الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السينمائي الداعية

صبحي حديدي

2004 / 5 / 25
الادب والفن


أخطأ الكثير من نقّاد السينما، العرب بصفة خاصة (وكان بينهم ناقد عليم خبير مثل إبراهيم العريس!) في الجزم بأنّ فوز شريط "فهرنهايت 11/9" للأمريكي مايكل مور بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي الـ 57، كان المرّة الأولى التي يفلح فيها شريط وثائقي بانتزاع الجائزة الأرفع. والحال أنّ المرّة الأولى وقعت سنة 1956، حين نال السعفة الذهبية شريط "عالم الصمت"، بإخراج مشترك للمستكشف وعالِم المحيطات الفرنسي الشهير جاك ـ إيف كوستو والمخرج الفرنسي لوي مال.
والإنصاف التاريخي يقتضي القول إنّ هذا الفيلم "حصد" الجائزة بالمعنى الفعلي للكلمة، لأنّ لائحة منافسيه على السعفة عزيزة المنال ضمّت كباراً من أمثال السويدي إنغمار بيرغمان، والياباني أكيرا كيروساوا، والهندي ساتياجيت راي، والإيطالي فيتوريو دي سيكا، والفرنسي هنري ـ جورج كلوزو، والسوفييتي سيرج يوتكيفيتش، والأنغلو ـ أمريكي ألفريد هتشكوك، وأخيراً... المصري صلاح أبو سيف!
ولعلّ من واجب المرء أن يتفهّم خطأ، أو ربما تسرّع، هؤلاء النقّاد في منح شرف المرّة الأولى إلى رجل مثل مايكل مور، خصوصاً وأنّه حصد قبل سنتين جائزة لجنة التحكيم في المهرجان ذاته، عن شريطه التسجيلي الشهير "باولنغ كولومباين"، ثمّ انتزع جائزة أوسكار من شدق الأسد الهوليودي، قبل أن يقيم الدنيا دون أن يقعدها حول فضيحة رفض شركة والت ديزني توزيع "فهرنهايت 11/9" على صالات العرض الأمريكية.
في صياغة أخرى للفكرة أعلاه: كأنها بالفعل المرّة الأولى!
شتّان ما بين شريط كوستو ـ مال، الذي يطلق غوّاصة الأعماق "كاليبسو" في باطن البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الهندي، وشريط مور الذي يطلق العنان للكاميرا كي تغوص عميقاً في قلب ظلمات الرئيس الأمريكي جورج بوش! وشتّان بين المعركة الشرسة التي يلتقطها الفيلم الأوّل بين أسماك القرش وكائنات المحيطات المسالمة، وبين جرائم الحرب التي ارتكبها بوش ضدّ الأفغان والعراقيين...
وهيئة تحكيم دورة 1956 وقعت، أغلب الظنّ، أسيرة الشاعرية المذهلة التي اكتنفت تجوال عدسة فريق كوستو في تلك العوالم الصامتة طيّ المياه ذات الغور البعيد البهيم، وذلك قبل أن تشدّها أسلوبية لوي مال الآسرة بدورها، ولكن التجريبية المعقدة المتنافية في كثير أو قليل مع روحية التسجيل. وأمّا هيئة تحكيم هذه الدورة فقد أعلنت أنها لم تمنح السعفة الذهبية للسياسة، بل للفنّ السينمائي وحده. وليس كثيراً أنّ نصدّق هذا الزعم، خصوصاً إذا كنّا في عداد مَن شاهدوا شريط مور السابق "باولينغ كولومباين".
هذا رجل سينمائي من رأسه حتى أخمص قدميه، بادىء ذي بدء، الأمر الذي لا يعني البتة أنه ليس ناشطاً سياسياً. ثمة معادلة شائكة هنا، وثمة الفنّ الذي يتصدّر شبكات واشتباكات تلك المعادلة. وأن يكون المرء داعية ماهراً (في الكتابة والخطابة والنشاط اليوميّ...)، وفناناً مشهوداً مكرّماً (في الفنّّ السينمائي، وفي فرع شاقّ منه هو الفيلم التسجيلي تحديداً...)، أمر لا ينطوي على تناقض منطقي. وليس نجاح هذا الرجل في الفنّ وفي السياسة معاً إلا بعض تجليّات نجاحه الفائق في تفكيك أطراف تلك المعادلة الشائكة، على نحو متوازن متلائم لا يليق إلا بموهبة فريدة.
ومايكل مور بدأ صحافياً في جريدة محلية مغمورة تصدر في بلدة فلنت، ولاية ميشيغان، قبل أن يلفت انتباه مطبوعة كبيرة هي Mothe Jones فتعيّنه محرّراً، ثمّ تقيله لأنه رفض نشر مقال متحيّز ضدّ ثوّار نيكاراغوا. وشركة "جنرال موتورز"، إحدى أكبر أيقونات الرأسمالية المعاصرة، حفزت مور على إنجاز فيلمه التسجيلي الأوّل "أنا وروجر"، 1989، الذي يروي مسؤولية الشركة ورئيسها روجر سميث في تحطيم الاقتصاد المحلّي في بلدة فلنت. ولقد حقق الشريط نجاحاً مذهلاً، وحصل على جوائز أساسية في العديد من المهرجانات، مما شجّع مور على متابعة الموضوع ذاته في شريط ثانٍ بعنوان: "لحمٌ أم حيوانات أليفة: العودة إلى فلنت". شريطه الثالث، الروائي، كان بعنوان "لحم خنزير كندي"، ويسرد مخطط رئيس أمريكي لتلفيق حرب باردة ضدّ كندا. شريطه الرابع يمسح أمريكا طولاً وعرضاً، ويرصد انعدام المساواة والفقر وانحطاط الحياة...
في جانب الداعية والناشط السياسي عمل مايكل مور مع رالف نادر، وكتب عشرات التعليقات السياسية التي جمع بعضها في كتاب هامّ بعنوان "تهديدات عشوائية من أمريكي بلا إسم"، تجاوزت مبيعاته رقماً قياسياً مفاجئاً. كتابه التالي كان بعنوان "رجال بيض أغبياء"، وقد اعتبرت دار نشر راندوم أنه أكثر عداء لجورج بوش من أن ينشر بعد 11/9، فامتنعت عن إصداره، قبل أن تضطرّ إلى ذلك في ربيع 2002 تحت ضغط حملة واسعة من القرّاء!
سينمائي وداعية، داعية وسينمائي. وهكذا فإنّ من غير المدهش أن يبدو تكريم هذا الفنّان الإشكالي، في هذا الزمن بالذات من نزاع البيت الأبيض مع العالم بأسره، وكأنه حدث أوّل غير مسبوق...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يسعدنى إقامة حفلاتى فى مصر.. كاظم الساهر يتحدث عن العاصمة ال


.. كاظم الساهر: العاصمة الإدارية الجديدة مبهرة ويسعدنى إقامة حف




.. صعوبات واجهت الفنان أيمن عبد السلام في تجسيد أدواره


.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث لصباح العربية عن فن الدوبلاج




.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث عن أسباب نجاح شخصية دانيال في ل