الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأب والابن وروح البؤس

وليد خليفة

2009 / 9 / 20
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي


الأب والابن وروح البؤس
في تقاطعات الحالتين السورية والليبية
إلى أرواح ضحايا الديكتاتوريات في كل مكان
وليد خليفة

في البدء ، كانت ليبيا بالنسبة لنا ، السوريون من مواليد ما بعد انقلاب البعث ، بلد غني يتوجه إليه أهلونا الفقراء للعمل والعودة بأموال معقولة ، أقل من العائدين من الخليج وأكثر من العاملين في سوريا ولبنان والأردن ، كان العائدون ينقلون لنا صورا طريفة نتداولها بيننا للتندر عليها ، من تلك الصور المعلقة في الذاكرة ، صورة حضور الزعيم على شاشة التلفزيون الليبي يوميا ، صورة عن شتائمه وأهاناته بحق الشعب الليبي ، الشتائم والإهانات التي كانت تثير سخريتنا ، حيث كان العمال البسطاء العائدون من مهن شاقة في تلك البلاد ، يجاورون أحاديثهم عن شتائم الزعيم وإهاناته لشعبه بحكايات عن كسل المواطن الليبي واتكاليته وبداوته وحمله للسلاح تأهبا لأي معركة أو شجار أو سطو ليستخدمه باسم الشرعية الثورية ، " اللجان في كل مكان " و " السلاح بيد الشعب " " الديك لا يبيض والدجاجة تبيض "، كنا نتداول تلك الجمل من كتاب القذافي " الأخضر " بسخرية مرة ، ظنا منا أن الليبيون نسخ متشابهة من زعيمهم ، حتى جاءت مجلة الناقد التي أصدرها رياض نجيب الريس ، ومعها عرفنا وجوها غير وجوه تلك الحكايات المغرقة في الجهل والتجني ، بطرفيها ، الراوي وأبطال الرواية ، تعرفنا مع مجلة رياض الريس على المفكر الكبير ، الراحل ، الصادق النيهوم ، معه تابعنا " إسلام ضد إسلام ، شريعة من ورق " و " الإسلام في الأسر ـ من سرق الجامع وأين ذهب يوم الجمعة ؟" و .... ومن خلال عدد خاص عن ليبيا ، عنون ب " طرابلس الغرب قبائل من شعراء أو شعراء من قبائل " عرّفنا الشاعران اللبنانيان ، يحي جابر ، ويوسف بزي ، على قبائل من شعراء وكتاب ليبيون ، نذكر منهم ، فرج بو العشة ، فرج العربي ، إدريس المسماري ، إدريس ابن الطيب ، أحمد الفيتوري ، سالم العوكلي ، وغيرهم ، وتعرفنا على أسم المدينة الموعودة بنكبات الزعيم ، بنغازي ، المسكونة بهواجس الأمهات الخائفات على أبنائهن ، على الأبناء الذين لا يستطيعون فك ألغاز القدر التراجيدي المحدق بهم كل حين ، تعرفنا على طرابلس وبحرها ، وهنا بدأت رحلة التساؤلات الأخرى .
حين تعرفت على ليبيا من خلال ما ذكر ، كانت سوريا تعيش ظلاما مشابها ، ميليشيات مسلحة في كل مكان ، تشبه ميليشيات اللجان الثورية السوداء ، شعراء وكتاب ومثقفون حالمون يزجون في السجن ، آخرون يتسيدون المشهد بحكم العلاقة برجال العائلة الحاكمة وضباط حمايتهم وجلاديهم ، مثقفون بالأجرة وآخرون في السجون ومن كان محظوظا وجد منفى يحميه من نكبات القدر البعثي ، كانت السجون تأن من ثقل زوارها ، كان الداخل إليها مفقودا ، والخارج منها مولودا ، كنا نهمس بالسر في غرفنا المغلقة ونكتب على دفاترنا السرية التي نخبئها في أغراض أمهاتنا الأميات ذكريات وقصائد عن رائحة الدم التي تفوح في شوارع مدننا ، كنا نشيّع موتانا بقصائد سرية ، نعزي