الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صراع الأضداد والفن

جمان حلاّوي

2009 / 9 / 19
الادب والفن



الفن هو التمثل الواعي للمؤثرات المحيطية كرد فعل انتقائي استجابة لحاجات معينة أو علاقات حياتية .. فهو تعبير عن علاقة عميقة بين الإنسان والعالم لذا فهو منهج ووسيلة في عملية التوازن الحياتية للإنسان.
ومادام عدم التوازن حالة مستديمة وان الصيرورة مستجدة ومتغيرة فأن
الفن يبقى ضروريا" لكل المجتمعات وفي كل الظروف ليملأ فراغ الذات وفي إشباع حاجتها .
إذن فالتناقض الطبيعي في الوجود والتضاد المستمر للوصول إلى حالة من الاستقرار يدفع الوعي إلى تشكيل ما يتمثله العقل وحسب درجة تطوره الحضاري صورا" ومنحوتات أو أشعارا" وأساطير وملاحم أو رقص .
فالفن هو الانعكاس المدرك للمؤثر الخارجي يتم تمثـّله داخل الدماغ وإخراجه في هيأة صور وأشكال تلائم مستوى الوعي بما يوازن ذلك التناقض والتضاد الذي أضحى جزءا" منه .
وهنا إذ أعبر عن رأيي أكون على خلاف واضح مع ما طرح في كتاب الأستاذ يوسف حوراني " البنية الذهنية الحضارية في الشرق المتوسطي الآسيوي القديم " حين يقول : فالمجتمع والأرض حين حررا الإنسان من التوحش منحاه فرصة لممارسة تجربته الأخلاقية كما حولا قلقه الطبيعي الذي كان يملأه بالتشرد والصراع المتوتر إلى منافذ جديدة تتواءم مع استقراره فكانت من هذه المنافذ إطلالة الإنسان على التدين والفن ، وهما ملازمان للاستقرار الاجتماعي لتوكيد إنسانية الإنسان"....انتهى النص ،

فالإنسان حين انتقل من مرحلة الكهوف إلى مرحلة الزراعة لم يخلق ذلك الانتقال أسباب استقراره بل بالعكس بدأ يبحث عن أساليب جديدة لضمان وجوده وبقاءه وانسجامه مع قوى اكبر منه واعنف ، فالحالة الجديدة قد ولدت صراعا" من نوع جديد وبصورة أكثر وضوحا" وعنفا" ، تطور الصراع من مرحلة الإنسان مع الوحوش والطبيعة إلى الإنسان مع الإنسان ، فظهر الإقطاع والرقّ كتضاد حيوي استوجبته المرحلة تلك من الوعي !
ومن ثم البرجوازية الصناعية كتضاد ثوري مع الإقطاع السلفي ، وحتى يومنا هذا لم يزل الصراع محتدما" بين الامبريالية والشعوب الناهضة تحت مسميات جديدة مثل ( العولمة) وغيرها ..

وكان الفن الواجهة العريضة لهذا التضاد ومتنفسا" للوعي الإنساني تجاه المضاد الآخر، ولنأخذ الرقص على سبيل المثال فأن حركة الرقص في تحريك الجسد ضمن إيقاع معين هو ظاهريا" اندفاعا" جنسيا" نحو الآخر لكن الرقص مع ذلك يحمل داخله صراعا" متواصلا" هو التخلص من المحيط الضاغط وكأنه رفسات في وجه الجمود والتوقف الزمني، والركود. وكان أساس ظهور الرقص هو التجلي أمام غموض ظواهر الطبيعة ليحاكيها ويخلق دمجا" بين الراقص وهذا الغموض في حالة من التواصل بين النقيض ونقيضه ، فللرعد رقصة وللزلزال رقصة وللموت رقصة وللحرب مع العدو رقصة ، فالرقص هو تكملة توازنية تتحرك بتحرك المضاد وبعكس اتجاهه حتما" !

ويمثل الفن في نفس الوقت ذهنية الإنسان ضمن عصره فإنسان الكهوف كان ينحت المرأة في هيأة الأم ممتلئة الأثداء التي تصالب يديها دلالة الاحتضان في الفترة الامومية كطوطم حامي القابعين في الكهف عما يجول خارجه ، أو رسوم لحيوانات كاسرة وقد أصابتها سهام الصيادين رمز الصراع الأبدي بين الإنسان والطبيعة ، وحين نقارن هذه الرسوم والتي خطت منذ أقدم العصور بلوحة معاصرة لا نرى اختلافا" في مفردات الصراع تحديدا" كجدارية الحرية للفنان (جواد سليم ) وسط ساحة التحرير في بغداد مثلا" ؛ الصراع المحتدم بين الثورة والنهوض متمثلا" بالجندي وبين أعمدة السجن التي يواجهها وبدأ بتهشيمها لكنها بالتضاد كانت تقاومه وقد انحنت نهاياتها كالأفعى محاولة الالتفاف حوله . والجدارية ككل تحمل ذلك التوازن الواضح بين قوى الخير والإنسانية متمثلة بثورة 14 تموز التي حررت العراق من الملكية وحلف بغداد الاستعماري عام 1958 على يسار الجدارية ، و قوى الظلام والقمع والاستبداد على يمين اللوحة وبنفس كثافة المفردات وبوجود خط الزمن الخفي التي يتجه دوما" إلى يسار الجدارية .. هو إدراك ذهني لدى الفنان إن كثافة قوى الظلم والاستبداد توازن كثافة قوى الخير لكنها لا تحمل فاعليتها في الحركة والصراع فتتهشم تحت ثقل كثافة قوى الخير، وتسحق .
وهناك مثالا" آخر متمثلا" في لوحة ( جيرنيكا ) لبيكاسو التي رسمها باللونين الأسود والأبيض والمعروضة حاليا" في مقر هيئة الأمم المتحدة وهي تمثل مأساة قرية جيرنيكا التي قصفتها القوات النازية الألمانية المتحالفة مع جيوش فرانكو بقنابل الطائرات كأول حالة ضرب مدنيين هكذا في التاريخ المعاصر للقضاء على الجمهورية الفتية في اسبانيا ؛ هناك الحصان الهائج الذي يسحق بسنابكه التي لبست حذاء النازي طويل الرقبة جسد المقاتل الذي تكسر سيفه لكنه مازال ممسكا" به بقوة ، وقد نبتت قرب السيف وردة لم تزل طرية ، وقد جاءته قوى النور حاملة فانوس صارخة به .وهناك في الجانب الأيسر من اللوحة امرأة تحمل رضيعا" مقتولا وهي تصرخ بوجه الثور رمز اسبانيا الملكية المتحالفة مع النازي. نلاحظ توازن كثافات قوى التحرر مع قوى السحق والهياج . وجعل بيكاسو من قوى الدمار وسط اللوحة حاملة ثقل المنظور جامعة كثافة مكونات اللوحة حولها وكأنها دوامة إعصارية تلف أحرار اسبانيا المشمّرين في اللوحة هنا وهناك وسط الحرائق والصراخ ، وقد تكسر خط الزمن في اللوحة لأن الردة قد حصلت في اسبانيا بعد أن سحق الجيش الأممي الذي اجتمع لمساندة جمهورية اسبانيا الفتية على يد الدكتاتور فرانكو عام 1937.
بل وحتى اللوحات ما قبل الانطباعية المتمثلة بالعصر الرومانسي حيث ترسم اللوحات داخل الاستوديوهات ولأشخاص معنيين فلن يكون للوحة معنى بدون النور الذي يبزغ من فجوات الظلام كانعكاس الشمس الدخلة من نافذة ما على الوجوه في اللوحة ، أو بروز الأنف والأكتاف في المنحوتات لتعكس ذلك التضاد الطبيعي الموجود في كل شيء .
وظهر ذلك جليا" في الفترة الانطباعية والتعبيرية بالخروج إلى الطبيعة وتنفيذ الرسوم وسطها بكل عنفوان الشمس وبهجة الألوان كثورة ضد الرومانسية واستوديوهاتها المظلمة كما في رسوم مانيت ومونيت و رينوار وسيزان وبيسارو وغيرهم من المبدعين ..

ونؤكد هنا أن الفن مهما كان شكله ومضمونه فأنه يحمل نزعة إنسانية طبقا" لقدرة الفنان على استيعاب ذلك المجتمع لتضفي شمولية ضمن لامحدودية الوجود الإنساني ، حيث أن خصوصية الفن تحمل في أعماقها رواسب عمومية إنسانية تفرض وجودها رغم كل فردية لأن حتمية سير عملية الفن في أي عصر توضح نفسها كلازمة لتلاحم العلاقة بين الإنسان والجماعة ، فإنسانية الإنسان ليست فردية بل جماعية ، والفن هو المؤشر الذي يعبر عن إنسانية الجماعة ، لذا فأن الفن رغم استحواذ روح العصر عليه بأطره السحرية أو العقلانية أو الهامات حدسية اقتضتها الحاجة الآنية فأن وظيفته تبقى دائما" بتحريك الذات ( الأنا ) نحو الكل ( النحن ) إن كان بالإيحاء أو الإشارة المباشرة ، فأن ذلك يقود إلى دمج الإنسان مع غيره بإشباع حاجة كل فرد للخروج من اطر محدوديته إلى الحاجة الجماعية .
..................
فالفن هو خلاصة التجربة الإنسانية في الاكتشاف التخيلي لعملية خلق واقع مثير ما كان ليكون لولا قدرة الإنسان على الابتكار في تحويل الأشياء إلى تجريدات كناتج تغريبي لعقل الإنسان يكمن فهمها عن طريق المقارنات والاستدلالات المأخوذة من التجارب الإنسانية ، وان هذا التجريد هو رد فعل انتقائي لفعل خارجي واقع تمثـّله العقل فكان إبداعا" فنيا" ..
جمان حلاّوي /أميركا
Email / [email protected]









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - من دون مجاملة
جيفارا ( 2009 / 9 / 19 - 19:07 )
ست جمانة الموضوع جدآجميل بلا مجاملة لأننا نحتاج ألى مواضيع ضمن هذأ ألسياق أإلجمالي مواضيع تتناول ألبحوث ألجمالية وفلسفة ألفن وفلسفةألجمال نشكرك مرة ثانية علىهذاالبحث ألجميل وألمهم وألصعب.......نطلب منك المزيد من هذة ألبحوث لأن ألمكتبة ألمرئية وألمقروئة تفتقرلمثل هذة ألمواضيع وشكرآ

اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب