الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شاكر حسن آل سعيد .. تشكيلياً على الطريقة الصوفية

رباح آل جعفر

2009 / 10 / 3
الادب والفن


في الصفحات الأولى من ملحمة ( الإلياذة ) ، نقرأ الشاعر الأعمى هوميروس ، يتحدث عن البطل ، فيقول : ( إنما راح وصارع وتعذّب وانتصر ، وسجّل ما رأى ليعود ، ويقول للناس ، شيئاً جديداً ، مثيراً ، وممتعاً !! ) ، ويكاد وصف هوميروس ينطبق بالتمام على الفنان التشكيلي الكبير الخالد شاكر حسن آل سعيد ، الذي اختار الفن منذ بداياته الأولى ، وضحّى بقيم كثيرة من أجله ، وتجوّل في عديد من بلدان العالم ( ألمانيا ، إنكلترا ، بلجيكا ، الهند ، فنزويلا ) ، وعاش في فرنسا وحدها أربع سنين ، ثم عاد ليحطّ رحاله في بلاد الرافدين ، كما يحط عصفور على سنبلة قمح ، ومارس التعليم بحكم اختصاصه المهني ، وأتقنه ( يشهد له تلاميذه ) ، وتمرّس بالكتابة ، نقداً وتأليفاً ، وتجوّل بين القوارير ، وزجاجات الألوان ، والفراشي ، ليصنع للناس زهرة جميلة ، وشمساً ، وعافية .
وبرغم أسفاره إلى الأماكن البعيدة ، ورؤيته للجانب الآخر من الجبل ، والبحر ، والنهر ، وانفتاحاته على العالم ، واحتكاكه بحضارات الشعوب وآدابهم وفنونهم ، فإن نوعاً من الحنين ظلّ يشدّه إلى ( مقهى ياسين ) في شارع أبي نواس ببغداد ، قبل أن يدركها ( عصر الزوال ) ، وتبنى عمارة في مكانها ، ويحكم عليها بالهدم .. وكان شاكر آل سعيد مثل أي بغدادي عريق ، يقضي في هذه المقهى بعض الأمسيات الممتعة ، بشيء من اللهو البريء والترويح ، ويعتقد أنها بحق كانت ( العينّة ) الأساسية لمعنى ( الهوية ) عنده ، ويشعر معها بصداقة عميقة مع الأيام .. فهذه المقهى هي ( حجيرة ) دماغية في جسم بغداد العظيم ، تأخذ كلما التصق بها شكل الرحم !.
سألته يوماً عن أجمل صفحات ماضيه ، فأيقظ آل سعيد ذاكرته ، وأعادها إلى سنة 1934 ، يوم كان يسكن الكرخ من بغداد في سوق حمادة ، وبتلقائية قال لي : كنّا ونحن أطفال ، نمتطي الخيول في العيد ، ونذهب من سوق حمادة إلى منطقة قريبة من منطقة الشيخ معروف ، فيها أنواع من الألعاب ، وكان الناس يقفون على شكل حلقات ، ليدبكوا ( الجوبي ) ، وفي حلقات أخرى كنا نرى الحواة ، وهم يخرجون الأفاعي من جيوبهم !.
اقتربت منه في السنوات الأخيرة من حياته ، فوجدته مقبلاً على ربّه ، الناسك ، والزاهد ، والطوباوي ، ينتمي إلى مجتمع المتصوّفة ، والدراويش ، الذين يعشقون ويموتون عشقاً ، وكان يخال لمن يراه ، كأنه شيخ طريقة ، أو مريداً في تكية ، وإن لم ينقر مثلهما على الدفوف برؤوس الأصابع ، وقد حجّ بيت الله الحرام منذ سنة1968 ، يتواجد ويأخذه الشوق والمدد والحال مثل أي درويش ، ويدخل في ( خلوة ) عميقة ، على طريقة كبار الزهّاد .. وكان كثير القراءة في التصوّف والإشراق ، يقرأ كرامات للجنيد البغدادي ، وأسفاراً لأبي بكر الشبلي ، وآثاراً عن أبي يزيد البسطامي ، وشطحات ابن سبعين ، وكشوفات التلمساني ، وأحوال الشاذلي ، و( روح القدس ) و( ترجمان الأشواق ) و( الفتوحات المكّية ) لابن العربي ، و( منطق الطير ) للنيسابوري ، وديوان الحلاج ، الذي يقول فيه : ( أنا أهوى ومن أهوى أنا ) .. حتى عندما سألته إذا كان يستطيع أن يكتب في ( الرأي ) الصحيفة التي كنت أرأس تحريرها ذات يوم ، فإنه ، في البداية ، كان يطوي العرض بابتسامة مؤدبة ، ثمّ تفضّل عليّ وكتب مجموعة مقالات ، كانت اقرب إلى التهويمات منها إلى الواقعية ، وأشبه بمفاهيم ( الإتحاد ) و( الحلول ) و( الوحدة ) و( الفناء ) .. يشرح فيها اتحاد العاشق والمعشوق ، وكيف ينعجن جسد المحبّ بالمحبوب ، وترجع القمحة إلى أمها السنبلة ، ويعود النهر إلى البحر الكبير ؟!.
وشاكر حسن آل سعيد ، الفنان التشكيلي الكبير ، النابت كالنخلة في الصحراء ، يتعامل مع لوحاته ، كما يتعامل مع فراشة ضوئية ، إنها لوحات رائعات الرسوم ، مزيجة من صفاء الطلّ ، ومن بهاء النور ، رسمها في ساعة من ساعات التجلّي وأحسن رسمها ، وكان يحني رأسه أمام الجلال والجمال ، الذي يجده في الأرض وفي السماء ، ولقد استطاع آل سعيد تقديم النموذج الأم في الفن ، ويكفي أنه مؤسس ( تجمع البعد الرابع ) ، ومن مؤسسي مدرسة جواد سليم 1951 ، التي رسّخت قيمة التراث العراقي والعربي ، كناية عن ( مرحلة الانعتاق ) في الخمسينات والستينات من القرن العشرين ، وهو فنان تجريبي اختباري ، استهوته الفلسفة والإثنولوجيا ، وصقلت موهبته في ( التنظير ) الفني ، وقدرته على طروحات ، اعترض على بعضها عدد من الأدباء ، إنه يختصر الفنان الحقيقي بوصفه ، جامع الأسلحة الذي يموت دائماً ، بإنفجار أسلحته بين يديه !.
وما زلت اذكر خواطر للراحل آل سعيد ، سجّلتها في آخر لقاء ضمنا وكنت ضيفه بمنزله في حي الغدير ببغداد ، قبل عام ونيف من رحيله عن هذه الدنيا إلى العالم العلويّ ، لحظتها استمعت إليه وهو يقول : لن يفصل بين الفنان وسواه ، إلاّ جسر واه من ( معرفة الذات ) ، فلو كان العندليب يشعر بعذوبة تغريده ، لادعى كونه فنّاناً مثلي ، سواء بسواء .. ولو كان الماء ، أو الريح ، أو الحجارة تستطيع أن تتأمل جمالها ، لنافست حسناوات العالم في تأنقهنّ !.
ولم اتركه لخواطره ، وسألته ، من أنت ؟، وقال : لا أكاد اعرف من أنا ؟!، وإنّ لحظة تأمّل في ما خلق الله ، كفيلة بان تعيد تقويم أي كائن من كان لذاته ، وكأنّه كان مؤمناً بالله قبل أن يكون .. ثمّ تمتم بكلمات : أنا ذلك العبد الفقير إلى ربّه ، العبد الذي لن يبقى من بعده ، إلاّ العمل الصالح ، الذي سيستأنفه أبناؤه ، وهذا غاية ما أتمناه !.
كان شاكر حسن آل سعيد يومها موزّع النفس ، زائغ العينين ، مشوّش الأحاسيس ، وجهه كوجه فيلسوف من فلاسفة الإغريق ، وقد دخل خلوته وانقطاعه إلى الله والذات ، وكان يتمنّى أن يموت كما تموت حبة الحنطة في الأرض ، لتساعد على ولادة ألوف السنابل .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اضافات
عادل حسين ( 2009 / 10 / 3 - 10:19 )
ويكفي أنه مؤسس ( تجمع البعد الرابع ) ، ومن مؤسسي مدرسة جواد سليم 1951 ،التي رسّخت قيمة التراث العراقي والعربي...... (هذاالنص من السطورأعلاه).
السيد رباح ليس هناك في تاريخ الفن العراقي تجمع البعد الرابع وانما تجمع البعد الواحد وليس هناك مدرسة جواد سليم وانما جماعة بغداد للفن الحديث وبعد هذا عليك بمراجعة ذاكرتك جيدا حول لقاءك الأخير ( ان حدث هذا ) بالفنان الراحل والذي غادرهذه الحياة في الأردن وكما يقال الحر تكفيه الاشارة


2 - تشكيك عادل حسين أمر غريب عجيب
سلام الشماع/ البحرين ( 2009 / 10 / 3 - 12:50 )
أحسن والله ، رباح آل جعفر وأجاد في هذا الموضوع ، فقد كتب لنا قطعة أدبية رائعة عن الفنان شاكر حسن آل سعيد رحمه الله، الذي كان يحب الأدب ويذوب في الإبداع.
وال جعفر له بين الصحفيين العراقيين ميزات منها انه أخضع لغة الأدب إلى الصحافة فأصبح يكتب بنسق صحفي أدبي جميل لا يضاهيه فيه غيره، لكن من أهم ميزاته أنه كان يسعى سعيا إلى التعرف على الكبار في شتى المجالات حتى يجعلهم يسعون سعيا إليه لا يطيقون فراقه ، ويبدأ هو في استنطاقهم وسؤالهم والاستفسار منهم ويسجل ذلك كله في سجله الكبير حتى إذا ما قضى الواحد منهم عاد رباح إلى سجله واظهر للناس خفايا عن الراحلين.
وشاكر حسن آل سعيد كان دائم الزيارات للصحف والحديث مع محرريها لذلك استغربت اشد الاستغراب من تشكيك الأخ عادل حسين صاحب التعليق من إمكانية لقاء رباح بالراحل.
ثم هناك شيء آخر أود ذكره وهو: أن الأستاذ رباح آل جعفر لم يذكر في مقاله ولم يشر من قريب ولا من بعيد إلى مكان وفاة الفنان الراحل شاكر حسن آل سعيد لا في عمان ولا في غيرها من بلاد الله الواسعة.. والشيئ الآخر هو أنه ذكر في مقاله مدرسة جواد سليم دلالة على أستاذية هذا الفنان الكبير لهذه المدرسة ورياديته فيها، وهذا مفهوم لكل من تكفيه الاشارة.. أما الفنان شاكر حسن آل سعيد فقد كتب بعض مقال

اخر الافلام

.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة الخميس


.. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يساند غزة بأغنية -قاعة هند-




.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو