الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عندما يصبح غصن الزيتون رمزا للمقاومة

نضال الصالح

2009 / 9 / 27
الادب والفن


تقع قرية جالود على رأس جبل عال تكثر فيه الرياح ويطل على سهل يمتد حتى غور الأردن. يقال أن المرأة التي تخبز خبزها في الطابون وتخرج به إلى بيتها عليها أن تشده إلى صدرها بقوة حتى لا تطيره الرياح القوية. لا يتجاوز عدد سكان جالود الخمسمائة نفر وأكثرهم من أصول عائلة واحدة ترجع جذورها وجذور عائلتنا في قرية تلفيت وقرى أخرى في مشاريق نابلس إلى أصول واحدة. ومن الملاحظ في قرية جالود كثرة ذوي العيون الزرق وهي ظاهرة غير غريبة في فلسطين وفي بلاد الشام عامة، ففي أحضان هذه المنطقة إنصهرت شعوب مختلفة كثيرة مثل الكنعانيين والرومان واليونان وغيرها وانتجت شعبنا الفلسطيني الإستثنائي والفريد ومثيله من أبناء سوريا الكبرى.
كان قريبنا أبو فوزي زعيم قرية جالود ومن رجال المنطقة البارزين، ولقد كان من أحد قادة ثورة عام 36 ضد الإنجليز في منطقة مشاريق نابلس، ولقد سجنه الإنجليز وحكموا عليه بالإعدام وكاد أن يعدم لولا تدخل مسؤول بريطاني كان أبو فوزي قد أنقذ حياته حين أراد بعض الثوار قتله، فجرى تبديل الحكم عليه بالسجن. إشتهر أبو فوزي بالكرم الذي كان يصفه البعض بالكرم المجنون. كانت مائدته مشهورة بالغنى، يأكل منها الضيوف وما تبقى يطعم الكثير من أهل القرية. ولقد عرف عنه القول أن غنى المائدة يدل على مكانة الضيف وقيمته عنده.
أنجب أبو فوزي ثمان بنات وكان في كل مرة ينتظرالولد الذي سيرث اسمه ولقد جاء هذا الوريث في حمل أم فوزي التاسع ولكنه لسبب غير معروف ولد بعطب وثقب في القلب. وبسبب مرضه القلبي هذا كان حتى تجاوز السبع سنوات من عمره عاجزا عن المشي والكلام وكان أزرق اللون ضارب إلى السواد من سوء التهوية التنفسية. لقد وصل الأطباء إلى نتيجة بأن فوزي سيموت حتما إذا لم تجرى له عملية على يد أحد إخصائيي القلب المعروفين في العالم. وهكذا كان وبعد مشاورات طبية ومراسلات شارك فيها بعض أطباء القلب في عمان والقدس قرر أبو فوزي أن يسافر إلى لندن مع إبنه لإجراء العملية الجراحية المطلوبة على يد طبيب قلب مشهور.
سافر أبو فوزي إلى لندن حاملا ولده الوحيد بين ذراعية، موصولا بجهاز أكسجين للتنفس الإصطناعي وكان أبو فوزي يتمتم الدعاء تلو الدعاء كي ينقذ الباري ولده ويعيده إلى أمه سالما. وبعد عدة عمليات جراحية خطرة وإقامة نقاهة دامت عدة أشهر، رجع الفتى مع والده إلى الوطن ونزل من الطائرة ماشيا على أقدامه، أبيض اللون أحمر الخدين وعلى وجهه ابتسامة رأيتها على وجهه للمرة الأولى منذ ولادته. ولقد فوجئنا حين سمعناه يتكلم لأول مرة وكانت كلماته خليط من العربية وبعض الكلمات الإنجليزية التي التقطها من الممرضات في المستشفى. ولقد راح يروي لنا قصصا غريبة عن المستشفى وممرضاته ونزلائه وعن الشاي مع الملك( الحليب) الذي اعتاد شربه في المستشفى. وأكثر أحاديثه كانت عن صديقه المغني المعروف "فريد الأطرش" الذي كان نزيل نفس المستشفى حيث أجريت له هو الآخر وعلى يد نفس الجراح عملية جراحية لقلبه.
