرون أن رامي البندقية هو نفسه كما يتجلى الآن ، على شاشة التلفاز ، بهيئة ذئب ، يرسلُ ، بلا توقف ، سيل لعابه في نهر الوعي الجمعي للخروف ، فكيف يفهمون العالم عندما القصيدة نثرا ؟! "

أقولُ ، وأنا أهزُّ رأسي ، ثم أتلفتُ ، يمينا ويسارا ، خشية أن يكون قد سمعني الشعراءُ الكبار المسموحُ لهم بالتحليق حول الأسوار .


ـ " لقد شحبتْ هذه المهنة .. "

تعلـّق فاكهة ٌعجوز تدخنُ سيجارة ، على الرصيف ، أجلسُ الى جوارها : تضربني على كتفي ، ضاحكة بصدق ، فتطفرُ أسنانها الاصطناعية ، وأنا أقترحُ عليها بجدية مَن قرأ الماضي والحاضر والمستقبل :" لقد أفـلِتْ شمسُ جَمالكِ ، التي كانت تشرقُ في سماء هذه الأزقة ، يا صديقتي ، فلِمَ لا تجرّبي العملَ في سوق السياسة ؟ ".

حقا ..
إنني أستغربُ من النساء اللواتي فقدن الأملَ ، لِِمَ لا يشعلن الشموعَ للعيـّارين ، ولشطّار بغداد ، بدلا من الأمين أو المأمون ؟ ومادام تيمورلنك سيصل ، بعد هولاكو ، كما هو مكتوب في الصفحة التالية من كتاب التاريخ ، لِمَ لا تترقبُ الامهاتُ الخائباتُ ظهورَ المخلّص بهيئة شاعر مفلس ؟


لا نقود ، لا خمر ، لأحسمَ هذه المسألة : الساحة تقفرُ ، والباعة يعودون ، من شارع المتنبي ، متأبطين خواطر مفخخة بحشرجات من سطور الكتب : تنفجرُ مع أول كأس هناك بعيدا ، في الضواحي ، فيما الساعة تشيرُ الى عشتار: تنظرُ اليَّ من الشُرفة ، وأنا أتسكعُ وحيدا : بيدي دمعة ، هي كل ما أملكُ من زادٍ لقطع المسافة التي تفصلني عن الصباح .
آه ، عشتار ، هذه الألهة الشبقة ، التي تطاردني أين ما حللتُ . لا أعرفُ حضارة لم تضعها في المقدمة من فاتناتها ، لا أعرفُ بلادا خالية من ضحاياها ، لكنني سأشربُ الدمعة ، وأسكرُ على نباح الكلاب الذي ينتشرُ في الساحة ، فعشتار لن تختلط بالشعراء اليائسين ، الذين لا يبحرون في العالم الا على متن زوارق مصنوعة من أوراق قصائدهم .

هنا كان عقيل علي ، في أحد الأزقة ، يسكرُ في حانة حنين : يغمسُ قصائده في صحن صحته الرديئة ، ويتلو على السائرين في نومهم تمائم تصدُّ عن حامليها كل شيء الا الأمان ، و .. ذات ليلة طردونا ، أنا وحسين الصعلوك ـ كما لم يطردوا الأمين والمأمون ـ بعد معركة طائشة بالقناني والمسدسات ، استمرتْ طويلا ، ولم تتوقف ، حتى بعد أن وصل المغول ، حتى بعد أن سحلوا بغداد في الشوارع : طردونا من الحانة ، من الحانة طردونا ، فخرجنا محمولين على أكتاف الافلاس ، لنقابل جان دمو في حديقة اتحاد الادباء ، عائدا من استراليا بعشبة الخلود ، وقد حفر خندقا عميقا من الضحك المرير، ثم جلس فيه مدافعا عن أملاكه بشجاعة المحارب الخاسر منذ أول معركة : يملكُ دمعة واحدة .

ـ " إنها دمعتي التي شيـّدتـُها بدموعي .
أعمالي الشعرية الكاملة هي ، وحياتي "
كان يهتف .
" هي مختصر ألواحي الطينية ، التي ضمّنتها أسفاري الى أتونابشتم ، و لم أكتبها كلها ، لأن الخلودَ لا يساوي كل هذا الحنان " .

فيما كانوا يرمون سلة عظامه ، بالمنجنيق ، الى السماء ، وخلفها ، حتى آخر نجمة مضيئة ، يقفز موكبٌ شاسع من الكلاب ، ثم يهبط نابحا في ساحة الميدان ، حيث أمشي وحيدا ، أبحثُ عمّن يطرد الاسئلة ، كي أتلافى السقوط في كمائن التفكير بهذه الهواية الحزينة : كتابة الشِعر، و لا أفهم ، الآن ، كيف خطر لي أن أنتقم من الشيوخ والصبيان معا ، من التاريخ ومن المناهج ، بأن أكتبَ هذه القصيدة فوق جلد لحظتي التي شوّهت خارطتها السياط ُ ، لكنني أذكر أن حكمة جان اخترقتني عميقا ، فلم أسكر، لكنني ثملتُ حتى الصباح ، ممّا أتاح لي أن أرى سركون بولص عن قرب : يمشي وحيدا في الصحراء ، وفي مخيلته سربٌ من العبيد ، منهكين خلف الاسوار، وهم ينقلون حسرات امهاتهم لتشييد زقورة اور ، عند ذلك رأيتـُني أفرُّ من بين يدي أبي طفلا ، ألهو بضرب العظام ببعضها في المقابر الملكية ، حيث عشتار تحوم من حولي ، مثل طيف ، تخطفني مع أثمن ما حفظتُ من ترانيم ٍ سمعتـُها ، وأنا مازلتُ نطفة في رحم المعابد السومرية .

" هذا حال مَن تهرّأتْ شرارة فيضه ! "

أقولُ مع نفسي ، وأنا أبسط ُ يدي لأطمئن على سلامة الدمعة .

..................................


يتبع ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الشاب ناصر نايف.. ضيف صباح العربية


.. الفنان ناصر نايف من كورال خلف النجوم إلى أهم الفنانين الشباب




.. حملات مرشحي الرئاسة بموريتانيا تستخدم الحفلات والسهرات الفني


.. المصمم ستيفان رولاند يقدم مجموعته الجديدة المستوحاة من أشهر




.. الممثلة القديرة وفاء طربيه تتحدث عن النسخة السابعة من مهرجان