الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
لم يخطئ غطاس
سلامة كيلة
2009 / 9 / 26مواضيع وابحاث سياسية
(حول الصمود والمقاومة)
حينما كتبت الرد على رد الصديق غطاس أبو عيطة عليّ لم أكن أهدف إلى إقناعه بأنه مخطئ في وضعه إياي في قائمة المشككين في "قوى الصمود والمقاومة"، وأصلاً لم أفكر في هذا التصنيف. وكذلك لم أكن أهدف إلى إقناعه بأنني لا أشارك "في الحملة ضد قوى الصمود والمقاومة"، وليس يعنيني هذا الإقناع لأنني أختلف أصلاً في التوصيف والتقييم. ولهذا فلم أكن أبحث عن الخطأ والصح فيما قال في رده عليّ، بل كنت أنتقد منطق تفكير، سطحي للغاية، لأنه يرى الأمور في إطار: مع، ضد، لهذا يكتفي بالنظر السطحي، والتعلق بـ "المواقف" المعلنة والتصريحات، وبعض الممارسات. وهو يحوّل كل ذلك إلى قوانين وأحكام مطلقة.
هذا ما كنت أتناوله، حيث أن ما يهمني هو البحث في جذر المسائل وليس التعلق بمواقف وممارسات دون كشف أعماقها، وفي الماركسية دون لمس الأساس الطبقي وانعكاسه على الممارسة والسياسات وحدود الصراع. إن رفع شعار المقاومة أو ممارسة المقاومة لا تحوّل أي كان إلى "ثوري حتى النهاية"، ومناضل من أجل التحرير "إلى آخر رمق". وإن ما يبدو صحيحاً الآن يمكن أن ينقلب إلى خاطئ بعد لحظات، كيف نفهم هذه المسألة دون تحليل طبقي أيديولوجي للقوى الممارسة؟ وبالتالي يجب أن نعرف حدود مصالح القوة التي تلعب الدور "القيادي"، لكن يجب أن يكون لدينا الفعل الذي يحوّلنا إلى قوة قائدة، وهذا لن يتحقق إلا عبر توضيح تصوراتنا، واختلافنا مع القوى الأخرى. فالوحدة لا تفترض كم الأفواه، أو التكيف مع البرنامج المسيطر.
هل هذا البحث هو تشكيك؟ هذا السؤال الأخير هو المفتاح لفهم سياسات اليسار (ومنه الصديق غطاس)، الذي كان تحت وطأة التحالف يهرب من مناقشة أو التلميح، ولا أقول النقد أو الفضح، لسياسات كانت تبدو خاطئة. وبالتالي كان يقزّم برنامجه إلى السقف الذي يفرضه التحالف ذاته. ولهذا كان يبقي من اليسارية الاسم فقط، حيث يبهت برنامجه ويصبح ظلالاً لبرنامج القوة التي تلعب دور القيادة في المقاومة. كان يصف خلفها، أو يمكن القول كان يعتبر بأن المقاومة هي "باص" يجب أن يصعد فيه وإلا فاته "النضال". وهو الأمر الذي كان يجعله يسيّر وفق مشيئة السائق.
هذا ما كنت أحاول طرحه، حيث حتى ونحن نقرر التحالف يجب ألا ننسى أو نتجاهل برنامجنا، وكذلك يجب أن نظل يقظين للدور الذي يمارسه من هو أقوى في إطار ممارسة المقاومة. والرفيق غطاس يقرر أن ذلك تشكيكاً، وبالتالي لا يجب أن يقال، بل يجب أن نظل نمجد المقاومة، التي لا تتمظهر عنده إلا في شكل حماس، كما كانت تتمظهر في شكل ياسر عرفات. المقاومة هي مبدأ نضال، وإذا كان اليسار (الذي كان ينتمي إليه غطاس) كان ضد المقاومة، وأن القوى اليسارية الأخرى فشلت، فلا يعني ذلك التعلّق بحركة حماس، وقبلها بحركة فتح، بل يعني البحث عن دور فعلي لليسار في ممارسة المقاومة. وهذا ما يدفعني لنقد اليسار قبل نقد حماس.
