الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أدونيس و البحر و قصابين ...

حنان عارف

2009 / 9 / 28
الادب والفن


لم أحصِ الثواني التي بدت ساعات و قروناً مرت سريعاً عندما صافحني من أعلى درجات سلم منزله القليلة , سحبت يدي منه مودعة أصر على مرافقتنا حتى الباب الخارجي للقصر المتواضع مثل صاحبه و لكن إصرارنا كان اشد فاكتفى بالتلويح لنا طالبا من ابن أخته مرافقتنا للخارج .
ُأغلق الباب على أمسية جميلة كانت هنا في ذاك المساء الصيفي الغير مخطط له
ُفتحت أبواب السيارة و ُأغلقت بحركة سريعة لتفتح الأفواه و كلٌ يستعرض نصيبه من تلك الزيارة...
عدنا أدراجنا سالكين الدرب الطويل الذي أتى بنا و الذي بدا في طريق العودة قصيرا جدا , عدنا و عاد معنا ذلك الزائر الذي تركناه كامنا في عزلته .
ثرثرات ثرثرات ملأت مقاعد السيارة ,خرجت من نوافذها, لتملأ الطرقات ,المارة , الأفواه و العقول .
أغمضت عيني محاولة استعادة كل كلمة و حركة جرت داخل ذلك المنزل , فتحت أذنيّ جيدا لأسمع من المتحدثين المتناقشين بأمور السهرة الودية علّي اسمع تفاصيل سقطت مني سهوا
ابتسامة ارتسمت على شفتي و راحة سرت داخلي, لماذا كنت متوترة قلقة قبل دخول عتبة المنزل حائرة مفكره بماذا أخاطبه : دكتور – أستاذ – سيدي – صديقي أم ببساطة أدونيس ؟؟؟
لماذا أربكني هدوءه, أصابني بالغرور تواضعه, دفعني للكلام صمته, أوقفني حديثه, جمدتني حركته, ضيعني حضوره...
نعم لقد كنت ضحيته دون أن يقصد, التقط انبهاري به, غابت كل الأسئلة الحاضرة دائما في فكري, توقفت الحروف على شفتي, لم تكن تنقصني الجرأة و لا المعرفة و لكني فضلتُ مرغمة عدم الحديث.
لأتأمل ذلك الجالس أمامي الإشكالي المشاغب, " الثابت المتحول", ركزت على تفاصيله, راقبت حركاته الإبداعية....
يده ممسكة بالكأس و قدمه اليسرى تستريح على حساب الأخرى, و عيناه غائبتان في الفضاء أدهشتني نظراته التي بدت و كأنها حلقت بعيدا دارت حول الأفق لفت السماء لتتوسط على مهل بين النجوم المضيئة فكان "كورّاق يبيع كتب النجوم".
هبت ريح خفيفة داعبت خصلات شعره و شعوري و انتظرتُ" أوراق في الريح" تحمل أشعاره تهبط لتستقر بين يديه يلقيها على مسمعي من فمه إلى أذنيّ مباشرة, و لكن تباعدت شفتاه لتعاود الترحيب بنا و تكون "فاتحة لنهايات قرن" من الصمت و بدأ ما انتظرته كثيرا بداية الكلام "كلام البدايات" كلام في الدين و السياسة والأدب والفكر والمجتمع و الثقافة تلك التي أكد أدونيس مجددا أنها يجب أن تكون منارة لا مرآة متسائلا :أين هي الثقافة الآن لقد انتهت وأصبحت مجرد وظيفة ووزارة الثقافة كباقي الوزارات في كل البلدان العربية.. ودعانا أدونيس للتأمل في مسألة تراجع الثقافة والتناقض العميق فيها والحكم ليس على الفرد بل على الكل .
سادت لحظات من الصمت تمنيت فيها أن اكسره لأواجه أدونيس و أصرخ: من أنت أدونيس؟ و إلى أين؟ و إلى متى؟
وكأنه قرأ أفكاري فأخذ يتحدث عن حالة صراع داخلي حول هويته و كعادته يشكك و يجادل و يشاكس و هنا تذكرتُ حين قال في أمسية شعرية له في مرمريتا قبل فترة زمنية قصيرة "... هل أنا كهوية جاهز ومصنوع مسبقاً وأعيش لتحقيق هذه الهوية المسبقة التي لم أشترك في صنعها، أم أنا على العكس أبتكر هويتي باستمرار ؟... " و الإنسان عند أدونيس كائن يبتكر نفسه وهويته ومعناه وذاته إلى ما لا نهاية ثم ختم كلامه فجأة بنظرة رمقني بها و كأنه يقول لي "هذا هو اسمي....".
بعد ذلك أخذنا الحديث بعيدا تركنا الثقافة العربية المحتضرة , الحرية و الأحرار , العلمانية المتراجعة , التدين المؤسس , و ارتفعنا نحو السماء متحدثين عن الله و الأنبياء كنا كمن يسبح في الفضاء حولنا الشعر و الفكر و الأدب تقفز على الغيوم تتقد كالنجوم تتراقص مع الهواء و كأننا شكلنا جميعا "فهرساً لأعمال الريح".
عدنا إلى الجاهلية عشنا مع الوثنية زرنا اللات و العزة " اللات مؤنث الله ... كما قال أدونيس ". ثم هبطنا فجأة إلى الأرض من جديد وصلنا سالمين بعونه تعالى... بعونـــ ـه الهاء هنا أثير الجدل من جديد و طرح السؤال على من تعود هذه الهاء يا أدونيس !
ضحك كثيرا و قال: تعود عليه هو؟؟
من هو يا أدونيس ؟؟ قال: أنه هو ... بالنسبة لك و لي و لها و له و لكم و بغض النظر عن من هو ؟ و لكن لابد أن تعود الهاء على احد ما , شيئا ما , عظيما ما , و إلا وقعنا في إشكالية كبيرة ,كل منا يحتاج إلى شيء ليسند إليه هذه الهاء و يُرجع إليه كل ما يحدث له في حياته و إلا وقع في مشكلة كبيرة وقع في الضياع " الضياع الضياعْ ...الضياع يخلصنا ويقود خطانا ..والضياع ألقٌ وسواه القناع " .
مبينا هذا الاختلاف الكبير الحاصل حاليا بين الهاءات الموجودة و على كثرتها .
لعل كل واحد اختار له هاء معينة لم يشترها جاهزة من صيدلية أو سوبر ماركت بل قام بتفصيلها على مقاسه واضعا لها الألوان التي يحبها محددا حجمها -وزنها , ما تكره - ما تحب , محللا - محرماً , و بعد أن تجهز يعبدها لأنه يشبهها أو تشبهه لا فرق .
هدأت الملامح المتشنجة , دارت عقارب الساعة , انتقل بنا الوقت للحديث عن الشعر و الحب و الغزل عن الفن و الأدب و عن مكانة النحت و الرسم الكبيرة عند أدونيس , و كأن الزمان و المكان قد تغير فكان "وقت بين الرماد و الورد" و هنا قام أدونيس ليملئ كؤوس الويسكي الفارغة رافعاً كأسه لنشرب " احتفاءً بالأشياء الغامضة الواضحة" على " موسيقى الحوت الأزرق " .
سألته عن كتاباته الحالية فاخبرني الشعر ثم الشعر ...
" ها أنت أيها الوقت " تنتهي, دقت ساعة الرحيل سريعا عانقته مودعة, و ابتسامة بريئة ترتسم على شفتيه فكرت أن أطلب منه أن يكون أبي ... الروحي لكنني لم أفعل !
هز رأسه موافقا و كأنه عرف ما يدور داخل رأسي , ربّت على كتفي بيد حنونة قرأتُ بين خطوطها تجارب و أسفارا , أشعارا و أفكارا , أقوالا و أفعالا , حياة و موتا , خلودا و فناء , خطيئة و طهارة , كبرياء و تواضعا , ألما و سعادة , شيخوخة و شبابا ...
شكر لنا الزيارة تلك الزيارة التي اختصرتُ بها رحلتي, نزلت درجات السلم تركته واقفا وحيدا بين أقربائه لم أر سواه وحيداً, منفرداً, متفرداً, مفرداً بصيغة الجمع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أدونيس يستحق
نور ( 2009 / 9 / 28 - 23:37 )
أدونيس يستحق ماوصفته به السيدة حنان وأنا أحسدها على هذه الزيارة في قرية قصابين وأقول لها بارك الله بك


2 - إمام
هوزان أمير ( 2009 / 9 / 29 - 08:23 )
تشبه زيارةً لنبي : الحالة القدسية ..ارتعاد المريد أما الإمام ...صعود الأرواح في السديم الصوفي


3 - إمام
هوزان أمير ( 2009 / 9 / 29 - 08:23 )
تشبه زيارةً لنبي : الحالة القدسية ..ارتعاد المريد أما الإمام ...صعود الأرواح في السديم الصوفي

اخر الافلام

.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش


.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان




.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي


.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح




.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص