الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ويسألونك عن نوري حمودي القيسي ؟!

رباح آل جعفر

2009 / 10 / 1
الادب والفن


كان من حق الأديب الكبير الراحل الدكتور نوري حمودي القيسي أن تمشي في موكب تشييعه وخلفه تلك الألوف كلها من أساتذة ، وطلاب ، ومثقفين ، وأصدقاء ، وهم يمدّون أصابعهم للمس جنازته وداعاً ، ورجاءً ، ومحبة ، وكل منهم لا يريد أن يفسح مجالاً لغيره من المتلهفين لحملها عنهم على رؤوس البنان ، أو فوق نياط القلوب .
وكان من حقه علينا أن تتدفق بحوراً حول جثمانه تلك الحشود الهائلة التي خرجت من مجمع الكليات في الباب المعظم حيث استودعته الثرى في مراسيم عزاء مهيب ، فذلك وحده ما يليق بوداع رجل عاش حياته ممتدّة عبر (62) سنة ومات في رحاب الكلمة ، وأسلم الروح في عمادة كلية الآداب وغادر عالمنا إلى الملكوت ، وهو الرجل الذي أصدر نحو (133) كتاباً في التحقيق والدراسات والأدب ، وكتب المئات من البحوث والمقالات في الصحف والمجلات والدوريات ، وأشرف على أكثر من (50) رسالة ماجستير وأطروحة دكتوراه ، وشارك في العشرات من المؤتمرات عربياً وعالمياً ، وكان عضواً بارزاً في أكثر من مجمع علمي في العراق والأردن والهند ، لذلك لم يكن مشهد الجنازة يوم 1/11/1994 سوى إيحاء بالصوت والصورة معا على أن الجسد المسجّى في داخلها له هيبة ، وكبرياء ، وجلال ، ووقار .
عرفت أبا سعد امرءاً مولعاً بالحسن يتبعه وليس له منه إلا لذة النظر على حدّ قول عمر بن أبي ربيعة في بيت الشعر المشهور ، وهو من الفئة القليلة التي تركت ملذات الحياة وجلست في محراب الثقافة والكتب .. عرفته إنساناً محافظاً في معيشته الشخصية ، يمارس أبوته كأعظم ما تكون الأبوة ، ورأيته ذات يوم يصمّم بنفسه بطاقة المهر الخاصة بابنته ( هدى ) ، ويكتب لها الدعوة على شكل مقطوعة شعرية من نظمه ، عرفته محباً للنكتة ، هاوياً للمقام العراقي ، يعرف أصوله وأنواعه ، وكان يسمع أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب في بعض الأحيان ، محباً للسفر وزيارة المتاحف والمكتبات وجمع المخطوطات ، تستهويه رياضة كرة الطائرة ويمارسها إذا كان لديه وقت ، لازم أخاه الخطاط الكبير هاشم البغدادي ومنه تعلم الخط العربي وفنونه وأساليبه ، وله خط أنيق وجميل ، وعلى الرغم من ذلك فإنه كان لا يرسل مقالته إلى الصحف إلا مطبوعة على الآلة الكاتبة قبل أن يعرف العراق جهاز الحاسوب ، وكان صمته ابلغ أحياناً من كلامه ، وكنت أسمعه ، دائماً ، يردد قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الكلمة الطيبة صدقة ) ، فأثمرت الكلمات الطيبات للراحل نوري حمودي القيسي وآتت أكلها بأهل وأصدقاء وتلاميذ يدعون له بالرحمة والمغفرة والرضوان وجنة عرضها السموات والأرض .
كان مكتبه ( عمادة كلية الآداب بجامعة بغداد ) مشاعاً لمن يجلس ، وليس من المبالغة أن أقول : إن نوري حمودي القيسي كان يفتح باب قلبه قبل أن يفتح باب مكتبه ، وهكذا عرفته أديباً مبدعاً يشار له بالبنان : حرفاً وقصيداً ، مشهداً ونغماً ، لوناً وظلاً ، مثلما عرفته مربياً فاضلاً ومقوماً من الشطط والاعوجاج ، وإنساناً فذاً ، وتبراً في تراب ، ورقيقاً كخيط الحرير ، وأخلاقاً حميدة كأخلاق النخلة ، سلسلة من المعارف الإنسانية تجلّت في سلسلة من المواهب الروحية .. وهو رند وورد ، وأحد أبناء جيل اقتحموا الغابة وقلبوا الموازين ، وكان يصارع نفسه وتأريخه ممسكاً في يده بأفتك أسلحة التراث ، إلى حيث تحمله جياده ومدافعه .
وإذا كان ( في العراق جوع ) ، كما يقول السياب في رائعته ( انشودة المطر ) ، وكان السيد المسيح هو القائل : ( اذهب وبع ما تملكه وأعطه للفقراء ) ، فلعلّي اكشف سراً للمرة الأولى لا يعرفه الآخرون عن الراحل العزيز ، فلقد كلّفني يوماً أن آتي له بقائمة تضم أسماء عدد من الطلاب المعوزين من الأسر الفقيرة في كلية الآداب ، وعندما سألته عن السبب ، قال : إن الله سبحانه أكرمه من فضله وأحسن إليه ، وأنه يريد أن يخصّص لهم رواتب شهرية ، وتطوعت للمهمة بحماس الشباب ، واشهد أن القيسي حتى رحل من عالمنا إلى ملكوت السماء ، فانه ظل يصرف لهم راتباً كلّ شهر ، وأحيانا يزيد على الراتب بما يكفيهم أن يشتروا به ( الزي الموحد ) ويدفعوا إيجار سكنهم وطعامهم .
في الأيام الأخيرة من حياته أصبحت لقاءاتنا شحيحة وخاطفة ، ولم نكد نجد الوقت الكافي لأحاديث طويلة نتبادل فيها الآراء والأفكار والأشواق ، سوى بعض الزيارات العابرة ، وكنت أجد في صداقتنا متنفساً ما ، أو شيئاً من متنفس عن معاناة يضيق بها صدري فأهرع شوقاً إليه ، وكان بدوره سعيداً بهذا الشوق ، كانت صداقتنا ممتعة وأيامنا خصبة خضراء ، وكان هناك من يريد أن يفسدها وقد أصبحت حميمة تجاوزت الثقة والإحترام المتبادلين ، وكنت فيما أظن من اقرب تلاميذه إليه ، ومرّت أيام كنت اشدّ ملازمة له من ظلّه ، كان كلانا مشدوداً إلى الآخر ، والحوار دائر بيننا لا ينقطع ، والذكريات أعمق من أن تمحى ، برغم اختلاف التجارب ، وفارق العمر ، وتباعد السنين ، وهي صداقة يندر أن تجد مثلها هذه الأيام بين أستاذ وتلميذه بالمعنى الحقيقي للصداقة .
ولقد استبدت بي الدهشة آخر مرة زرته ، وسمعت منه ما كان يوحي أنه بدأ يدرك نهايته ، وكان يقرأ بصوت متهدج شعراً كأنه الرثاء ، يقول : ( واليوم أصبحنا كباراً أيها الزورق .. وامتدت الآفاق حتى آخر الدنيا .. وامتد نهر الشيب في الصدغين والمفرق ) ، وقلت له : كلّ ميّسر لما خلق له ، وقال لي : هذا الشعر نبّهني أن الزمن يمرّ سريعاً ، ثمّ أخذني في سيارته متجهاً نحو المجمع العلمي العراقي ، وفي الطريق مازحته بقولي : إني سألت الدكتور علي الوردي ، ذات يوم ، عن هذا المجمع ، وكنّا نمرّ من نفس هذا المكان ، فكان جوابه : انه يفضّل السكوت ، فماذا تفضّل أنت ؟!.. وردّ عليّ مبتسماً : أنه يفضّل ألا يذهب إليه بصحبتي ، وأن نختار أحد المطاعم القريبة منه ، ونختار طبقاً شهياً للغداء !.
وقال لي كلاماً .. وقلت له كلاماً ، وقمنا وانصرفنا كلّ في طريق ، وذهب هو لرؤية الأستاذ هلال ناجي ، وعدت أنا إلى البيت .. ولم أر نوري حمودي القيسي كما رأيته وسمعته في هذا اللقاء ، ومن سوء الحظ ، كان ذلك آخر لقاء !!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها بالجيزة


.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها




.. الممثلة ستورمي دانييلز تدعو إلى تحويل ترمب لـ-كيس ملاكمة-


.. عاجل.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق




.. لطلاب الثانوية العامة.. المراجعة النهائية لمادة اللغة الإسبا