أبناء وأخوات الذين قضوا حياتهم في سجون الديكتاتورية ، ضحايا مجازر سجن تدمر وسجن المزة ، ضحايا آخرون قضوا نحبهم أثناء التعذيب في فرع فلسطين " 235 " وفرع التحقيق العسكري وفرع المنطقة وفرع المدينة وفرع أمن الدولة وفرع التحقيق الجوي ، فروع تحقيق وتعذيب وسجون ملحقة بها على مدى النظر ، كان واحدنا محظوظا حين لا يكون له شقيق أو شقيقة أو ابن عم مفقود في أحد هذه السجون ، كنا نأمل بغد قريب ، فقد تهاوت الكثير من الديكتاتوريات العتيقة ، ديكتاتوريات الحزب الواحد واللون الواحد والشعار الأوحد ، مع سقوط حائط برلين وصرخة غورباتشوف السعيد بالغلاسنوست، والبروسترويكا ، تعمدنا نحن الفتية الحالمون بسماء أكثر اتساعا لأحلام شعوبنا إلى كتابة كلماتنا على جدران المدن في دمشق وحلب وحمص وحماة والسويداء ودرعا ووو ، قلنا الحقيقة من وجهة نظرنا ، طالبنا بأن يرحل صديق تشاوشيسكو الروماني ، قلنا حافظ سترحل كما رحل تشاوشيسكو ، نعم للحرية ، لا للقمع ، لا للديكتاتورية ، كنا نمارس أحلامنا في الكتابة على الجدران ليلا ، لنمر في النهارات ننظر إلى الشعارات التي شوهتها مخالب أجهزة الأمن بشكل موارب ، استنفرت أجهزة الأمن في كل بقعة ، بدلنا أماكننا ، مضينا إلى القرى لنكتب شعاراتنا ، نحث الناس على الانتفاضة كما فعلت الناس هناك في أوروبا الشرقية ، لم نكن نعرف بعضنا ، لكن أحلامنا كانت متشابهة ، راقبوا أحلامنا ، فأصبحنا من المفقودين على حين غرة ، تقول أرقام منظمات حقوق الإنسان أن عدد المعتقلين بين خريف العام 1991 وربيع العام 1994 بلغ ثمانية عشر ألف معتقل رأي من أصل عدد سكان سوريا الذي لم يكن يتجاوز الإثنى عشر مليون نسمة حينها .
في يوم التاسع من شهر سبتمبر من العام 1993 وتماما عند الثالثة صباحا كنت أودع الحياة في أحد أقبية الاستجواب ، كنت محاطا بالرعب والذهول من قسوة هذا العالم ، كان شريط ذكريات عمري القصير يمر أمام عيني ويعاود نفسه ، عمري القصير بصفحاته البيضاء كملاءة بيضاء في قسم الوفيات في مستشفى ، كنت أوقع على أوراق لم أقرأها حينها إلا لملأ المطلوب ، اسمي واسم أبي وأمي وأخواتي وأبناء العمومة والعمات والخالات والأقرباء حتى الدرجة العاشرة ، أسماء لا تنتهي وما عليك إلا تعبئة الفراغات ، من منهم معتقل وأي التنظيمات ينتمون ، كانت الصفعات تنهل من كل حدب وصوب حينما أجهل الجواب ، نعم كانت الصفعات والركلات عنوان المدخل ، وكان أبو صدام وأبو علي سكر وعبدو الديري ـ أسماء بعض المحققين في فرع فلسطين ـ على أهبة الاستعداد لفعل كل شيء ، يبرزون عضلاتهم المفتولة وأعضائهم التناسلية في وجوهنا ويتوعدوننا بفظائع الأمور ، الشتائم حدث ولا حرج ، فتلك هي مهمتهم في الحياة ، الضرب والشتيمة، قضيت أيامي وأنا أفكر بأمي ، كيف ستقضي بقية عمرها دون أن تعرف أين أنا ؟ حتى أنا نفسي ، كنت أتمنى أن أعرف أين أنا ؟ كنت أظن أننا لن نلتقي بعد تلك الليلة 9/9/1993 ! لم يكن يحزنني شيء بقدر ما يحزنني انتظار أمي لعودتي التي سوف لن تحصل كما كنت اعتقد حينها ، فقد رأيت الدماء في كل مكان ، عرفت أنها غرف التعذيب التي تنتظرني ، عرفت أن محمد معمار وسامر قاسم ومضر الجندي وآخرون قضوا نحبهم هنا ، أنها دماءهم على هذه الجدران ، وستكون دمائي خلال أيام معهم وسيطعمونني للكلاب كما وعدني المحقق عبدو الديري ، كان يحزنني انتظار أمي ، كما يحزنني الآن انتظار أمهات شهداء سجن أبو سليم الليبي لأبنائهم .
لن أتحدث عن التعذيب وعن رحلات الانتقال بين السجون ، لأننا الآن في مناسبة أخرى ، مناسبة الحديث عن ليبيا وإحدى مجازر النظام فيها ، مجزرة سجن أبو سليم ، وعلى أبواب الذكرى السابعة والثلاثون لمجزرة سجن تدمر ، ذكرت الثانية ، لأن الجلاد هو نفسه ، الديكتاتور هو نفسه ، كما أن الضحايا هي نفسها ، هذا هو الموقع الذي أجد نفسي فيه ، هذا ما جعلني أثناء عبوري في ليبيا المنكوبة بالديكتاتور أن أقف في صف المقموع ضد القامع ، حيث أنهم ـ الجلادون ـ يحملون الملامح نفسها والرائحة العطنة ذاتها ، أنهم مجرمو العصر الحديث ، المجرمون الذين لم نملك بعد أساليبنا لمواجهتهم ، كما اخترعت غالبية شعوب الأرض أساليبها وطرقها وثقافتها للتخلص منهم ، ما زلنا نسعى لإنتاج أمساخ عنهم ونحن في طريقنا للتخلص منهم ، يظن واحدنا أن التحدي الذي أظهره أو تجربة السجن التي عبرها في طريق الحرية تصنع منه ألها على طريقة الديكتاتور نفسها ، ما زال أمامنا أيها الأخوة الليبيون ، أنتاج الثقافة التي تخلصنا من الديكتاتور ، من الاستبداد ، من المجرمين ، الثقافة التي تحاكم الديكتاتور ولا تبحث عن فرصة للتماهي معه ، ثقافة تكتسح المكان والزمان ، تصنع المستقبل ، ثقافة تضع إعادة الاعتبار للضحية قبل كل شيء ، إعادة الاعتبار للمسكوت عنه ، للممنوع والممتنع ، ثقافة تصنع الإقدام والتحدي بعقلية مدنية بعيدة عن غوغاء الديكتاتور وبلادته ، ثقافة لا مكان فيها للتخوين ، ثقافة تعرف من أين تستمد قوتها وإلى أين تمضي قوية دون خوف أو وجل ، فالحرية لا حدود لها ، والحصول عليها يلزمها تضحيات لا حدود لها ، تبدأ في الفرد المفرد وتنتهي به وفيه ، ما زال في جعبتي كلام لم أقله عن ليبيا وسجن بو سليم وأصدقائي الذين ولدوا في السجن الكبير ، ليبيا التي حولها ديكتاتور البلاد إلى سجن كبير ، أصدقاء لم يختبروا الخروج بعد ، أصدقائي الليبين في الداخل ، حيث نسمة الحرية شيء مفقود حتى في أعماق ذاكراتهم ، مشاوير الليل من منسيات الزمان هناك ، النوم باكرا وعدم الاستيقاظ ، ويباس الأحلام ، لقد آن الأوان ، التخلص من كابوس طويل عمره أربعون عام ، لقد آن الأوان ، ولا شيء قبل تلك المهمة الجليلة .










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - القيح والصديد
أمجد ( 2009 / 9 / 20 - 12:21 )
لك أن تعجب أيها الأخ المناضل كم في أحشاء عروبتنا من قيح وصديد أفرز في أقزام قتلة من مثل صدام حسين وحافظ الأسد والقذافي وعلي وابنه

اخر الافلام

.. الجبهة اللبنانية تشتعل.. إسرائيل تقصف جنوب لبنان وحزب الله ي


.. بعد عداء وتنافس.. تعاون مقلق بين الحوثيين والقاعدة في اليمن




.. عائلات المحتجزين: على نتنياهو إنهاء الحرب إذا كان هذا هو الط


.. بوتين يتعهد بمواصلة العمل على عالم متعدد الأقطاب.. فما واقعي




.. ترامب قد يواجه عقوبة السجن بسبب انتهاكات قضائية | #أميركا_ال