إن المسألة هنا تتعلق في أن الماركسي (وأشدد على الماركسي هنا) يعمل على استيضاح كل الصورة، بحيث يحدد طبيعة القوى الأخرى، أساسها الطبقي، مصالحها، رؤيتها، برنامجها، تكتيكاتها، وكل أيديولوجيتها، ولا يتسرّع إلى التأييد بعد سماعه أول كلمة مقاومة، أو يرى قوة تمارس المقاومة. يجب أن يحدد ماذا تريد من هذا الشعار، والى أي مدى يمكن أن تتمسك به. الماركسي هو من يستطيع تحديد الفروق وليس التقاط المشترك، ويعرف حدود فعل الطبقات الأخرى. ولهذا من الضروري تحليل تكوين حركة حماس ومعرفة أسباب تحوّلها إلى المقاومة بعد أن كانت في صراع حدي مع اليسار، وهل أن ذلك يمثل تطوراً في رؤيتها ودورها أم أنها لازالت تنطلق من المنطلق الأيديولوجي ذاته؟
إن الغوص في هذا التحليل هو ما جعل غطاس يسارع إلى التصنيف المبسط، حيث أنه –بالنسبة له- يكفي أن تكون قوة ما قوة مقاومة لكي يلغي كل الأسئلة، ولكي يغض النظر عن كل الملاحظات الممكنة، وأكثر من ذلك أن يتبرّع في الدفاع المستميت من جهة، وكيل الاتهامات من جهة أخرى.
فهل يكفي أن تمارس قوة ما المقاومة لكي تكون "قديسة"، وتهدف إلى التحرير الكامل؟ لقد كنت أحاول في الرد ذاك إيجاد الفارق بين المقاومة كمبدأ وكضرورة من أجل التحرير، وبين طبيعة القوة التي تعلب دوراً مقاوماً في لحظة معينة. أي أنني كنت أكشف المنطق الحسي الذي لا يرى المسائل إلا من خلال محسوسات، وبالتالي ليس من مقاومة إلا حماس، وبالتالي فإن أي ملاحظة ضد حماس هي مسّ بالمقاومة وليس، ربما، تصويب لها، وتأسيس لمقاومة أعمق. هنا نلمس المنطق الحسي الذي لا يستطيع التمييز بين المقاومة كمبدأ وكضرورة وبين القوى التي تمارسها. وتربط المقاومة وممارستها بهذه القوى. بينما لا يجوز أن ننكر بأن لكل طبقة/ قوة حدود فعلها، وحدود دورها. وبالأساس المصالح التي تنطلق منها والتي تدفعها لممارسة المقاومة.
هذه المسافة هي ما كنت أوضحه، لكي أشير إلى أن أزمة اليسار (ومنه طبعاً الصديق غطاس) تكمن في النظر السطحي المؤسس على وعي حسي لا يستطيع أن يرى عمق المسائل لهذا يطفو على السطح باستمرار. لهذا سنلمس بأن غطاس يبدأ "بالمقلوب"، فبدل أن يفسّر سبب ميل حماس إلى ممارسة المقاومة عبر تحليل بنيتها، عمل العكس من ذلك فاستنتج، أو دفع إلى الاستنتاج، بأنه "لماذا يفترض يسارنا بأن التيار الإسلامي في المنطقة العربية والإسلامية ليس بإمكانه إنتاج أيديولوجية مناهضة للنظام الرأسمالي المهيمن في العالم؟" طبعاً كما لدى لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية. وأجيب لأن اليسار حلل طبيعة التيار الإسلامي عندنا ولم ينطلق من نظرة سطحية. فيكفي أن نحلل تصورات حماس وجماعة الإخوان المسلمين كلها حتى نستنتج بأن رؤيتها الاقتصادية تنطلق من ليبرالية مفرطة، ومن عداء لقوى الإنتاج، خصوصاً الصناعية، ومن اعتبار "أن في التجارة تسعة أعشار الربح". هذه رؤية طبقية لم تستطع حماس وكل الحركة الإسلامية نفيها، بل كانت تؤكدها باستمرار لأنها من جوهر فقهها الاقتصادي. فكيف يمكن أن تكون ضد الرأسمالية؟ ولهذا نلمس بأن "تناقضها" ينطلق مما هو سياسي وليس مما هو اقتصادي، وهي تؤيد كل سياسات الخصخصة وإعادة الأرض لملاكها الإقطاعيين (وهذا ما أقره تنظيمها الأساس في مصرن ومرشدها العام).
أما لاهوت التحرير فقد نشأ من ماركسيين لعبوا دوراً عبر الكنيسة، وهم بالأساس ضد النظام الرأسمالي. وبالتالي فإن هذا "السحب" لا يعتمد على الدراسة بل ينطلق من السماع، وبالتالي المقارنة الشكلية. لكن الأهم فيه هو أنه ينطلق من أن كل من يمارس المقاومة ضد الاحتلال هو ضد الرأسمالية حتماً، وهو استنتاج مضلل وضيق الأفق، ورغبوي.
طبعاً لا أريد تكرار تحليلي لقوى "الصمود والمقاومة" التي نناقش، فقد أشرت إلى ذلك قبلاً، لكنني أشير إلى أن "عدم معرفة" التحليل الطبقي الماركسي يجعل الشعار بديلاً، ويفرض الانسياق خلف أوهام. وسوف أشير هنا إلى أنني صُنفت عكس ما صنفني غطاس فقط لأنني أدافع عن المقاومة وأعتبر بأن مواجهة الاحتلال لا تتحقق سوى عبر المقاومة المسلحة. وأشير إلى ذلك لأقول بأن المنطق الذي ينطلق منه غطاس هو ذاته لدى "المشككين في قوى الصمود والمقاومة"، والذين يعتبرون بأن المقاومة "هي من دون جدوى، وأنها لا تجلب غير المزيد من الكوارث والهزائم لهذه الشعوب" كما يقول. ما سبب هذا التحديد المتناقض للموقف ذاته؟ إنه العقل ذاته، السطحي والأحادي، الذي يصنف العالم كما فعل كل من بوش وبن لادن: إما معنا أو ضدنا. وأنا ضد المنطقين، اللذين هما منطق واحد رغم "تناقض" المواقف. المنطق الشكلي/ الصوري هو الذي لا يرى إلا الـ: مع أو ضد، فالمقاومة ليست سوى حماس (وهذا هو موقف الطرفين معاً)، ومن يرفض حماس هو ضد المقاومة حتماً. هذا ما قاله غطاس وما قاله كاظم حبيب وحميد كشكولي، ولهذا صنفني كل منهما في الموقع المقابل. هذه هي آليات المنطق الصوري/ الشكلي، وهذه هي أحكامها. وهذا ما حاولت توضيحه للصديق غطاس منذ البدء، لكي أقول له يجب أن تتوقف قليلاً لكي تدرس تكوين حماس وبنيتها وأفكارها وسياساتها كما هي وليس كما تحلم، أو تتوهم، أو يقودك العجز لأن تحوّله إلى حقيقة.
وهذا الموقف يجعلني لا أعتبر بأن معركتي مع حماس، فهي معركة مع الوجود الصهيوني ومن أجل التحرر لكل فلسطين، بل لكي أقول بأنه يمكن التوافق مع حماس في لحظة ممارسة المقاومة (وليس في الدعوة إلى التهدئة أو الهدنة أو القبول بدولة في حدود سنة 1967 بات أكثر من واضح أنها وهم فاضح)،لكن أن أمارس الصراع الأيديولوجي (إذا كان الصديق غطاس قد سمع به) الذي يعني توضيح سياسات حماس وغيرها وكشف تناقضات منطقهن وحدود مصالحه. إن الاتفاق على هدف لا يلغي التناقضات الأخرى، بل يحوّلها إلى شكل ممارسة مختلفة، وهنا يكون الكشف والتوضيح والتنبيه، والتحريض، كلها هذا الشكل من التعبير عن هذا التناقض في هذه اللحظة. بمعنى أن التوافق على هدف (حتى وإن كان التحرر الوطني) لا يعني غض النظر أو تجاهل، أو التغطية على الاختلافات، لأن ذلك يقزّم البرنامج الماركسي إلى برنامج حمساوي فقط، ويجعل التكتيك الماركسي هو تكتيك حمساوي كذلك. وهنا سوف يصل هذا المنطق إلى اعتبار حماس قد أصبحت ماركسية بينما في الواقع يكون الماركسي قد انتقل إلى صفوف حماس، وهذا ما حدث لكثير من كادرات الجبهة الشعبية وقوى اليسار الأخرى. وهو الأمر الذي يطلق الأوهام حول لاهوت التحرير.
هنا نلمس بأن التحليل الماركسي قد غدا مقلوباً، حيث يجري البدء من السياسي (الشعار) لتحديد التكوين الطبقي، وتحديد الدور لقوى مثل حماس، وقبلها لحركة فتح. ولكن كذلك للبعث والقوى القومية. إن التوافق على هدف لا يلغي تكوين أي من الأطراف، ولا يغيّر من طبيعتها الطبقية، بل يشير إلى توافق معين، ربما يكون مؤقتاً أو طويل الأمد، لكنه توافق تناقضي، أي أنه يتضمن الاختلاف في الرؤية والتكتيك. وهذا ما يجعل التبسيط مقتل الماركسي. وحين نشير إلى وضع اليسار نلمس هذه المسألة التي كانت تمارس طيلة العقود الماضية، والتي أدت إلى تلاشي رؤيته، وطابعة الأيديولوجي، وتقزّم برنامجه إلى برنامج حركة فتح. وغطاس يدفع الآن لأن يتقزّم برنامج اليسار بما يتوافق مع حماس.
هذا الوضع يفرض أن ندقق مفهوم مرحلة التحرر، حيث يبني عليه غطاس كل رؤيته، ليصبح كشف تكوين القوى الأخرى تهديداً للنضال من أجل التحرر. طبعاً في مرحلة التحرر تتحالف طبقات عديدة، لكن يجب أن نحدد من هي هذه الطبقات؟ وما هي حدود الدور الذي يمكن أن تلعبه؟ ومن هي الطبقة التي تستطيع قيادة النضال إلى نهايته؟ هذه أسئلة بديهية من المنظور الماركسي، وإلا يجري ما شاهدناه ونشاهده من تمييع للحدود بين الطبقات، وخصوصاً بين القوى التي تعبّر عنها. وهو الأمر الذي أشرت إليه في الرد السابق، لكن يجب أن أضيف بأن العموميات حول "حرق المراحل" و"التحشيد على قاعدة الهدف الوطني"، حيث من الطبيعي أن يكون الهدف الوطني أساسي في تحديد التحالفات لكنه لا يلغي مسألة تحديد دور كل قوة وطنية، وبالتالي مقدرتها على خوض النضال وحدود هذا الدور. فالهدف الوطني لا يلغي كل الاختلافات والتناقضات الأخرى، ولا يجب أن يلغيها بالنسبة لماركسي، بل يجب أن يكون دقيقاً في تحديد مطامح ومصالح القوى الأخرى، لأن ذلك ينعكس على التكتيكات والسياسات وحدود الاستمرار أو المساومة.
التحالف هنا يعني الاتفاق على نقطة وربما الاختلاف على النقاط الأخرى التي يجب أن تكون واضحة، لا أن يجري إخفاءها بتضخيم دور تلك القوى والتهويل من دورها "الصمودي" أو المقاوم. إن نظرة أن التوافق على هدف مثل الهدف الوطني يعني التوافق المطلق مع القوى الأخرى يلغي الذات (الماركسية)، ويربط كل الطبقات والقوى بقوة "قائدة"، ويجعلها ذيل لها. هذا ما قلت بأنه منطق اليسار الفلسطيني والذي يكرره غطاس بحماس شديد، وينافح عنه بكل فرح.
والمسألة هنا ليست مسألة نظرية (كما يرد غطاس) بل مسألة في غاية العملية. فليس كل من اندفع في اتجاه وطني يجب أن نسارع إلى الانجرار خلفه بخفة، لأننا نكون عفويين إلى أبعد مدى. وبالتالي يكون من يبادر أولاً هو القائد بلا منازع، ولا تكون هناك ضرورة على التنازع على قيادة النضال من منطلق أنه ليس كل قوة تقود النضال يمكن أن توصل إلى التحرير. وهذا ما كان مع ياسر عرفات، والذي يريد غطاس أن يكمله مع حماس.
وكذلك فإن جعل التحالف يلغي التمايزات والاختلافات يلغي إمكانية أن يكون لليسار طعم ومعنى لأنه سيكون ملحق بقوة قائدة. وهنا سيخسر رصيده الجماهير كما في حالة اليسار الفلسطيني، حيث أصبح "البرنامج الوطني الفلسطيني" موحداً، وبالتالي لا يوجد تمايز بين هذا الفصيل أو ذاك. وهنا تضيع الرؤية والهوية النظرية، والتكتيك المختلف.
إن مرحلة التحرر لا تبرر فقدان الاستقلال عبر فقدان الهوية والرؤية، وهي تطرح تحديات أساسية تحتاج إلى رؤية، منها مَنْ يقود النضال في هذه المرحلة؟ وهل البرجوازية قادرة على الوصول إلى الهدف/ الاستقلال؟ وأيضاً هل البرجوازية الصغيرة قادرة؟
طبعاً هناك واقع يجب فهمه، وليس كل ما نخطط له هو الأمر الواقع، لكن هذا لا يعني أن نلغي رؤيتنا وهويتنا من جهة، وأن نحدد صيغة التعامل مع هذا الواقع من جهة أخرى، حيث أن ضعفنا كيسار لا يقود حتماً إلى أن نقبل بالالتحاق بقوى أخرى خصوصاً قوى أصولية. وإن كانت هناك أهداف مشتركة فإن العلاقة يجب أن تتحدد في هذه الأهداف فقط، دون تجاهل كل الرؤية. مع معرفة بأن التحالف ليس ضرورة حتمية، فهناك التنسيق، أو حتى الإفادة من صراعات الآخرين دون التحوّل إلى طرف فيها، مع إبقاء الصراع معهما معاً.
وانطلاقاً من الواقع وليس من النظرية يرد علي غطاس (بشكل مفحم) بما يلي: "نحن أمام فرز يشمل الساحة العربية، بين نهج الصمود والمقاومة، وبين نهج الالتحاق بالمشروع الاستعماري"، من الطبيعي أنني مع نهج المقاومة (طبعاً كلمة صمود لا معنى لها إلا كتعبير ممالئ)، لكن ما الأسس التي تحدد الفرز هنا؟ وكيف نحدد قوى الصمود والمقاومة؟ وبالتالي ما هي صيغة التعامل؟ وهذه أسئلة ليست نظرية على الإطلاق، إلا إذا كانت العفوية هي منطلق العمل، الأمر الذي يجعل التحديد والانحياز متسرعاً وشكلياً. الأمور أعقد من هذا التحديد المتسرع، وهو تحديد يتجاهل الفارق بين تناقض رئيسي مع المشروع الاستعماري وتناقض ثانوي غالباً ما توضع فيه نظم مثل سورية وإيران، وحتى قوى مثل حماس وجماعة الإخوان المسلمين. وتعامل اليسار مع كل من هذين التناقضين مختلف، وبالتالي فهو لا يلتحق ويتبع قوى تناقضها ثانوي مع الرأسمالية والاحتلال، وإن حاول الإفادة من هذا التناقض بصيغة ما إذا كان ذلك ضرورياً.
ربما كانت هذه المسألة التي أنتقدها تجد تعبيرها فيما أورد الصديق غطاس نقلاً عن الشاعر غوتة: "هنا الوردة، فلنرقص هنا"، والوردة هنا هي فتح ثم حماس. يقول "بعد هزيمة حزيران عام 1967، غدت المقاومة الفلسطينية التي أطلقتها حركة فتح هي الدالة على مكان الوردة..... وغدت الوردة في مرحلة تالية عند المقاومة الإسلامية"، طبعاً هو ينتقد موقف اليسار الشيوعي (الذي كان هو منه) الذي اختار الوقوف في مكان آخر. لكن هذا الفهم ينطلق مما بدأنا نقده، وهو تحقيق الاندماج المطلق بين المقاومة وفتح ثم حماس، بينما المسألة هنا هي أن فتح هي التي مارست المقاومة في مرحلة لأنها ارتأت أنها طريق التحرير، وكانت متقدمة عن اليسار الشيوعي طبعاً، لكن ذلك لا يجعل المقاومة هي فتح لكي نرقص هنا (رغم أنني حينها رقصت هنا بعكس غطاس)، حيث أن الأساس في الفكرة هو المقاومة وليس في فتح. إن النضال من أجل التحرير يفرض المقاومة المسلحة "هنا الوردة"، لكن يمكن أن يرقص كثر هنا، وهذا ما يجعل البحث في الطبقات ومصالحها وحدود نضالها أمر حاسم. وهذا ما يطرح أشكال التنسيق أو التحالف، ومن يقود التحالف. وهنا تجري الصراعات الثانوية بين الأطراف التي تمارس المقاومة كما يجري التحالف. حيث أن كل طبقة معبَّر عنها في رؤية أيديولوجية وحزب تطرح إستراتيجيتها وتكتيكاتها، وفي إطار الوحدة التناقض يجري النضال المشترك، أو يجري الصراع الذي يمكن أن يتحوّل إلى عنف أحياناً. وبالتالي ليس من البساطة القول أنه يجب أن "نرقص هنا" لأن فتح هي التي بدأت المقاومة.
طبعاً أنا أنتقد اليسار بشكل أقذع من غطاس، وأضع غطاس مع هذا اليسار لأنه يمتلك منطق تفكير "موحد" هو نتاج وعي بـ "الماركسية" مسطح، كان نتاج تمثّل "الماركسية السوفيتية". لهذا أشرت في ثنايا النص بأن ما يوحده مع الذين يضعهم في الطرف الآخر هو وحدة المنطق. وبهذا تبسط كل السياسات ويبسط الواقع، ويبسط فهم القوى بطريقة تجعل اليسار ليس يساراً على الإطلاق، بل يتمثّل كل قوة تبدو أنها الأكبر الآن على ضوء "الهدف الوطني".
أختم فأقول بأنني لا أرى في حماس قوة مقاومة حقيقية وإن مارست المقاومة في الماضي، بل أنها غدت سلطة تبحث عن الشرعية، حتى من الدولة الصهيونية. ولا أرى أن هناك "نهج صمود ومقاومة"، هناك قوى مقاومة لكنها تنطلق من مصالح ورؤى لا تخدم المقاومة على المدى الأبعد. ولن أكرر هنا رأيي من حماس وحزب الله والنظام في سورية وفي إيران. لكنني كنت (فبل غطاس) مع المقاومة، نظرياً وبالفعل، ولازلت، لأنني لا أرى إمكانية إلا لتحرير فلسطين، كما أن هذه المهمة الكبيرة لا تحققها قوى أصولية أو "برجوازية صغيرة" سرعان ما تميل إلى المساومة.
من هنا يأتي نقدي الشديد لليسار، وعملي من أجل أن يتأسس يسار حقيقي يقود النضال من أجل التحرر. وكل نقد لليسار القائم هو من أجل توضيح البديل. وكل نقد لقوى المقاومة الأخرى هو من أجل توضيح حدود مقدرتها ومصالحها، وبالتالي تحديد المدى الذي يمكن أن يجمع معها أو يجعل كشف سياساتها أمراً ضرورياً.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
التعليقات
1 - سؤال لغطاس
Abu Ali Algehmi
(
2009 / 9 / 27 - 04:29
)
إفرض أن جيوش الأسد حررت غداً كل فلسطين من البحر إلى النهر فهل تتقدم بذلك قضية البروليتاريا أم تتأخر ؟؟ والباقي عندك أيها الصامد الممانع !! عسى ألاّ تكون الممانعة هي منع الديموقراطية
.. الانتخابات الرئاسية الأمريكية: نهاية سباق ضيق
.. احتجاجًا على -التطبيق التعسفي لقواعد اللباس-.. طالبة تتجرد م
.. هذا ما ستفعله إيران قبل تنصيب الرئيس الأميركي القادم | #التا
.. متظاهرون بباريس يحتجون على الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان
.. أبرز ما جاء في الصحف الدولية بشأن التصعيد الإسرائيلي في الشر