الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفصل 14 من رواية الإنتفاضة العشيقة الزوجة ..

حبيب هنا

2009 / 9 / 28
الادب والفن


14

انقطعت عني أخبار " غادة " عندما تزوجت رجلاً لم أره قط ، وبدا من المستحيل التعرف عليه في ظل عدم معرفة المكان الذي استقرت فيه ، والأكثر استحالة ، استبعاد تكوين فكرة كاملة عنه مادام مجهولاً للآخرين .. وتساءلت مرات لا حصر لها : لماذا أخفيت نفسك عنا ولم نسمع عنك إلاّ عندما ارتبط اسمك بغادة ؟ كيف ظهرت فجأة فاحتللت الموقع الأكثر أهمية في قلب "غادة " مما دفعها لتفضيلك عليّ وهي تعي أنك مهما بالغت في حبها لن تستطيع تقمص لحظة عشق واحدة عشناها سويا ، أسمعتها خلالها أعذب الكلمات وأرقها ، وربما تفني عمرها كله دون سماع كلمات لها من الخصوصية و التميز ما يجعلها متجانسة مع الموسيقى والإيقاع وصلة التماس بين الوتر والمشاعر ..
ولما عادت ، فجأة ، لم أكن على صله بكل صيغ الفعل المستقبلي ، ذلك أنني جئت إلى هذه الدنيا محكوماً بانتمائي فحافظت عليه وصنته من العبث والضياع ودافعت عنه سنوات طويلة ، خسرت خلالها أجمل لحظات العمر ، ولكنني ربحت شرف بقائي منتصباً تحت ظل العلم لا يشكك أحد في طبيعة العلاقة التي ربطتني "بغادة " في أكثر الأوقات خطراً. وكان حجم المفاجأة أكبر من أن أستوعبه سريعاً …
في البدء ، اعتبرته نزوة سرعان ما نصحو منها ونعود إلى صوابنا ، غير أن الأمر كان أعقد مما تصورت ، ومقدار ما أصابنا من الكارثة يصعب تصوره في الظروف العادية ، ومع ذلك ، كان لا بد من التعاطي مع ما حدث بغية الإفلات من كماشة المؤامرة التي استهدفت القضاء على طموحنا وتدمير أرواحنا بعد أن يتم تدجينها في أقفاص لا تنتج سوى أفكاراً مشوهة في أعقاب الهزائم النفسية التي من شأنها مصادرة كل أمل طموح ..
ورأيت " غادة " .. نعم ، رأيتها ، تدخل بوابة من الاستحالة بمكان المرور منها منتصبة ، ولكن ، لا أعرف لماذا أشحت وجهي عنها في تلك اللحظة بالذات ، قبل أن تتقابل عيوننا ، في وقت كنت فيه فيما مضى أنتظر مثل هذه اللحظة كي أفتح ذراعي حتى تلقي بنفسها في أحضاني مطمئنة لمستقبلها دون هاجس الخوف الذي يحط على الصدر فيحيل السعادة إلى كابوس .. مضيت دون النظر إلى الخلف ، ولم أعرف أين حطت رحالها ، ولم ينتبني شعور بوجوب البحث عنها كما كان في السابق عندما كانت تتأخر عن لقائي .. ومثل رجل عجوز في آخر أيام عمره ، يرفض التسليم بأن الوزن يساوي الحجم مضروباً بالكثافة ، تكثفت في عقلي فكرة زحفت بطيئة مثقلة بالهموم : "إذا تغيرت فأنا إذن لست ذلك الشخص الذي كان ، وإذا اختلفت عن ذي قبل فمن الواضح أنه ليس لي معارف " .. ولم أتعرف عليها إلاّ مجبراً عندما قابلتها في حضرة العديد من المعارف السابقين بعد أن مدت يدها تسلم عليّ أسوة بالآخرين ، وعلى شفتيها ظل ابتسامة حزينة .. سرت الرجفة في كياني بعد أن تلامست الأيدي ، غير أنها توقفت عندما شرعت بالحديث فقلت :
- " غادة " ، بلحمها ودمها وبذكريات السنوات الماضية ، تنتصب أمامي كما لو أنها لم تفارقنا لحظة .. في عينيها قلق مخيف ، وجسدها ناحل كما لو أنه تآكل ندماً على الفراق وتبكيت لضمير فضّل رجلاً آخر عليّ … !!
آه .. لم أكن أتوقع أن أرى هذه اللحظة !
انسلت من بين الحضور ، وهي قابضة على يدي كي أتبعها ، وعندما تنحينا جانباً ، بعيداً عن مسامع الآخرين ، نظرت في عيني وبقايا دمعة حبيسة في عينيها ممزوجة بالعتاب ، عندها ، كاد قلبي أن يخفق لولا أنها قالت قبل أن تغزو كياني موجة المشاعر التي كانت بيننا :
- ألم تقل أنك ستصبحين زوجة لي بعد إنجاب الطفلة وبعد أن تفترقي عن زوجك ؟ لقد حدث كل ما قرأته في كفي دون نقصان !
وبلا وعي انطلق لساني فقلت :
- كأن السنين لم تحفر أيامها على صفحة وجهك ! .. صحيح أن نحولاً ملحوظاً أصاب جسدك ، ولكن وجهك لم يصب بأذى ، حافظ على نضارته آملاً في إعادة ترميم موقفك مني ..
صمت لحظة ، ثم سألت على غير توقع :
- ماذا أسميت الطفلة ؟
- أنسيت ماذا سميتها عندما قرأت الكف !
- إذن فهي " سهام " ..
- تماماً !
نظرت في عينيها ، فإذا بنظرة خائفة على جسد هشمته الغربة تطل منهما وكأنهما تقولان : أنا أيضاً لي أسرار يحول دون الكشف عنها ، رغبة صادقة في البكاء ، لا على " سهام " التي تركتها هناك الآن ، كما تركتك هنا عندما غادرت المكان ، بل على فقدان مفتاح خزائن القلب الذي ظل مغلقاً منذ اللحظة التي تركتك فيها وذهبت ، ولا أعرف ، هل يمكن لي العثور عليه ونحن في سيرة الوجع الذي يداهمني بوحشية ، في جيوبك أو في سلسلة ذهبية تحاصر عنقك كما لو أنها بانتظار يدي كي تفك وثاقها !
نظرت إلى عينيها مجدداً ، فوجدتها تنظر إليّ ، وتقاطعت النظرات ، غير أنني هربت منها بالسؤال الذي لا أعرف كيف فاجأني :
- لماذا تركت " سهام " هناك ؟
وقبل أن ترد عليّ واصلت :
ألئن " كنعان " ينتظرها ؟
وخيم الصمت زمناً لا ترقى له ذاكرتي الآن ، ولم يحطمه سوى الرذاذ المتطاير عندما اصطدمت الدموع بأزرار قميصها المورد ذي الخطوط الصفراء والسوداء الطولية الشكل .. نظرت إليها فرأيت بقايا ابتسامة مسجاة على شفتيها بانتظار إعلان حالة الوفاة ..
عندها ، طفت معها فوق أمواج المغامرة ، داعبت شفتيها وأعدت لهما الحياة ، وتذكرنا معظم الأماكن التي ترددنا عليها إبان أيام العشق الأولى .. لحظات مرت علينا مفعمة بالروح الجموحة ولكنها تفتقر الاشتعال ، فيها جففت دموعاً تساقطت فأخذت معها آخر بريق عيون عادت به إلى الوطن بعدما تركته وهو في أمس الحاجة إليها ..
وأطبق الكون على صدري ، وأنبت نفسي كثيراً ! .. ربما كنت أحمقاً عندما انسحبت من حياتها وسمحت لرجل آخر أن يحتل مكاني ! وشعرت بضيق يكاد يقضي عليّ .. ولما هممت بالذهاب ، استوقفتني قائلة :
- عندما عدت إلى هنـا ، سمـعت بعض من يتحصنون بمواقف
"الباهر" يقولون : إنه أفضل من دافع عن الوطن ، وأخلصهم انتماءاً ، وأقدرهم على تحقيق النصر المطلوب ، وهو أحسن من تطوع لهذا الغرض ، وأعمق تجربة وأنقى سلوكاً .
وكان لهذا القول الموقع الحسن على مسامعي وصوغ فعلي المستقبلي !
حملت أشيائي متخفياً وراء جدار الوقت .. بدأت أنسج الحكايات المختبئة خلف سحب سوداء كثيفة منبعثة من غليون القدامى وسجائر الحاضرين .. طوعت مفردات اللغة ومضغتها ما بين الأسنان واللسان ثم بصقتها في وجه المستقبل .. علقت في الهواء وأخذت تتساقط في كل ليلة حرف ، وعند الليلة الأخيرة طار حرف " اللام" مع الريح ولم يسقط حتى هذه اللحظة .. ابتعدت عني بضع خطوات ، قلت في سري وأنا أنظر إليها : خذيني معك إلى ما وراء الطبيعة كي أرى بدايات التشكيل أو الفناء ، لا فرق بين الغرق في بحر الدموع أو بين طبقات الموج حين يعود البحر إلى هياجه ، أو نعود نحن إلى الاختفاء في سراديب الخوف الذي طال الاختباء فيها قبل أن ننفض عن أنفسنا غبار الوجع وبقايا من ذكريات أشعلت فينا حب العطاء والمغامرة ..