بعد أن عاد فوزي من إقامته العلاجية في لندن معافا صحيح البدن، قام والده بهذه المناسبة بزرع قطعة أرض في وادي جالود زيتونا خصصها لأحفاد المستقبل من ابنه فوزي. لقد عمل بالمثل المعروف " زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون". كان مجموع ما زرع في تلك القطعة ثلاث مئة شجرة من أفضل أنواع الزيتون، أولاها رعايته الخاصة وكان يسميها أحفادي ويعاملها ويرعاها كأنها أحفاده. نمت الأشجار مع نمو فوزي وكبرت وقوي عودها كما كبر فوزي وقوي عوده. وبعد سنين أثمرت زيتونا وزيتا كما أثمر فوزي وأنجب أولادا وبناتا. كانت السعادة تغمر العائلة وكان منظر بستان الزيتون وأبو فوزي وفوزي منحنين على أشجاره يعالجونها والأحفاد يتراكضون بينها كأنما هم يتناغمون مع أصدقاء لهم في مثل عمرهم، يسر البال والخاطر.
جاء الإحتلال الإسرائيلي وجاء معه المستوطنون ذوي اللحى الشقراء المجعدة والطواقي الصغيرة الملصقة على الرأس وأقامو على قمة الجبل المقابل لجالود حافلتين تحولت بعد أيام إلى بيتين ومن ثم تكاثرت كالسرطان حتى تحولت إلى مستوطنة كبيرة، استولت على الأرض والماء والهواء. امتدت المستوطنة وتوسعت حتى حاذت بستان زيتون أبي فوزي يفصلها عنه سياج سلكي ضخم و طريق ترابي.
في صباح أحد الأيام قامت قرية جالود على منظر مرعب. لقد قام المستوطنون الصهاينة بقطع جميع أشجار الزيتون في بستان أبي فوزي وكان منظر الأشجار مقطوعة وملقية على أرض البستان كمنظر مذبحة للهنود الحمر في الأفلام الأمريكية الرديئة. لقد رأيت المنظر بنفسي حيث صدف أنني كنت في فلسطين حين وصلني خبر المذبحة. لقد كان أبشع ما في الصورة هو منظر أؤلئك القتلة واقفين غير مبالين والإبتسامة الكريهة بطبوعة على وجوههم البشعة تدل على الكراهية التي يحملونها في قلوبهم السوداء تجاه هذه الأرض الطيبة وهواءها وشجرها وأهلها وكأنما كتب على وجوههم القبيحة " جئنا نعوث في أرضكم فسادا".
لقد سارع الجيش الإسرائيلي لحماية القتلة ووقف الجنود سدا بين المستوطنين وبين أهل القرية الذين وقفوا مصعوقين مبهورين بمنظر الأشجار المقطوعة والملقية على الأرض، وكاد الجنود أن يلقوا القبض على فوزي الذي كان يبكي من القهر والعجز. رأيته جالسا على الأرض وهو يبكي ولم أجد أي فائدة من مواساته فالكلمات ليس لها معنى في مثل هذه المواقف. كان الجنود يصرخون عليه وعلى أهل القرية، يأمرونهم بالتفرق والذهاب إلى بيوتهم بحجة أنهم يخلون بالأمن. علمت من الحاضرين أن أبا فوزي قد أصيب بالجلطة ولقد أخذته سيارة الإسعاف إلى المستشفى في نابلس وهو يردد " لقد قتلوا أحفادي، لقد قتل الأوغاد أحفادي" وكانت بداية النهاية بالنسبة له فلم يشف من وقع المصيبة أبدا وتوفاه الله بعد مدة.
أشار بعض الأقارب من عرب 48 على فوزي أن يقيم على المستوطنة دعوة قضائية في المحاكم الإسرائيلية وأقاموا له لهذا الغرض محاميا من عندهم. رفعت الدعوى وتاه فوزي، في البداية برفقة محامية وبعد أشهر لوحده بعد أن تعب محاميه، في أروقة المحاكم الإسرائيلية باحثا عن العدالة اليهودية حيث القاضي هو الجلاد والشرطي هوالقاتل والحاكم هواللص. حتى السلطة الفلسطينية لم تمد له يد المساعدة أو لم يكن في يدها حيلة.
بعد سنوات عدت لزيارة الزطن وقررت كالعادة في كل زيارة أن أزور فوزي حتى أستعلم منه عن تطورات قضيته . ركبت السيارة القديمة التي استعرتها من إبن أختي في نابلس وتحركت نحو جالود وهي تبعد عن قريتنا عدة كيلومترات. وقفت في قريتنا وأخذت معي صديقا وقريبا لي. عندما وصلنا إلى مفترق الطرق الذي يتفرع عنه طريقان واحدة إلى جالود والأخرى إلى قريوت، طلب صديقي مني الوقوف ومن ثم أشار علي بالنزول من السيارة والمشي على الأقدام قائلا،"سنجد فوزي في البستان".
عندما وصلنا البستان وجدنا فوزي بالكوفية الفلسطينية المربوطة حول راسه واقفا ويديه قابضتان على فأس يحفر بمساعدة بعض أهل القرية جورا يزرعون فيها أشتالا من الزيتون. عندما طرحنا عليهم السلام، رمى فوزي ما بيده ونزع عن رأسه الحطة ومسح بها العرق المتصبب من جبينه وتوجه إلينا راكضا والإبتسامة تغطي وجهه. تعانقنا ونظرت إليه وكأنني أرى أمامي والده رحمه الله. فرش حطته على الأرض ودعاني للجلوس وقال ضاحكا: " حتى لا توسخ بنطلونك يا مدني". سألته متعجبا: " هل تزرع البستان من جديد؟ ولم أنتظر إجابته فأضفت: سيقطعونها لك من جديد يا رجل". نظر إلي بتحدي وقال إن قطعوها سأزرعها من جديد. ثم نظر إلى المستوطنه وصاح بأعلى صوته: إقطعوها يا أولاد الكلب وسأزرعها من جديد".
كان الصمت والسكون يعم المستوطنة كأنما كانت فارغة من السكان وكان بين الحين والاخر يسمع أصوات خافتة بعيدة. قال فوزي: هم يعيشون هنا ولكنهم يعملون في إسرائيل، إننا نسمع أصواتهم في المساء وفي الليل فقط. رآني أهز راسي عجبا وأنا أنظر إلى أشتال الزيتون فقال لي بجدية : " يا إبن عمي، راح يجي يوم ينقلعوا فيه من أرضنا ويرحلوا عن بلدنا مثل ما إنقلع غيرهم وسيبقى الزيتون".
بعد أن شربنا الشاي بالنعناع المغلي على نار من حطب الزيتون وبعد أن وعدته بأن أحض في اليوم التالي للغداء عنده تركناه وغدرنا راجعين. تركت صديقي في قريتنا واتجهت نحو نابلس ولا تزال كلمات فوزي ترن في أذني: " سينقلعون يوما من أرضنا وسيغادرون بلدنا كما فعل غيرهم من الغزاة وسيبقى الزيتون". في تلك اللحظة عرفت أن غصن الزيتون لا يدل في بلادنا على السلام فقط وإنما على التحدي والمقاومة.
د. نضال الصالح








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سكرين شوت | الـAI في الإنتاج الموسيقي والقانون: تنظيم وتوازن


.. سلمى أبو ضيف قلدت نفسها في التمثيل مع منى الشاذلي .. شوفوا ع




.. سكرين شوت | الترند الذي يسبب انقساماً في مصر: استخدام أصوات


.. الشاعر أحمد حسن راؤول:عمرو مصطفى هو سبب شهرتى.. منتظر أتعاو




.. الموزع الموسيقى أسامة الهندى: فخور بتعاونى مع الهضبة في 60 أ