الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن ندوة اليونسكو حول الثقافة في العراق

عزيز الحاج

2004 / 5 / 26
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


[ ملاحظات سياسية ـ ثقافية أولية ]..

سألني منذ أيام صحفي لبناني صديق عما إذا كنت سأحضر ندوة اليونسكو عن الثقافة في العراق. أجبته بأنني غير محسوب على المثقفين، ولا أعرف عن الندوة غير تصريحات متضاربة منذ شهور. فمرة صدر عن وزارة الثقافة العراقية تصريح بأن اليونسكو سوف تعقد في مقرها بباريس ندوة للمثقفين العراقيين عددهم 2000 [ألفان]!! استغربت العدد وكيف سوف تصرف اليونسكو على هكذا ندوة واسعة العدد دون ان يكون في بنامجها المعتمد ميزانية معتمدة لهذا الغرض. وتذكرت تصريحات المندوب السابق للعراق في اليونسكو عن نية اليونسكو في بناء 400 [أربعمائة] مدرسة في العراق، ولحد يومنا لم تبن غير مدرسة واحدة. ولو حسبنا تكاليف بناء مدرسة مع كافة أجهزتها وأثاثها لاحتاج بناء 400 مدرسة لما لا يقل عن مائة مليون دولار على أقل تقدير.

لقد بحثت في البرنامج المعتمد لليونسكو فلم أجد إشارة للمشروع الهائل! وبعد فترة قيل إن ندوة المثقفين سوف تعقد بباريس بعدد 200. وبعدها صدر تصريح رسمي عن وزارة الثقافة بان الندوة تعقد في بغداد لأن موارد اليونسكو غير كافية. وها أسمع من صديقي أنها ستعقد بباريس ما بين 26 و27 من هذا الشهر بالذات. وقد تفضل الصديق وأعطاني نسخة بالفرنسية من ورقة العمل التي ستكون محور النقاش.

وأقول أولا إنني أتمنى للندوة كل نجاح لصالح نشر ثقافة التنوير والديمقراطية وفكر حقوق الإنسان في العراق، ولصالح الإبداع الأدبي والفني. ولأن الوقت لا يزال مبكرا لدراسة نتائج الندوة ومدى أهميتها اللاحقة، وإذ لا أعرف من هم المشاركون وعددهم، فسوف أدلي بملاحظات أولية عن الوثيقة، متمنيا لو كان بين المدعوين العرب، [ إن وجدوا]، مفكرون من وزن شاكر النابلسي والعفيف الأخضر، ممن ينشرون الفكر التنويري، وقدموا ويقدمون أفكارا رائدة عن القضية العراقية، كما أتمنى لو كان بينهم مثقفون عراقيون ممتازون ممن يقومون بعمل هائل لخدمة الديمقراطية في العراق من أمثال سيار الجميل وعبد الخالق حسين والشاعر عبد القادر الجدنابي والمحققين رشيد الخيون وجليل العطية وغيرهم.


أولا: عناصر إيجابية ممتازة في الوثيقة
يمكن القول إن في الوثيقة حقائق وسردا صحيحا للوضع الثقافي العراقي في عهد صدام: من حرب على المثقفين، ونشر لعبادة الشخص، ولثقافة العنف. كما أشارت لمواقف مثقفين عرب كانوا يدعون لحضور مهرجانات التهريج الصدامية كالمربد وبابل. ونضيف شراء الذمم بكوبونات النفط التي جعلت عددا كبيرا من الصحفيين والكتاب والساسة العرب والأجانب يدعمون النظام الساقط وينشرون الدعاية له ويدعمون حروبه ويهاجمون القوى المعارضة. وتقيم الوثيقة إيجابيا تجربة الديمقراطية في كردستان وتدعو بقية العراقيين للاستفادة منها. كما تدعو لاحترام حقوق المرأة العراقية وتشجب محاولة إلغاء قانون الأحوال الشخصية لعهد قاسم، وإن أخطأ كتاب الوثيقة حين وضعوا جميع أعضاء مجلس الحكم في موقف واحد من الموضوع. وكما نعرف فإن الأعضاء الإسلاميين انتهزوا فرصة غياب عدد غير قليل من الأعضاء لاتخاذ قرارهم الخطر 137 الذي تم إلغاؤه بعدئذ بالأكثرية.

في الوثيقة مقترحات بقيام مشاريع كثيرة [ أكثر مما يتحمله الموضوع في آنيته المباشرة.] وتدعو الوثيقة وزارة الثقافة لتشجيع قيام ونشاط الاتحادات الأدبية والصحفية العراقية.


ثانيا ملاحظات انتقادية
1 ـ لمن الوثيقة!؟
لا إشارة في الوثيقة لمصدرها: هل هي صادرة من وزارة الثقافة؟ أم من إدارة اليونسكو؟ أم هيئة من المثقفين؟ ولكن تبدو لي لغة اليونسكو واضحة؛

2 ـ عدم طرح الوثيقة مسبقا

كان المفترض نشر الوثيقة بالعربية بين المثقفين العراقيين داخلا وخارجا وسواء من سيشاركون أو لا، وبوقت مناسب، لإبداء الرأي وتقديم الملاحظات والمقترحات لوزارة الثقافة؛

3 ـ تغييب دور التربية والتعليم
الملاحظ أن الوثيقة شاملة لكل الموضوعات من سياسية وثقافية، وكأن وزارة الثقافة وحدها سوف تبني العراق الجديد والمواطن العراقي الجديد. والحال أن الهم الأول في عراق اليوم، وعدا الأمن والخدمات، هو إعادة تكوين الإنسان العراقي منذ نشأته الأولى. فقد خرب صدام نسيجنا الاجتماعي وشوه مكونات الشخصية العراقية بنشر ثقافة وعقلية العنف، وميول الانتهازية، ومشاعر التمييز الطائفي والعرقي، والانتماء العشائري، وتشويه برامج التعليم، ومواد وسائل الإعلام، ومحاربة التعليم والفكر الديمقراطيين و تشويه الخلق السياسي. إن التشخيص الصحيح لأولياتنا الثقافية في هذا الوقت الانتقالي العصيب يجب أن ينصب على مدى ما وقع للمواطن العراقي من مسخ وغسل دماغ، فما أن سقط النظام حتى ظهرت الدمامل الخلقية والاجتماعية والسياسية: من طائفية مقيتة، عصبية عشائرية، وضعف الشعور الوطني، والتعصب الديني المتزمت الذي طال المسيحيين وطال المرأة خاصة حيث أصبح العراق يكاد يكون خيمة سوداء من الحجاب!. إن الإرهاب وعصابات صدام يجدون في هذه الأجواء خير حليف لهم بتجنيد السذج والجهلة من الشباب، وغسل أدمغتهم بثقافة كره الحياة وقتل الآخرين.

إن إعادة تأهيل العراقيين ديمقراطيا وبثقافة حقوق الإنسان، وبروح الحوار، واحترام الآخر، وبنسبية الحقيقة، تبدأ بتربية النشء الجديد منذ الروضة والابتدائي، وكذلك طبعا من خلال وسائل إعلام حرة ومتنورة ولا سيما برامج التلفزيون.

ومهما كانت الأهمية التي نعرفها لدور المسرح والسينما والمتاحف وغيرها من مفردات ثقافية، فإن الفنان والأديب يحتاج إلى متلقين لا تنخر فيهم الأمية الأبجدية والثقافية، وعقلية الطائفة والعشيرة، ولا تسيرهم فتاوى ونداءات ضارة باسم الدين. وهنا تلعب التربية والتعليم من البيت والمدرسة دورا شديد الأهمية ومعاضدا للثقافة التنويرية وللمثقفين الأحرار ولوسائل الإعلام الرائدة.

غن الوثيقة تحذر من دور الفضائيات بنشر عقلية الاستهلاك وقوانين السوق. ولكن الخطر الأكبر والداهم من الفضائيات الخليجية والإيرانية على العراقيين، كبارا وصغارا، هو الحث على الصدام والقتل والفتن الطائفية والدينية. وهذا ما تتجاهله الوثيقة التي يبدو أنها تخلط بين الوضع العراقي الراهن وأوضاع أخرى.

لقد صرح وزير الثقافة في اجتماع باليونسكو هذا الصباح [ 24 منه]، وكما قال لي صديقي اللبناني، بأنه طلب من كوفي عنان جعل الثقافة هم اليونسكو الاول في علاقاتها بالعراق. ولا أعلم لماذا محاولة سلب وزارة التربية صلاحياتها إذ هي المسؤولة المباشرة عن العلاقات باليونسكو وهو أيضا واقع جميع الدول الأخرى فيما عدا حالة عربية واحدة هي لبنان. ولماذا تميّع الوثيقة أهمية دور التربية والتعليم اللذين بدون تطويرهما وتشذيبهما من مخلفات النظام الصدامي فلن تستطيع الثقافة في العراق أن تتطور حقا وتزدهر وتنتشر بين الجمهور.

إن الوثيقة تشخص بحق ودقة تخريب صدام للمؤسسات والمواد الثقافية في العراق ومحاربة المثقفين. إنه لتشخيص صحيح. ولكن ما فعله بمؤسساتنا التعليمية ومناهج التعليم كان تخريبا أكبر. فلا ينبغي أن تعني أولوياتنا الثقافية تقليلا من شأن أولوياتنا التربوية. كما لا اعلم مدى صلاحية عنان واليونسكو نفسها في جعل العلاقات العراقية مع المنظمة تمر عبر وزارة الثقافة، إذ هذه أمور تقررها الدول وحكوماتها ولا اعرف سببا معقولا ومبررا لتهميش دور وزارة التربية كما يراد ولأسباب غير مقنعة؟! ومهما كانت أهمية المتاحف ومدرسة الباليه مثلا فإن بناء المدارس،وإعادة تأهيل ما خرب منها، والمساعدة على مكافحة الأمية بالخبرة والعون المادي، وعلى تطوير الجامعات، لا تقل أهمية إن لم تكن مضاعفة، لا سيما وإن العملية الثقافية ليست حصرا بوزارة الثقافة، بل كذلك بمؤسسات المجتمع المدني الثقافية، وخصوصا بالمثقفين أنفسهم داخل العراق وخارجه[ الذين يحتاجون للتشجيع والدعم من دون تمييز في التحزب والدين والقومية والمذهب.

إن اليونسكو هي أولا منظمة دولية للتربية، وثم للعلوم الطبيعية، والعلوم الاجتماعية والإنسانية، وللثقافة، وللمعلوماتية. ويتجلى تطبيق أولويات اليونسكو في مخصصاتها لمختلف البرامج الرئيسة المارة الخمسة. ففي البرنامج الحالي تخصص اليونسكو 95 مليون دولارا للتربية من ميزانيتها العادية و209 ملايين من الأموال الخارجية. وللعلوم الطبيعية حوالي 52 مليونا و93 على التوالي، وللعلوم الإنسانية حوالي 31 ونصف المليون و82 مليونا، وللثقافة حوالي 44 مليونا و81 من خارج الميزانية. فأرجو أن لا تأتينا وزارة الثقافة ببدعة جديدة لا تعكس أولوياتنا في التعامل مع اليونسكو وقد تكون كبدعة العلم العراقي الجديد غير المأسوف.

4 ـ "صوتان [ تياران] في عراق اليوم؟ وهل الاحتلال مسؤول عن أعمال الإرهاب وعن الحوار الوطني؟؟
يرد في النسخة الفرنسية [ هل هي الأصل؟]، الصفحة 11ما يلي:

" بعض الأصوات العلمانية تدعو لوضع ميثاق وطني عراقي يحث على المصالحة والعفو. وأصوات أخرى [ تيار آخر ] تدعو للمبادئ الأساسية للإسلام والوطنية العراقية، ووحدة الانتماء." وترى الوثيقة أنه بحسب "بعض العراقيين "فإن المساجلة بين الاتجاهين المذكورين "تعيقها أعمال وتصريحات دول الاحتلال، من جهة، وكذلك أعمال العنف المرتبطة بوجود الاحتلال، وهو ما يدفع الخصوم المحتملين إلى الردود نفسها: الخوف، والرفض من جديد، والسكوت."

أعتقد أن هذا التحليل المسيّس جدا هو تخبط "تخببيصة" لها هدف سياسي محدد:

أ ـ العلمانية لا تعني نقيض الوحدة الوطنية بل العكس تماما. كما لا تعني معاداة الدين بل فصل الدين عن الدولة وعن تفاصيل الحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية للناس وفقا لمقولة "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر." وقانون الأحوال الشخصية الموروث من عهد قاسم هو نموذج تطبيقي لمبدا العلمانية. وقد تم في الغرب فصل الدولة وشؤون الحياة عن الدين منذ قرون فتحققت النهضة الأوروبية الحديثة. فالمواطن الغربي ما أن يترك الكنيسة [إن ذهب] يوم الأحد حتى ينصرف لشؤونه اليومية ولواجباته وحقوقه بموجب القوانين الوضعية وبدون تدخل من الكنيسة.

ب ـ ماذا تعني "المصالحة"؟ وماذا يعني "العفو"؟ عندما يقترنان هنا فمعناهما الصفح عن مجرمي النظام السابق وإدماجهم في الحياة العامة ولحد دخولهم في قمة السلطة. فهل هذا هو موقف العلمانيين والديمقراطيين واللبراليين في العراق؟ كلا أبدا. وقد قرأنا للعشرات من المثقفين العراقيين شجبا لدعوات إلغاء سياسة "اجتثاث البعث" التي لا تعني أبدا ملاحقة كل بعثي وحرمانه من حقوقه المدنية بل ملاحقة المجرمين المثبتة عليهم الجريمة. والآلاف من البعثيين يشغلون وظائف في الدولة، ومنها في معظم السفارات والشعب الدبلوماسية العراقية. وهذه السياسة تعني أولا اجتثاث الأفكار والمفاهيم والثقافة التي كان يحملها نظام صدام وانطلاقا منها كانت ممارساته القمعية الدموية وسحق الحريات كلها.

ج ـ لا تجرؤ الوثيقة [أو لا تريد تسمية "أعمال العنف" بالعمليات الإرهابية ]، وسبب تلك الأعمال ليس وجود التحالف الذي لولاه لعمت العراق فتن دموية في أنحائه. إن تلك الأعمال الإجرامية ليست "مقاومة وطنية "ضد الاحتلال كما تدعي الفضائيات ووسائل الإعلام العربية والفرنسية والألمانية وحتى بعض الصحف ووسائل الإعلام في بريطانيا وواشنطن، بل هي بهدف عودة النظام المهزوم، وبالنسبة للإرهابيين الوافدين تصفية حساباتهم مع أمريكا بالدم العراقي. وهل من أدلة أكثر وأكبر من تفجير مقرات بعثات الأمم المتحدة، والصليب الأحمر، والبعثات الدبلوماسية، وأنابيب الماء والنفط، واغتيال المئات من العراقيين من مسؤولين ومهندسين وأطباء وأساتذة؟ وأي عذر لهذه العصابات الإرهابية [ صدامية وزرقاوية و صدرية إيرانية ] حين تتصاعد وتزداد خطرا ودموية أعمالهم الإرهابية مع قرب تسلم السلطة للعراقيين؟ أم إن بعض كتاب الوثيقة [ من أهل اليونسكو عربا وفرنسيين] يرددون التحليل والموقف الفرنسيين من القضية العراقية، ويريدون خروج التحالف حالا لأسباب تخص فرنسا وحليفاتها في الموقف، ولا علاقة لها بالمصلحة العراقية؟ ثم ما هي علاقة اليونسكو برسم سياسة جديدة للعراق؟ أليس هذا تدخلا سافرا في شؤوننا الداخلية ومخالفا لدستور اليونسكو، أي الميثاق التأسيسي؟

هذه بضع ملاحظات أولية، أكتبها من منطلق المصلحة العامة وخصوصا مصلحة الثقافة نفسها في العراق. وإذ أتمنى من القلب للندوة كل نجاح، فإنني أحتفظ بحق العودة للموضوع بعد انتهاء الندوة والاطلاع على نتائجها وتوصياتها.
باريس في 24 مايس 2004








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رسالة تعزية من الجزائر بوفاة والدة ملك المغرب، تثير الجدل!!


.. فيديو كليب بوسي والليثي ضمن قاي?مة ا?سوء فيديو كليبات ????




.. الهند: انتشار -مرعب- لكاميرات المراقبة في كل أرجاء البلاد


.. فرنسا: ما الذي سيحدث في اليوم التالي لجولة التشريعيات الثاني




.. إسرائيل تقتل فلسطينيين بغارة جوية في مخيم نور شمس قرب طولكرم