تقدمت إلى الأمام عدة خطوات في محاولة لاستكمال الدائرة التي بدأتها .. استدارت نحوي تنظر إليّ كأنها تعيد إنتاج تمنعها من جديد ، فبدت لوهلة عصية على الامتلاك كما كانت قبلاً .
عندها ، تقدمت نحوها خطوة فقط ، بطيئة مثقلة بالهموم لا تقوى على الاستمرار ، الأمر الذي دفعها إلى العودة مسرعة وهي تخرج من جيب معطفها قطعة قماش بيضاء مطرزة بالحناء وشقائق النعمان من أجل أن أقوى على الصمود وكأن فيها سر قوتي ، ولكني كنت قد انهرت من الداخل .. وتلقفتني بين ذراعيها قبل أن أسقط على الأرض ! .
ولما التقطت أنفاسي بين أحضانها ، سألت :
- لماذا عدت بعد أن أوشكت على نسيانك ؟
- أنت لم تنسني لحظة واحدة !
- ولكن كدت أسقط على الأرض لولا أنك أسرعت إلى فرد ذراعيك واحتضاني .
- أنا أولى بك من الأرض ..
- لمَِ لم تتركيني أسقط ؟
- وهل الوقت يكفينا للنهوض دائماً بعد السقوط ؟ !
- لو لم تنتصب أمامي مثل العذاب ، لما أوشكت على السقوط .. !!
- ولكني احتضنتك قبل أن تسقط ، ومع ذلك ، لم أجــد من
يحتضنني عندما كنت تنتصب في مخيلتي حزناً مفجعاً لا يخفف من وطأته سوى عزف سهام على أوتار اللعب فيأتي الصوت متناغماً مع نفحات الفجر وملوحة البحر ..
صمتت ، فصمت مثلها ، وكأننا ننتظر انعكاس صورة كل منا في أعين الآخر ، ثم قلت فجأة :
- أتذكرين " الباهر " ؟
- نعم ، أذكره ..
- منذ غبتِ عن عيني بعد أن انتقلتِ إلى أحضان رجل غيري ، لم أره . فهل تعرفين أين هو الآن ؟
- لا ، لا أعرف .. ولكن ، لماذا تسأل عنه في هذه اللحظة بالذات ؟
- اشتقت إليه ..
- لا ، ليس لهذا السبب تسأل عنه !
- بالإضافة إليه ، لأنه عودني على الظهور في حياتي عندما يستعصي عليّ فهم ما يجري ..
- ولكنه قريباً سيظهر .
- متى ؟ !!
- عندما يلتقي " كنعان " " بسهام " !
- كيف ذلك ؟
- حزنه على فراقنا لا يعوضه سوى لقاء الصغار ..
- وأين "سهام " الآن ؟
- اليوم السبت ، موعد اللقاء الأول من كل أسبوع . في اللقاء الثاني يوم الأربعاء ستكون معي . احضر "كنعان " معك كي يتقابلا ..
ذهب عقلي إلى الكلمات التي كنا نتقاذفها من شفاهنا ، يبحث بين مفرداتها عما بقيت منها صالحة لاستخدام الصغار عند لقائهم تحت ظلال الأشجار . وكانت كل شجون الماضي قد طفت على سطح اللحظة التي ما فتئت تؤكد حضورها ، فأحالت الذكريات إلى وقائع يصعب عليّ التعايش معها بعد كل هذه العواصف ..
نظرت إليها ثم قلت :
- دعيني أمضي الآن ، حتى أتمكن من صياغة برنامج اللقاء ، يوم الأربعاء .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. محمد محمود: فيلم «بنقدر ظروفك» له رسالة للمجتمع.. وأحمد الفي


.. الممثلة كايت بلانشيت تظهر بفستان يحمل ألوان العلم الفلسطيني




.. فريق الرئيس الأميركي السابق الانتخابي يعلن مقاضاة صناع فيلم


.. الممثلة الأسترالية كايت بلانشيت تظهر بفستان يتزين بألوان الع




.. هام لأولياء الأمور .. لأول مرة تدريس اللغة الثانية بالإعدادي